Falsafar Kimiyya a Karni na Ashirin
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Nau'ikan
وفي غضون الطريق السائر من فلسفة العلم ومنهجه إلى فلسفة المجتمع والسياسة تترسم فلسفة كارل بوبر كاتجاه قوي مترامي الأطراف، متعدد الجوانب متسق الأبعاد، شديد الولاء والإخلاص لمنطلقات وتوجهات فلسفة العلم، يوسم بالعقلانية النقدية، ويعد من أهم تيارات فلسفة القرن العشرين وأكثرها خصوبة وأعمقها تأثيرا، أدلى بوبر بدلوه في ميادين حضارية ومجالات فلسفية عديدة ترك فيها بصماته، بحيث ساهم في تشكيل ملامح الفكر الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
ويظل أهم ما في فلسفة بوبر أنها دفعت فلسفة العلم دفعة واسعة في اتجاه منطق الكشف والتقدم، فتحت أمامها آفاقا أوسع، واستحق بوبر أن يكون أهم فلاسفة العلم خصوصا في العالم المتحدث بالإنجليزية والألمانية. وحتى في فرنسا، حيث لا تتمتع أعماله بالدرجة نفسها من الذيوع والانتشار، سعى إدكار فور المفكر ووزير التعليم المتميز إلى تأسيس مركز للدراسات البوبرية في فرنسا عام 1982م، ولا غرو ما دام بوبر عملاق المنهج العلمي، داعية المجتمع المفتوح، نصير الديمقراطية الليبرالية في أكثر صورها إنسانية، مهاجم الماركسية ذا البأس الشديد الذي سبق الأحداث بنفاذ بصيرة رائع واستبصر ذلك المآل للأنظمة الشمولية المغلقة في أوروبا، العدو الشرس للفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية بانكبابها على تحليل عبارات العلم لتنزع عن الفلسفة بهاءها السرمدي، وتحاول سحق الميتافيزيقا. كان بوبر مجيدا ومجيدا وهو يدافع عن الميتافيزيقا من أجل العلم، فهي الأفق النهائي للفروض العلمية الخصيبة.
ويعنينا من كل هذا أنه إطار فلسفته للعلم، فلسفة التقدم العلمي، وقبل أن نعرض لها نلقي نظرة على حياة الفيلسوف التي كانت مسرحا مواتيا لها.
ولد كارل ريموند بوبر في فيينا، في 28 يوليو عام 1902م، لأسرة نمساوية خليقة بأن تنجب فيلسوفا، الأب حاصل على درجة الدكتوراه وكذا أخواه، وكان أستاذا للقانون في جامعة فيينا ومحاميا، ويبدو أنه كان مثقفا ثقافة رصينة، حتى إننا لا نجد - كما يخبرنا الابن كارل بوبر - حجرة واحدة في منزله غير مكتظة بالمراجع الكبرى وأمهات الكتب الفلسفية وآيات التراث الإنساني، باستثناء حجرة المعيشة كانت بدورها مكتظة بمكتبة موسيقية تحوي أعمال باخ وهايدن وموزار وبيتهوفن ... وبوبر يعتز كثيرا بأنه يمتلك نسخة من طبعة القرن السابع عشر لكتاب لجاليليو، ونسخة من طبعة القرن الثامن عشر لكتاب لإيمانويل كانط فيلسوفه الأثير. وقد كان الأب حريصا على تنشئة ابنه، ومنذ نعومة أظفار الصبي كارل بوبر، ووالده يحفزه على قراءة الكتب الفلسفية الكلاسيكية، ويناقشه في مشاكل اللامتناهي والماهية والجوهر، وحينما تعييه حذلقة الصبي يعهد به إلى عمه ليستأنف المناقشة.
أما عن أمه جيني تي شيف، جيني بوير، فهي تنتمي لأسرة تسري في دمائها الموهبة الموسيقية ، كانت هي وشقيقاتها شأن غالبية مواطني فيينا - عاصمة الألحان وكعبة الموسيقى - عازفات ماهرات على البيانو، أختها الكبرى وأبناؤها الثلاثة عازفون محترفون. وقد لعبت الموسيقى دورا كبيرا في حياة الابن بوبر، فهو أيضا عازف على البيانو، ومتذوق عميق لها، مما ساعد في صقل شخصيته وإرهاف مشاعره، ويخبرنا في تفصيلات مسهبة كيف أن الموسيقى الأوروبية البوليفونية كانت ملهمة ببعض توجهاته الفكرية. ولم يسلم بوبر الروح إلا بعد أن حقق حلم حياته وقام بتأليف قطعة موسيقية وهو في التسعين من عمره!
والحق أن كل ما في سيرة الفيلسوف مدعاة للإجلال والإكبار، فهو ذو حس إنساني رفيع، شديد التعاطف مع مظاهر البؤس والحرمان والشقاء، وكانت منتشرة في أحياء فيينا الفقيرة - نتيجة حرب أهلية - إبان صبا الفيلسوف، وكان أول حب خفق له قلبه - وهو طفل صغير يرفل في الخامسة من عمره - لطفلة صغيرة في روضة أطفال ذهب إليها مرة واحدة، برؤية وجهها انفطر قلب الطفل بوبر، وهو لا يدري: ألروعة ابتسامتها الأخاذة؟ أم لمأساة كف بصرها؟
وحينما شب عن الطوق ورث عن أبيه العمل الاجتماعي من أجل الأطفال المهملين والأيتام، ولما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها (1919-1920م) وهذا العام حاسم في فلسفته، ترك منزل والديه رغم توسلاتهما، كي يستقل بنفسه، وكي لا يشكل عبئا عليهما، فقد أصبح أبوه شيخا جاوز الستين، فقد كل مدخراته في التضخم المالي الذي استشرى في أعقاب الحرب، وأقام بوبر في مبنى قديم لمستشفى عسكري مهجور، حوله الطلبة إلى بيت طلاب بدائي جدا. عمل بغير أجر في عيادة النفساني ألفرد آدلر، وبأجور زهيدة في أعمال أخرى كتدريس أو تدريب لطلبة أمريكيين، أو كمساعد لنجار ... هذا النجار أثر كثيرا على شخصية بوبر، ولكن ترك في نفسه رد فعل عكسيا عنيفا حين كان بوبر يراه دائما يؤكد أنه يعرف كل شيء وأنه على صواب ولا يخطئ أبدا، فأصبحت احتمالية الخطأ الكامنة في كل موقف هي جذع الفلسفة البوبرية. لم يكن بوبر يدخن أو يحتسي خمرا، كان يأكل قليلا ويرتدي ثيابا متواضعة. المتعة الوحيدة التي لم يستطع التخلي عنها آنذاك هي التردد على حفلات الموسيقى السيمفونية، وكانت التذاكر رخيصة؛ لأنه كان يستمع واقفا.
بخلاف العمل الاجتماعي من أجل الأيتام، والموسيقى، كان اهتمام بوبر الثالث في يفاعته هو الفلسفات السياسية اليسارية، أمضى إبان مراهقته ثلاثة أشهر ماركسيا، لكنه انقلب بحماس إلى الاشتراكية الديمقراطية ... وأصبح في النهاية داعية ما يمكن أن نسميه: ليبرالية معدلة، ليبرالية النصف الثاني من القرن العشرين، التي اقترنت باسم بوبر.
التحق بوبر بجامعة فيينا عام 1918م، حضر مختلف المحاضرات: تاريخ الموسيقى والأدب وعلم النفس والفيزياء ... بل وحتى العلوم الطبية، وسرعان ما ترك هذا، وقصر حضوره على محاضرات الفيزياء النظرية والرياضة البحتة ... إذ كان يرى تلك المحاضرات «رائعة بحق».
وفي عام 1922م قيد طالبا منتظما بالجامعة، فأمضى عامين للحصول على إجازة للعمل في المدارس الابتدائية، حصل عليها إبان عمله كنجار، وواصل دراساته حتى حصل على إجازة التدريس في المدارس الثانوية. ظل بوبر لآخر يوم في حياته على اعتقاد راسخ بأن تربية النشء والتعليم - في كل صوره - أقدس مهمة عرفتها البشرية. حصل على إجازته تلك من معهد تربوي أنشئ حديثا، وفيه تعرف بوبر على محبوبته، التي أصبحت زوجته حتى آخر العمر، وما فتئ بوبر في كل موضع أن ينوه بفضلها وفضل حبها العظيم عليه. وبعد تخرجه استأنف دراساته، حتى حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، من جامعة فيينا عام 1928م.
Shafi da ba'a sani ba