Falsafar Kimiyya a Karni na Ashirin
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Nau'ikan
رياضي وحيلة رياضية، لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة، بل فقط مفيدة أو غير مفيدة. ويستعمل باركلي مصطلح «الفروض الرياضية» لهذا النوع من الحيل الخلو من المعنى لكن المفيدة، والتي وضعت من أجل المواءمة الرياضية لاختزال وتيسير الحسابات.
وفي أعقاب باركلي جاء شيخ الفلسفة الحديثة إيمانويل كانط بنظريته في المعرفة التي تجعل العقل مزودا بمقولات معينة تنصب في إطارها المعطيات الحسية، فتتشكل المعرفة. وهذا يعني: العقل هو الذي يفرض مقولاته وتصوراته على الطبيعة، وليست الطبيعة هي التي تفرض صورتها على العقل، كما توحي النزعة الاستقرائية التي تمثل التجريبية المتطرفة والمادية الخالصة. تلك هي الدرة الثمينة في فلسفة كانط التي توصف بأنها مثالية، واستفادت منها الأداتية وفلسفات علم مناهضة للأداتية، وسوف تستوعبها تجريبية القرن العشرين فتغدو متبصرة أكثر، وتمثل مركبا جدليا يجمع خير ما في المثالية والمادية ويتجاوزهما إلى الأفضل، كما سبق أن فعل الرائد الأكبر برتراند رسل بطريقته.
وعلى مشارف القرن العشرين نجد أن الأداتية كاسم وكمسمى صيغت في إطار الفلسفة البرجماتية الأمريكية التي رأيناها تؤكد على أن الفكرة لا توصف بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مفيدة أو غير مفيدة، وارتهن المعنى عندهم بالنفع في الواقع العملي الذي يوجه السلوك ويرسم العمل كما تفعل الخريطة الجغرافية. ألقوا بالمشاكل المنطقية للصدق وراء ظهورهم، وعني جون ديوي على وجه الخصوص بطرح النظرة الوظيفية للمفاهيم، وتبيان أن التفكير أداة للمعرفة والمعرفة أداة لتنظيم الخبرة، والعلم ذاته مجرد أداة كي يؤمن وجود الإنسان ويكفل له الانتصار في معركة الصراع من أجل البقاء، والمعيار هو الصلاحية لأداء هذه الوظيفة وليس الصدق أو الكذب. ويستخدم مصطلح «الأداتية» أيضا للدلالة على فلسفة ديوي. لا مغالاة إذن في القول: إن الأداتية هي تطبيق إبستمولوجي للبرجماتية في فلسفة العلم.
ومع كل هذه الأصول والأساس الذي ألقاه باركلي والريادة المباشرة لإرنست ماخ، فإن الأداتية احتلت موقعها المرموق في فلسفة العلم في القرن العشرين بفضل يعود إلى الفلسفة الفرنسية قبل سواها. وكانت الأصول المباشرة في حركة نقد العلم التي رأيناها تسود الفلسفة الفرنسية في القرن التاسع عشر حاملة التأثير الكانطي، وفي سياقه تلك الدرة الثمينة: العقل هو الذي يفرض تصوراته على الطبيعة. وكما رأينا في الجزء الأول من هذا الفصل، هدفت حركة نقد العلم إلى تحجيم الحتمية العلمية انتصارا لحرية الإنسان، وكانت وسيلتهم إلى هذا هي الزعم بأن الحتمية العلمية مجرد أداة إبستمولوجية خالصة لتنظيم المعرفة العلمية والمشروع العلمي، ولا تنطوي البتة على أي تصور للوجود أو خبر أنطولوجي بشأن الواقع. ونذكر على وجه الخصوص إميل بوترو ورسالته «إمكان قوانين الطبيعة 1874م» التي تؤكد أن الحتمية والضرورة فكرة عقلية خالصة لا توجد إلا في الأنساق المنطقية والرياضية، ويحاول العقل أن يفرضها قسرا على تصوراته للواقع؛ لأن هذا مفيد للبحث العلمي، في حين أن الواقع خلو منها ويتسم بالتعددية والتداخل فهو احتمالي وقوانين الطبيعة ممكنة وليست ضرورية. وإذا اتسمت الأبنية الإبستمولوجية العلمية بالضرورة فلا يعني ذلك اتسام الواقع بها؛ لأن عالم الأعيان يختلف عن عالم الأذهان بتعبير الإسلاميين. الخلاصة أن حركة نقد العلم فسرت الحتمية العلمية تفسيرا أداتيا، ثم واصلت الفلسفة الفرنسية تعميم هذا التفسير على النسق العلمي بأسره.
وكان هذا كشأن كل اتجاهات فلسفة العلم في القرن العشرين، مدفوعا بثورة العلم الكبرى التي عرضها الفصل السابق. ولما كانت الأداتية في جوهرها مدا لنطاق فلسفة الرياضيات إلى العلم التجريبي، فإن ظهور هندسات لا إقليدية متسقة ومكافئة لهندسة إقليدس كان أقوى سند للفلسفة الأداتية، فقد اتضح أن مسلمات إقليدس ليست البتة حقائق مطلقة، بل متواضعات أبدعها العقل الإنساني، ثم اصطلحنا عليها؛ لأنها موائمة ونافعة. وما أسهل الزعم بأن اتخاذ هندسة إقليدس أو سواها مسألة متروكة للاختيار الحر المحكوم باعتبارات الفائدة البرجماتية والبساطة والمواءمة. وحين كشفت مبرهنة كورت جودل عن لا اكتمال في الأنساق الرياضية، مثلت هي الأخرى سندا قويا، فهنالك صياغة غير قابلة للبت ولا يمكن إثباتها ولا إثبات نفيها، إذن قبولها أو رفضها لن يتم إلا على أساس برجماتي ولاعتبارات المواءمة. ويخرج الأداتيون من هذا بأن الحقائق الحسابية مثل الحقائق الهندسية، لا تفرض على الذهن ويتوقف قبولها أو رفضها على المتواضعات التي اصطلحنا عليها. يختلف المنطق عن الهندسة ونظرية الحساب، ولا يخضع للرؤية الاصطلاحية فكل حقائقه مبرهنة ولا يمكن الاستغناء عن مسلماته، وقواعده كافية للاستدلال ولوضع معايير الملاءمة. ولكن ما أسهل أن نمد التفسير الأداتي إلى الفيزياء، بعد أن انهارت الفيزياء الكلاسيكية وصعدت فيزياء الكوانتم والنسبية. فشهد العلم نظريات متعددة لنفس الظاهرة كلها ذات صلاحية ومواءمة في حدود معينة يختار العقل أن يعمل في إطارها، الضوء جسيم وموجة، والإلكترون داخل الذرة جسيم له كتلة، وإذا خرج منها تحول إلى طاقة، ومبدأ هيزنبرج يكشف عن أثر أدوات الرصد على الظاهرة المرصودة؛ ليمكن الزعم بأنه ليس هناك واقع متعين يكشف عنه العلم. وأسفر اقتحام عالم الذرة بأسره عن معرفة استدلالية بحتة، ولم تعد النظرية العلمية تشير إلى وقائعه بعلاقة واحد إلى واحد كما تصور الكلاسيكيون. وعلى هذا نزعوا البعد الأنطولوجي عن المفاهيم العلمية وحولوها إلى أدوات. فهل المفاهيم الذرية كيانات حقيقية حتى وإن تعذر إدراكها؟ أم إنها مجرد أدوات تيسر الاستنباط والتنبؤ؟ بدا للأداتيين أن البديل الثاني أصوب وأقرب إلى واقع ممارسة البحث العلمي.
وعلى هذا الأساس أمكن لفلسفة العلم الفرنسية في القرن العشرين، بفضل بوانكاريه ودوهيم، أن تستهل طريقها بتأسيس أقوى صورة للاتجاه الأداتي تعرف باسم الاصطلاحية
Conventionalism ، وتعني أن حقائق المنطق والرياضة متواضعات اصطلح العلماء على استخدامها تبعا لرموز معينة وقواعد لصياغة التعريفات والمسلمات وللاستدلال، وتظل صادقة ما دامت تستخدم بطريقة متفقة مع هذه الرموز والقواعد ، بصرف النظر عن معطيات الواقع. ومع بدايات القرن العشرين قام هنري بوانكاريه بتطبيق هذه الرؤية الاصطلاحية على الفيزياء، فتدين الاصطلاحية بنشأتها الناضجة إليه. أخرج بوانكاريه ثلاثة أعمال رائدة في فلسفة العلم هي «العلم والفرض 1902م»، و«قيمة العلم 1905م»، و«العلم والمنهج 1908م». لقد كان فيلسوف علم وأيضا عالم رياضيات عظيم الشأن. حصل على درجة الدكتوراه في الرياضة عام 1883م، وأصبح أستاذا للفيزياء الرياضية بكلية العلوم بباريس، وعضوا بالأكاديمية الفرنسية للعلوم منذ عام 1887م. «قبيل ظهور النسبية وبالتحديد عام 1904م أعطى بوانكاريه محاضرة أشار فيها إلى أن نظرية نيوتن لا تستطيع تفسير الظواهر المستجدة في الفيزياء، وناقش إمكانية أن تحل نظرية أخرى محل الميكانيكا النيوتونية. فكان بوانكاريه أكثر من مجرد ممهد للنظرية النسبية».
52
رأى أن الفيزياء لا تنفصل أبدا عن الهندسة، وكان منطلق اهتمامه المركزي الهندسات اللاإقليدية، رأى أن هندسة إقليدس ستظل دائما متربعة على عرش العلم لأنها الأبسط، ومع هذا لا توجد هندسة أفضل من الأخرى، فقط ثمة بدائل عديدة لحل المشكلة العلمية، ثم يتخذ العالم قرارا باختيار بديل دون سواه، كما ذكرنا، ليست الوقائع التجريبية هي التي تحسم هذا القرار، بل الاعتبارات المنطقية المذكورة. إنها اعتبارات برجماتية وأيضا جمالية. فماذا عسى أن يكون الجمال الخلاب سوى تكامل قيم الاتساق والبساطة والمواءمة، لكنه ليس الجمال الحسي المباشر الذي تتذوقه الحواس، بل هو نوع رفيع من الجمال لا يتذوقه إلا الذكاء العلمي.
كان بوانكاريه في طليعة المؤكدين على أن دور التجربة ليس ملزما بحال، بل فقط يتفاعل مع العوامل الأخرى لاتخاذ القرار، وأن الوقائع التجريبية لا تكفي أبدا لتبرير المعرفة العلمية، فهي تعطينا ركاما مهوشا، ولا بد من عنصر في ذهن العالم يضفي الوحدة والنظام والنسقية على ركام الوقائع المتناثرة. وهذه في رأيه هي وظيفة العلم في مواجهة الوقائع، إنها التفسير والتنبؤ والسير نحو الوحدة. يميز بوانكاريه بين الواقع المعقد والقوانين البسيطة، وإذا كان هناك تعميم استقرائي فمهمته التنبؤ، وليجعل الواقع أبسط ويعبر عن الوحدة في مجال العلم «إبستمولوجيا»، ولكن لا يتبعها بالضرورة افتراض الوحدة أنطولوجيا. فكما رأينا، يجعل الأداتيون جميعا الإبستمولوجيا في واد والأنطولوجيا في واد آخر.
Shafi da ba'a sani ba