Falsafar Kimiyya a Karni na Ashirin
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Nau'ikan
16
ثالثا: برتراند رسل والفلسفة التحليلية
من العوامل التي جعلت القرن العشرين عصرا ذهبيا للمنطق أن شهد هذا القرن برتراند رسل
B. Russell (1872-1970م) الذي رأيناه عملاق الفلسفة وعملاق الرياضيات على السواء، فأينعت الثمار في المعامل الذي أضحى مشتركا بينهما وهو المنطق. وقدم لنا رسل فلسفة علمية بلغت الذروة في تسلحها بالمنطق الرياضي. والواقع أن رسل على وجه التحديد هو الذي علم فلسفة القرن العشرين كيف يمكن أن تصبح التجريبية منطقية. على العموم اجتمعت صفحات سابقة في مواضع متفرقة على التنويه بدوره الكبير في فلسفة هذا القرن، منذ رؤيته للعلية ومشكلة الاستقراء حتى كتاب «برنكبيا ماتيماتيكا» والمدرسة المنطقية في أصول الرياضيات والإسهام الحاسم في ثورة العلوم الرياضية، وفي المنطق الرياضي وفي جعل فلسفة القرن العشرين مصطبغة بالصبغة المنطقية ... والآن نلتقي به عن كثب أكثر.
ولد برتراند آرثر وليم رسل لأسرة أرستقراطية عريقة من أرفع طبقات المجتمع الإنجليزي، وتولى جده رئاسة الوزارة ثلاث مرات، وقبل أن يبلغ عامه الرابع كان قد فقد أبويه، تعهدت جدته ذات الصرامة الأرستقراطية بتربيته وتنشئته وتثقيفه، لم ترسله إلى أية مدرسة نظامية، وقامت بتعليمه في المنزل بمساعدة مدرسين خصوصيين، على عادة الطبقة الرفيعة في إنجلترا آنذاك. تبدى نبوغه في الرياضيات، وهو بعد طفل يرفل في مدارج الصبا ويتلقى دروسه في الحساب والهندسة من أخيه الأكبر والوحيد، ويشكك في بديهيات إقليدس. ولعل هذه الشكوك هي ما أدت في النهاية إلى «برنكبيا ماتيماتيكا» وما تلاه. التحق بجامعة كمبردج عام 1890م ليدرس الرياضيات، وعين عام 1910م محاضرا بها، وفي عام 1916م فصل منها وصدر حكم بحبسه ستة أشهر؛ لأنه معارض لدخول إنجلترا الحرب العالمية الأولى ورافض لسياستها الاستعمارية. بعد انتهاء الحرب سافر إلى الصين وروسيا اللتين زادتا عقليته رحابة وثراء. تبرع بثروته خصوصا لجامعة كمبردج، وتكسب عيشه من كتاباته الغزيرة ومحاضراته العامة. أمضى فترة الحرب العالمية الثانية في أمريكا يحاضر في جامعاتها، وواجهته اعتراضات حادة بسبب دعواه إلى حرية العلاقات الجنسية، وهو الذي تزوج أربع مرات! لكنه حظي باعتراف العالم به كشخصية مرموقة وواحد من أعظم عقول القرن العشرين. وحين عاد إلى وطنه عام 1944م أعيد انتخابه زميلا بكلية ترينتي في جامعة كمبردج. وفي كل هذا كانت إنجازاته الفلسفية تتوالى باطراد معالم بارزة على طريق الفلسفة العلمية في القرن العشرين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحتى رحيله، لم يأل جهدا ولا فكرا ولا مالا لخدمة قضايا السلام ونزع السلاح النووي وإنهاء الاستعمار والدفاع عن الحرية في كل مكان. آخر ما كتبه - قبل وفاته بيومين - رسالة إلى المؤتمر البرلماني العالمي الذي كان منعقدا بالقاهرة في أوائل شهر فبراير عام 1970م، يندد فيها بإسرائيل ويطالب بانسحابها من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967م، محذرا إياها بأن «الغارات في عمق الأراضي المصرية لن تقنع المدنيين بالاستسلام، بل ستعزز تصميمهم على المقاومة».
17
فقد كان رسل بحق عقل القرن العشرين الصوري المحلل، وروحه العلمية الدافقة، وأيضا ضميره الحي، فلا غرو أن يلقب «بفيلسوف القرن»
18
وبغير منازع.
عاش رسل حياة طويلة عريضة عميقة، القراءة والكتابة في أعقد المواضيع خبزه اليومي ، وظل حتى آخر لحظة محتفظا بتوقده الذهني وقدرته الفريدة على مراجعة نفسه وتعديل مواقفه وتطوير فلسفته. وفي كل حال ظلت رسالته الراسخة التي يصر عليها إصرارا أن تكون الفلسفة علمية تصغي باهتمام لشهادات العلم ، وتستفيد من مناهجه التجريبية والصورية معا، وتتحلى بطبائعه، من هنا كان أكثر العقول تجريدا وتجسيدا لروح القرن العشرين، بآلام مخاضه ثم تطورات نمائه الثورية. استقبل الدنيا عام 1872م في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ليتلقى خلاصة مده، التيار العلمي التجريبي المغرور من ناحية ومد المثالية الألمانية كتيار مواز له من الناحية الأخرى. وقع رسل في إسار كانط وهيجل، ثم انقلب عليهما؛ ليستقبل القرن العشرين وهو في صدر الشباب وأوج النضج ويكون في طليعة الجاعلين عام 1900م عاما حاسما لصالح المد التجريبي، تأكيدا للثابت الباقي في كل المتغيرات والتطورات التي خضعت لها فلسفته، أي الرسالة التي حملها باقتدار وامتياز وأجاد إبلاغها للقرن العشرين، وهي أن تكون الفلسفة علمية، ومن أجل هذا لا بد وأن تصبح التجريبية منطقية.
Shafi da ba'a sani ba