193

Falsafar Kimiyya a Karni na Ashirin

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Nau'ikan

ليس معنى هذا أن بوبر لا يعتبر اللغة مهمة، إنها في نظره أخطر مكونات العالم الإنساني، لكن لا ينبغي أن تدور فلسفة اللغة في متاهات لفظية، بل يجب أن تعمل على شرح الوظائف الأربع الأساسية للغة ، وهي: الوظيفة التعبيرية بمعنى التعبير عن النفس، والوظيفة الإشارية والوظيفة الوصفية والوظيفة الجدلية بمعنى النقاشية. ويوضح بوبر أن اللغة - أيا كان مستواها - لن تكون لغة إلا إذا كانت قادرة على إثارة استجابة من كائن حي آخر. لغات الحيوان أو وسائل تواصله من رقص أو تلامس أو إصدار أصوات أو غيره، قادرة على أداء الوظيفتين التعبيرية والإشارية، ثم تتميز اللغة الإنسانية فقط بقدرتها على أداء الوظيفتين العليتين الوصفية والنقاشية. اللغة الإنسانية بوظائفها الأربع - لا سيما العليتين - هي علة خروجنا من مملكة الحيوان وعلة كوننا بشرا، فالوعي نتيجة لها. إننا ندين بعلمنا وحضارتنا للغة، فهي التي كفلت تواصل الأجيال واستئناف المسير. هكذا يعلي بوبر من قدر اللغة، بينما يحط من قدر الفلسفات اللغوية التحليلية المتطرفة التي عرضها الفصل السابق كالتحليل العلاجي وفلسفة اللغة الجارية في أكسفورد، ومن قبل ومن بعد الوضعية المنطقية، فلسفة العلم التي اقتصرت على التحليل المنطقي اللغوي وأرادت قصر الفلسفة عليه.

هذا هو الخلاف الأساسي بين بوبر والوضعية، إصراره على أن المشاكل اللغوية لم تكن أبدا مشكلة فلسفية، فضلا عن أن تكون المشكلة الفلسفية الوحيدة. يؤكد بوبر أن المشكلة الفلسفية الوحيدة هي عينها المشكلة العلمية الوحيدة: المشكلة الكوزمولوجية، أي مشكلة فهم العالم بما في ذلك نحن أنفسنا كجزء من العالم. العلم والفلسفة معا يساهمان في حل هذه المشكلة، وإنهما ليفقدان كل روعتهما وجاذبيتهما إذا ما تخليا عنها. قد يساعدنا فهم وظيفة اللغة على الحل، أما أن نحيل المشكلة بأسرها إلى متاهات لغوية فإن هذا مرفوض، ولا يمكن أبدا إحلال دراسة اللغة وأنساقها الاصطناعية الرمزية محل دراسة الإبستمولوجيا لنمو المعرفة العلمية وتطور محتواها. لقد أخطأ الوضعيون المنطقيون حين حددوا الفلسفة بمشكلة معينة واحدة هي المشكلة اللغوية.

وأخطئوا قبلا حين حددوا منهج الفلسفة بمنهج واحد لا سواه هو التحليل المنطقي. يرى بوبر أن التحليل إذا طرح أصلا لا يكون فقط للغة، بل تحليلا لموقف المشكلة العلمية بأسره وللمناقشات الدائرة حولها، ولا يمكن تكثيف ماهية الفلسفة وتعريفها بممارسة منهج محدد، وهي المتميزة عن العلم بأنها مبحث لا تقيده حدود قاطعة. كل المناهج الفلسفية مشروعة، طالما ستفضي إلى نتائج يمكن مناقشاتها ونقدها، وليس الذي يعنينا في الفلسفة هو المنهج أو الأساليب الفنية، تحليلية كانت أم تركيبية، بل الحساسية للمشكلات واستنفاد كل الجهد من أجل حلها.

يروم بوبر التعامل الديناميكي مع النظرية العلمية، أي البحث في صيرورتها: كيفية تقدمها وعوامل هذا التقدم ودرجته، تكريسا لمنطق التقدم. أما التحليل المنطقي فيتعامل مع النظرية بصفة استاتيكية: يحلل منطوقا معينا للنظرية أو تعريف مصطلح معين أو يحلل عبارة معينة من نسق يفترض أنه محدد، كل هذا تكريس لمنطق التبرير والتسويغ؛ لذلك يناصب بوبر التحليل المنطقي العداء، إنه يحلل ما هو كائن ولا يبحث عن الجديد، ولن يجدي في نمو المعرفة العلمية، ولن يصل بنا أبدا إلى أعتاب منطق الكشف والتقدم.

يرى بوبر أن هدف الإبستمولوجيا - سواء مثالية أو تجريبية - هو المساهمة في تقدم المعرفة. والفلسفة يحدوها دائما الأمل في أن تعرف أكثر عن المعرفة العلمية، حتى جاء الوضعيون المنطقيون ليفقدوها هذه النغمة الحلوة المتفائلة التي ألهمتها يوما بالتقليد العقلاني، فهم يقصرون مهمة تقدم العلم على العلماء وحدهم، ويعرفون الفلسفة بنفس الذي سوف تصبح عليه طالما ستنحصر في تحليل معاني اللغة ودراسة أنساقها، وتصبح بحكم التعريف غير قادرة على أدنى مساهمة في معرفتنا بالعالم إنهم يجعلون الفلسفة خواء وفراغا؛ إذ يجردونها من مشكلاتها أو يقصمون جذور هذه المشكلات، ويحترفون ممارسة منهج مستحدث كموضة، فتغدو الفلسفة معهم تطبيقات وممارسات وليست بحثا وطرح أفكار. والفلسفة ليست احترافا أو تخصصا، إنها انشغال ومعاناة.

إن بوبر يعادي التخصص الاحترافي المنغلق حتى في العلم، يقول: إن العظام من العلماء أمثال كبلر وجاليليو ونيوتن وآينشتين ونيلز بور، هم الرجال الذين يكرسون حياتهم بتواضع من أجل البحث عن الحقيقة ونمو المعرفة العلمية، وحياتهم هي أفكارهم الجريئة، يمكن أن نضم إليهم مساعديهم الأقل ألمعية، لكن لن ينضم إليهم أبدا أولئك الذين لا يعني العلم بالنسبة لهم أكثر من احتراف ومهنة فنية.

أما إذا كان التحليل من أجل هدفه المعروف وهو تحقيق الوضوح والدقة، فإن الوضوح في حد ذاته له قيمته العقلية الكبرى، أما الدقة فليست هكذا، إنها طبعا مرغوبة، دقة التنبؤ مثلا لها قيمة كبرى، لكن البحث عن الدقة - كما يؤكد بوبر - يكون فقط ذا طابع برجماتي، فلا نبحث عن الدقة فقط من أجل الدقة؛ لأن هذا إهدار للوقت والجهد في مسائل جانبية. ولم يعتد الفيزيائيون الدخول في مناقشات حول معاني المصطلحات التي يستخدمونها أو تعريفاتها، مثل الطاقة أو الضوء ... إنهم يعتمدون عليها وهي ليست محددة بدقة، ولم يعق هذا تقدم العلوم الطبيعية.

تردى الوضعيون في متاهات التحليل اللغوي والبحث عن الدقة بهدي رائدهم فتجنشتين الذي شبه الميتافيزيقيين بفراشة دخلت في زجاجة وأخذت تذهب هنا وهناك وتزن، وهو يزعم أن التحليل اللغوي سيوضح لهذه الفراشة طريق الخروج من الزجاجة لينتهي الزن الميتافيزيقي إلى الأبد. لكن بوبر يرى أن فتجنشتين هو الذي دخل الزجاجة وراح يزن ولم يستطع الخروج منها؛ لأنه نسي أن اللغة وسيط للتعبير، ربما هدف من تحليلاته إلى الوضوح، إلى تلميع النظارات اللغوية؛ كي يحظى برؤية واضحة للعالم، غير أنه أمضى العمر كله في هذا التلميع ولم يستفد منه، فاندفع في ممارسة التحليلات بطريقة مملة مللا عقيما ولا يطاق، شأنه في هذا شأن نجار أمضى العمر كله في صقل أدواته وشحذها ببعضها البعض وفاته أن يستخدمها في صنع شيء مفيد.

إن فتجنشتين بلا ريب تطرف، لكنه قمة فلسفية على أية حال، وما ينبغي أن يتحدث بوبر عنه بهذه اللهجة. إن بوبر - بصراحة - يتجاوز حدود اللياقة حين الحديث عن فتجنشتين أو معه فهو خصمه الفلسفي اللدود، حتى إن بوبر يقسم الفلاسفة إلى فريقين متقابلين، أحدهما يأتم بفتجنشتين، والآخر يأتم بإيمانويل كانط الذي جعل العقل يفرض تصوراته على الطبيعة، الوضعيون المنطقيون في الفريق الأول، وبوبر في الفريق الثاني الكانطي. وعلى الرغم من حدة صراع بوبر مع فريق الوضعيين فإنه أحيانا قليلة يشير إلى إيجابياتهم كاقتدائهم برسل ومنحاهم التنويري وتأكيدهم للعقلانية وحرب العقل ضد السلطة التعسفية وضد الخرافة، وأنهم بلا مراء علامة بارزة في فلسفة القرن العشرين ومنطقه على السواء. ويعترف بوبر بأن كتابي كارناب «التركيب المنطقي للعالم»، و«القابلية للاختبار والمعنى» من أهم نصوص فلسفة العلم في تلك المرحلة. أما بالنسبة للإمام فتجنشتين فلا تفاهم ولا هوادة في القتال.

والواقع أن موقف فتجنشتين وأتباعه الوضعيين من الميتافيزيقا هو الذي دفع بوبر إلى هذا العداء السافر، فهو يرى أن الميتافيزيقا ضرورية لتقدم العلم ذاته؛ لتوسيع الخيال العلمي فتلهم بفروض خصيبة. وبالنظر إلى هذه المسألة من الزاوية السيكولوجية، فإن بوبر يرى الكشف العلمي مستحيلا بغير الإيمان بأفكار من نمط تأملي خالص، لعل النظرة العلمية الصارمة لا تبيح هذا الهامش الميتافيزيقي، لكنه الأمر الواقع.

Shafi da ba'a sani ba