195

Falsafar Kimiyya a Karni na Ashirin

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Nau'ikan

من ناحية أخرى يطابق الوضعيون بين معنى القضية وأسلوب تحققها وصدقها، لكن التحقق نهائي ما دام واقعا، فهل يعني هذا أن الصدق نهائي وكل قضايا العلوم التجريبية يقينية؟! إنهم أول من يرفض هذا، ومع ذلك جعلوا التحقق منهجا لتمييز الكلمات أيضا فيما يعني تأويلا عدديا لمعنى الكلمة بإحصاء الأشياء التجريبية التي تسميها الكلمة، وهذا يفضي بنا إلى لغة اسمية لا تناسب إطلاقا الأغراض العلمية! وينتهي بوبر إلى أن معيار التحقق لن يميز العلم، بل هو مكنسة تكنس الكثير كالنظريات البحتة والقوانين العلمية العمومية، وتكنس القليل لأن قضايا العلوم الزائفة كالتنجيم والفراسة يمكن الزعم بأساليب للتحقق منها. وليس معيار القابلية للتأييد والاختبار أسعد حظا، بل هو أكثر غموضا والتباسا في موقعه من المعنى وتمييز العلم.

ويرى بوبر أن لغة العلم الموحد هي الأخرى لن تميز العلم ولن تستبعد الميتافيزيقا. الميتافيزيقيون يعلمون أن عباراتهم ليست تجريبية ولن يتخلوا عنها؛ لأنها لا تصاغ داخل لغة مناسبة للعلم التجريبي، فهناك لغات أخرى كثيرة يمكن أن تناسب الميتافيزيقا، بل وضع بوبر فرضا ميتافيزيقيا موغلا هو: توجد روح مشخصة عالمة بكل شيء وقادرة على كل شيء وحاضرة في كل مكان. وراح بوبر في تفاصيل منطقية مسهبة يوضح كيف يمكن التعبير عن هذا الفرض داخل لغة العلم الموحد! فضلا عن أن قيام هذه اللغة على حمل البروتوكول جعلها تقيم نسق العلم على خبرات ذاتية. وجمل البروتوكول في حقيقتها مخلف أثري وذكرى باقية من زعم النزعة الاستقرائية البائد بأن العلم يبدأ من وقائع تجريبية ثم تعميمها. وبالمثل لم يكن معيار التحقق إلا رد العبارة إلى معطياتها الاستقرائية، أما معيار القابلية للاختبار والتأييد، فلأنه حرص على الناحية الميثودولوجية، كان صريح الارتباط بالمنهج الاستقرائي مباشرة. وكما أوضح الفصل السابق، كانت فلسفة دائرة فيينا معالجة منطقية للنزعة الاستقرائية؛ ليبقى تبرير العلم على أساس ارتكازه على الوقائع التجريبية وخروجه منها.

وهنا نصل إلى حجر الزاوية ومفترق الطرق في فلسفة العلم، ولعل هجوم بوبر الضاري على الوضعية المنطقية انطلق من عزمه الأكيد على استئصال شأفة النزعة الاستقرائية من فلسفة العلم، وتلك هي معركة بوبر الكبرى حتى لو أردنا تلخيص فلسفته التجريبية في كلمة واحدة لكانت: ضد الاستقراء أو اللااستقراء، فما من محاضرة يلقيها أو مقالة يكتبها وإلا ويؤكد فيها أن الاستقراء خرافة، لا هو يصف ما يفعله العلماء في الواقع ولا ما يجب أن يفعلوه ولا حتى ما يمكن أن يفعلوه؛ لأن البدء بالملاحظة الخالصة مستحيل ولن يفضي إلى شيء. ويدخل في مناقشات تفصيلية مسهبة ليوضح أن أيا من نظريات العلم يستحيل أن تكون قد انتشرت نتيجة للتعميمات الاستقرائية.

يقول بوبر: إن النزاع الضاري بينه وبين الاستقرائيين يتلخص في السؤال: ما الذي يأتي أولا الملاحظة «ح» أم الفرض «ض»؟ وهذا يشبه السؤال التقليدي: ما الذي أتى أولا الدجاجة «ح» أم البيضة «ض»؟ وبوبر يجيب على كلا السؤالين ب «ض»، نوع أولي بدائي من البيض، وأيضا نوع أولي بدائي من الفروض هي التوقعات الفطرية التي يولد الذهن مزودا بها لتمثل أولى تعاملات العقل مع العالم التجريبي. ويمتد إنكار دور الملاحظة الحسية في التوصل إلى الفرض أو القانون حتى أعمق الجذور.

طبعا بوبر فيلسوف تجريبي، لكنه لا يرى الذهن يولد صفحة بيضاء تخطها التجربة كما يدعي التجريبيون المتطرفون أمثال لوك وهيوم، ولا هو يرى الذهن يولد بأفكار فطرية كما يدعي المثاليون المتطرفون، لكنه يرى الذهن يولد مزودا بمجموعة من الاستعدادات السيكولوجية والنزعات والتوقعات الفطرية التي قد تتغير وتتعدل مع تطور الكائن الحي، ومنها النزوع إلى الحب والعطف وإلى مناظرة الحركات والأصوات، وأيضا إلى توقع الاطراد في الطبيعة. والاطرادات ليست نتيجة الخبرات المتكررة، بل لوحظت في الحيوانات والأطفال الحاجة إلى إشباع هذا التوقع بأي شكل، وإذا تحطمت بعض الاطرادات المتوقعة يؤدي هذا إلى الشقاء والحيرة وربما حافة الجنون. يستعين بوبر بأبحاث مواطنه ومعاصره كونراد لورنتس

K. Lorentz

في علم النفس الحيواني التي أجراها على البط والإوز، وخرج منها بأن الحيوانات تولد مزودة بآلية فطرية

inborn Mechanism

في القفز إلى نتائج وطيدة. مثلا، فرخ الإوز حديث الخروج من البيضة يتخذ أول شيء متحرك يراه على أنه أمه، وهذه آلية ملائمة في الظروف العادية، لكنها قد تكون خطيرة في بعض الظروف إذا كان هذا الشيء الكبير ثعلبا مثلا. والطفل حديث الولادة يتوقع أن يجد من يحبه ويحميه. كل كائن حي لديه توقعات أو نزوعات فطرية قد تكون متكيفة مع أحداث وشيكة الوقوع، إنها فطرية وسابقة زمانيا ومنطقيا على أي تعرف على البيئة أو تلقي خبرة حسية عن العالم التجريبي، وقد تكون خاطئة وخطيرة كما في حالة الثعلب، والوليد قد يهجر ويترك ليموت جوعا. التوقعات الفطرية ليست ذات صحة أولية، وهي قابلة للتعديل والتصحيح. أمثال هذه التوقعات هي نقطة البدء. فتكون أولى حلقات المعرفة التجريبية في العصر الحجري توقعا فطريا أخطأ في مواجهته للواقع التجريبي، فحاول الإنسان البدائي تصويبه بتوقع آخر، كانت له قصوراته ومشاكله، فتم تصويبه بفرض جديد، وهكذا دواليك وصولا إلى نسق العلم اليوم. ولا يكون ثمة استقراء لوقائع الحس من الطبيعة ثم تعميمها في أي مرحلة على وجه الإطلاق، الأسبقية دائما للكائن الحي وللعقل، فيمكن استئصال الاستقراء أو البدء بالملاحظة الخالصة من أعمق الجذور.

في نهايات الفصل الثالث طرحت إشكالية الفرض والملاحظة، وأوضحنا أن القرن العشرين استقر على أن الأسبقية للفرض، وكان هذا بفعل عدة عوامل أهمها تطورات البحث العلمي ذاته وجهود بوبر المستميتة في هذا الصدد.

Shafi da ba'a sani ba