169

Falsafar Kimiyya a Karni na Ashirin

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Nau'ikan

وليست الفلسفة التحليلية فحسب، بل كل الخطوات السابقة في فلسفة العلم تتجمع وتتكثف في فلسفة الوضعية المنطقية. هذا منذ أن علمنا فرنسيس بيكون أن الروح العلمية تعني التجريبية ورفض الميتافيزيقا رفضا لكل ما يتجاوز العالم التجريبي أو الطبيعة مملكة المعرفة الإنسانية، ثم تطورات الروح العلمية مع التجريبيين الإنجليز والتنويريين الفرنسيين، حتى صاغ أوجست كونت الفلسفة «الوضعية» ذاتها؛ لتقوم النزعة الاستقرائية بمنهجتها، أي صبها في شكل المنهج الاستقرائي الذي يميز العلم عن أي نشاط عقلي آخر.

سلم الوضعيون المنطقيون بالنزعة الاستقرائية كما صيغت في القرن التاسع عشر بتجريبيتها الحادة؛ ليمنطقوها بعد أن تمنهجت، أي ليجعلوها منطقية بحكم ناموس القرن العشرين، فبدأوا من الأصول في الرياضيات ثم مدوا نطاق استخدام المنطق الرياضي لتحليل مفاهيم العلم، ثم لبناء لغة العلم، أو السيمانطيقا، ثم السينتاطيقا، فلم يعد المنطق الرياضي مع الوضعية المنطقية عصبا للفلسفة فحسب، بل هو مجمل جهازها العصبي وهيكلها بأسره.

وإذ تستجمع الوضعية المنطقية كل المد السابق في فلسفة العلم، فإنها - بغرور قاصم - تكثفه وتحوله إلى بؤرة تشع نورا ساطعا ونارا تحرق ما حولها، وفي إصرار على الانفراد بفلسفة العلم التي رأوها ينبغي أن تكون الفلسفة برمتها، اتخذت الوضعية المنطقية اسم «التجريبية المنطقية» بألف ولام التعريف،

35

وكأن ما سواها من فلسفات للعلم لن تكون هكذا! اتخذت أيضا أسماء أخرى مثل التجريبية العلمية والتجريبية المتسقة والوضعية الحديثة ... ولكن شاع اسم «الوضعية المنطقية» الذي صاغه بلومبرج وفيجل عام 1931م. والواقع أن الاسم الأصلي لهذه المدرسة هو «دائرة فيينا»، فكيف تشكلت دائرة فيينا لتشكل فلسفة الوضعية المنطقية؟

في عام 1895م قررت جامعة فيينا لأول مرة إيجاد كرسي لفلسفة العلوم التجريبية؛ لتنمية وصقل هذا الفرع الفلسفي الهام النامي حديثا، وكانوا يفضلون أن يشغله عالم طبيعي ذو ميول فلسفية قوية. أول من شغله إرنست ماخ. وفي عام 1922م استدعت جامعة فيينا شليك من وطنه ألمانيا لشغل هذا الكرسي، فقد كان موريتس شليك

M. Schlick (1882-1936م) عالم طبيعة، حصل عام 1904م على درجة الدكتوراه برسالة موضوعها «انعكاس الضوء في وسط غير متجانس» تحت إشراف ماكس بلانك أبي الكوانتم، وعمل أستاذا للفيزياء في جامعة روستوك من عام 1911م حتى 1917م، ثم في جامعة كيل حتى عام 1921. وكان شليك واسع الإلمام بالفلسفة وتاريخها وعميق الاهتمام بها. صدر له في برلين «المكان والزمان في الفيزياء المعاصرة 1917م»، و«النظرية العامة للمعرفة، 1918م»، فضلا عما صدر له من كتب بعد ذلك، أهمها «عن مغزى الحياة 1927م»، و«مشكلات علم الأخلاق 1930م»، و«مستقبل الفلسفة 1932م»، ثم «الأبحاث المجمعة» في فيينا عام 1938م، أي بعد وفاته. وكان منذ البداية يأخذ بتجريبية ماخ وهلمهولتس الحادة واصطلاحية بوانكاريه، ويرفض فينومينولوجيا إدموند هوسرل والكانطية الجديدة التي شاعت في جامعات ألمانيات آنذاك، ويرفض الكانطية الأصلية رفضا للمطلق النيوتوني ولاعتبار قضايا الفيزياء قطعية أو قضايا الرياضة تركيبية. هكذا كان شليك فيلسوفا على الأصالة، معنيا بنظرية المعرفة ومنطق العلم، وأيضا بالأخلاق وفلسفة الحياة والثقافة؛ لذلك اصطنع شليك لنفسه لقب العالم/الفيلسوف، ربما أسوة بآينشتين، وقد كان شليك في طليعة شراح النظرية النسبية ومفلسفيها بألمانيا.

وما إن حط شليك رحاله في فيينا عام 1922م، إلا وتحلق حوله جمع من علماء ذوي ميول فلسفية قوية وفلاسفة ذوي ميول علمية قوية ورياضيين ومنطقيين محترفين، كانوا يجتمعون في لقاءات دورية استمرت من عام 1922م حتى عام 1938م، لمناقشة قضايا ومفاهيم فلسفة العلم. هذه هي دائرة فيينا التي صاغت مناقشاتها فلسفة الوضعية المنطقية.

أوصى بتشكيل هذه الدائرة عالم الرياضيات هانزهان والفيزيائي فيليب فرانك وعالم الاجتماع أوطو نويراث، ومن أعضائها هربرت فيجل وفيزمان وجوستاف بيرجمان وفيكتور كرافت، وأبرزهم رودلف كارناب. انتسب إليها كورت جودل صاحب مبرهنة اللااكتمال الشهيرة، وأيضا كارل منجر وفليكس كاوفمان وإدجار تسيلزل. اتخذت الدائرة صيغة رسمية عام 1929م، وأصدرت مجلة «المعرفة

Erkenntnis »، وتعاونت مع جمعية برلين للفلسفة التجريبية برجالها هانز رايشنباخ وجريلنج وليفين وفردريك كراوس وكارل همبل وريتشارد فون ميرس صاحب النظرية الهامة في حساب الاحتمال، كلهم ذوو اتجاه واحد، عقدوا معا مؤتمرا دوليا في براغ وكونجسبرج. صالت الوضعية المنطقية وجالت وتدفقت عنها الكتابات المتميزة جدا في فلسفة العلم، وصارت أعلى مدارس فلسفة العلم صوتا وأبعدهم صيتا، حتى أصيبت باغتيال رائدها موريتس شليك في 22 يونيو عام 1936م في قلب جامعة فيينا على يد طالب يدعى نلبك

Shafi da ba'a sani ba