Falsafar Kimiyyar Halittu: Gabatarwa Mai Gajarta
فلسفة علم الأحياء: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
كان الحافز الثاني وراء نشأة فلسفة علم الأحياء نابعا من العلم نفسه لا من الفلسفة. فقد شهد القرن العشرين تقدما هائلا في العلوم الحيوية. في النصف الأول من القرن احتل علم الأحياء التطوري مركز الصدارة إذ نشأت «الداروينية الجديدة». دمجت الداروينية الجديدة نظرية داروين عن التطور، بعد أن أدخلت عليها تحديثات ملائمة، مع مجالات حيوية أخرى؛ كعلم الوراثة وعلم الإحاثة وعلم الحيوان. كانت النتيجة منظومة فكرية نظرية مثيرة للإعجاب، تقوم على فكرة أن التطور مدفوع بالانتخاب الطبيعي لبعض المتغيرات الوراثية دون غيرها. في النصف الثاني من القرن تحول التركيز إلى علم الأحياء الجزيئي، الذي يدرس الأساس الجزيئي للكائنات الحية ومكوناتها الخلوية. بدأ هذا المشروع في ثلاثينيات القرن الماضي بتجارب على العاثيات (هي نوع من الفيروسات التي تهاجم البكتيريا). ووثب وثبة كبيرة في عام 1953 باكتشاف جيمس واتسون وفرانسيس كريك لبنية الحمض النووي؛ المادة المكونة للجينات. في العقود اللاحقة ازدهر علم الأحياء الجزيئي؛ إذ كشف علماء الأحياء عن التفاصيل المعقدة لآلية عمل الجينات ونسخها. أدى ذلك بدوره إلى نشأة علم الجينوم الحديث الذي يدرس تأثير المجموع الجيني على نمو الكائن الحي.
عندما اطلع الفلاسفة على تلك التطورات العلمية وجدوا فيها العديد من القضايا المفاهيمية التي تحتاج إلى التحليل الفلسفي. على سبيل المثال، عادة ما يستخدم المتخصصون في علم الأحياء التطوري مصطلحات وظيفية عند الحديث عن الكائنات الحية وصفاتها. يتحدثون عن «وظيفة» صفات معينة أو «الغرض» منها. فالغرض من خياشيم السمكة هو التنفس، ومن أشواك الصبار هو ردع آكلي الأعشاب. يبدو هذا الحديث محيرا لأول وهلة. إذ تخلو مجالات أخرى من العلوم كالفيزياء والكيمياء من حديث مناظر عن الوظيفة. لماذا إذن يستعمل علماء الأحياء تلك المصطلحات، وماذا يعني ذلك؟ هل هي متوارثة من حقبة ما قبل الداروينية حين كان ينظر للكائنات الحية باعتبارها من خلق الإله؟ كيف نكتشف وظائف السمات؟ وهل يمكن أن يكون لسمة واحدة أكثر من وظيفة؟ هذا أحد المواضيع التقليدية في فلسفة علم الأحياء نتناوله في الفصل الثالث.
نجد مثالا آخر لذلك في علم الوراثة. ففي هذا المجال يشيع استخدام مفاهيم مستعارة من أنظمة التواصل البشرية مثل «التشفير» و«المعلومات» و«الترجمة». فيقال إن الجينات تشفر المعلومات وتنقلها من الوالد إلى الذرية، وتلك المعلومات «تقرأ» خلال النمو، ممكنة البويضة الملقحة من أن تنمو إلى كائن بالغ حسب ما يلائم نوعها. هنا أيضا يبدو هذا الحديث محيرا للوهلة الأولى. ففي نهاية المطاف، ما الجين إلا جزيء ضخم من نوع خاص، مصنوع من الحمض النووي. نحن عادة لا ننظر إلى الجزيئات باعتبارها حاملة للمعلومات، ولا نصف أغلب التفاعلات الجزيئية من منطلق نقلها للمعلومات. إذن فلماذا يشيع استخدام المصطلحات المعلوماتية في علم الوراثة، وماذا يعني ذلك؟ هل ينبغي أن نفهمها بالمعنى الحرفي أم أنها مجازية؟ نتناول هذا الموضوع في الفصل السادس.
أكرر أن هذا لا يعني أن تلك الأسئلة لا تخطر لعلماء الأحياء. بل العكس صحيح، فالمثالان المذكوران آنفا ناقشهما علماء أحياء بارزون، مثل جاك مونو وإرنست ماير وجون مينارد سميث. لكن في العموم، لا ينشغل علماء الأحياء التجريبيون بالانخراط في تحليلات فلسفية لمعاني مفاهيمهم بقدر انشغالهم بتحقيق اكتشافات تجريبية. وهكذا ينبغي لهم. فعلى الرغم من أن التفاعل بين الفلاسفة والعلماء أمر مفيد، ينبغي أن تقف الممارسة العلمية على مسافة من التأمل الفلسفي. فهذا يسمح للعلماء بالتركيز على وظيفتهم اليومية، ويعطي الفلاسفة الحرية في استخدام أدواتهم - كالتحليل المنطقي والتفسير وتوضيح الفروقات - في تناول المسائل المفاهيمية التي يجدونها في العلم.
أما العامل الثالث لنشأة فلسفة علم الأحياء فنابع من توجه أوسع في الفلسفة الأنجلوفونية (التحليلية). وهي الحركة التي نادت بأن ينحو البحث الفلسفي منحى العلوم الطبيعية؛ وذلك من خلال محاولة دمجه مع العلوم التجريبية. في الماضي، استخدم الفلاسفة منهجا «عقلانيا» لبحث المسائل التي تثير اهتمامهم، كماهية الأخلاق وحدود المعرفة الإنسانية ومعضلة الإرادة الحرة. والتوظيف الأمثل لهذا المنهج يكون بدراسة معنى مفهوم ما وبحث علاقاته المنطقية بغيره من المفاهيم. حقق هذا المنهج نجاحات، لكن نقاده لطالما اتهموه بأنه غير مثمر. في منتصف القرن العشرين، ذهب الفلاسفة ذوو التوجه العلمي، مثل ويلارد فان أورمان كوين، إلى أن العلم التجريبي يمكن أن يسلط الضوء على تلك الأسئلة الفلسفية المطروحة منذ الأزل. وجادل كوين بأنه من الخطأ أن نتعامل مع المسائل الفلسفية باعتبارها تختلف في جوهرها عن تلك العلمية، وبالتالي فإنه من الخطأ أن نتطرق إليها بالمناهج العقلانية فقط. تختلف الآراء حول مزايا هذا «التحول الطبيعاني» في الفلسفة، لكنه ساعد في ظهور جيل من الفلاسفة لديه القدرة والاستعداد لاعتماد العلم التجريبي مرجعا لبحث المعضلات الفلسفية.
لعب علم الأحياء، وبالأخص علم الأحياء التطوري، دورا رئيسيا في هذا التطور. فقد توقع داروين أن تكون لنظريته عن التطور تبعات على الفلسفة. («من يفهم قرد البابون بوسعه أن يقدم للميتافيزيقا أكثر مما قدمه لوك»، هكذا كتب داروين في إشارة إلى فيلسوف القرن السابع عشر الإنجليزي جون لوك.) شهد المنحنى الطبيعي الذي سلكته الفلسفة تحقق نبؤة داروين جزئيا؛ إذ أثرت الأفكار التطورية على مسائل فلسفية متنوعة. أحد أمثلة ذلك هو مسألة القصدية. فالقصدية في اصطلاح الفلاسفة هي سمة من سمات الحالات العقلية كالاعتقادات أو الأحكام، وتعني أنها «موجهة إلى» أو «متعلقة» بعناصر موجودة في العالم الخارجي. أي إنني إذا كنت أعتقد أن البرازيل أكبر دولة في أمريكا الجنوبية، فاعتقادي هذا «متعلق» بدولة البرازيل. يعبر عن ذلك المعنى أحيانا بالقول: إن اعتقادي ذلك ذو «محتوى تمثيلي»؛ إذ يمثل لي العالم في صورة ما دون غيرها. أبرز سمات المحتوى التمثيلي هو احتمالية التمثيل الخاطئ. فقد يمثل لي عقلي العالم بصورة خلاف الحقيقية، أي إن اعتقادي قد يكون خاطئا. لطالما اعتبر الفلاسفة القصدية ظاهرة محيرة؛ إذ يصعب تصور كيف يمكن أن تنشأ في عالم مادي بحت. ففي نهاية المطاف يفترض أن الحالات العقلية تعتمد في الأساس على الدماغ، وبالتبعية على الخلايا العصبية وترابطها، لكن الخلايا العصبية بحد ذاتها ليس لها متعلق خارجي أو محتوى تمثيلي. فكيف تفسر القصدية إذن في العالم الذي يصفه العلم الحديث؟
في الثمانينيات من القرن الماضي، اقترحت الفيلسوفة روث ميليكان حلا عبقريا لهذه الأحجية مستمدا من الداروينية. كي تفهم فكرتها الأساسية، تأمل رقصة النحل الاهتزازية. يستخدم النحل هذه الرقصة المعقدة التي تتخذ شكل رقم
8
ليرشد أقرانه في الخلية إلى مكان أي مصدر غذاء. لما كان رقص النحل قد تشكل بفعل الانتخاب الطبيعي لغرض محدد - وهو الإشارة بدقة إلى مكان الغذاء - فإنه يمكن لنا أن نستخلص من الرقصة الاهتزازية نوعا من القصدية الأولية. فيعقل أن نقول إن حركات رقصة معينة تعني أن الغذاء موجود على بعد 30 مترا في اتجاه الشمس، بمعنى أن الوظيفة البيولوجية للرقصة هي حث أقران النحل في الخلية على التحليق إلى الموضع المشار إليه. رقصة النحل الاهتزازية إذن تحتمل التمثيل الخاطئ؛ إذ يمكن ألا يكون الغذاء موجودا في الموضع المشار إليه حال أخطأ النحل في أداء حركات الرقصة سهوا على سبيل المثال. باختصار، فكرة ميليكان هي أنه يمكن اعتبار المحتوى التمثيلي مقبولا علميا إذا اختزلناه في وظيفته البيولوجية، وهي فكرة تلعب دورا أصيلا في علم الأحياء التطوري. هذه المحاولة الجريئة لإسباغ القصدية صبغة العلوم الطبيعية مثيرة للجدل، لكنها تلخص كيف يمكن للمنظور البيولوجي أن يساهم في حل معضلة فلسفية قديمة.
إيجازا، نشأت فلسفة علم الأحياء باعتبارها مجالا بحثيا قائما بذاته نتيجة ثلاثة عوامل: الاحتياج إلى رؤية عن العلم أقل ارتكازا على الفيزياء؛ ووجود معضلات مفاهيمية في علم الأحياء نفسه؛ والمنحى الطبيعاني الذي سلكته الفلسفة في مجملها. يستعرض هذا الكتاب فلسفة علم الأحياء بأسلوب لا يفترض وجود معرفة متخصصة لدى القراء، فلسفية كانت أو علمية. ويركز في الأساس على علم الأحياء التطوري وعلم الوراثة؛ إذ كانا مجالي علم الأحياء الأكثر جذبا للاهتمام الفلسفي في السابق. أما في السنوات الأخيرة فقد تغير الحال نوعا ما، إذ حول فلاسفة علم الأحياء تركيزهم إلى مجالات مثل علم الأحياء النمائي وعلم المناعة وعلم الأحياء الدقيقة. وقد فتحت هذه التطورات المثيرة آفاقا جديدة للبحث الفلسفي في العلوم الحيوية.
Shafi da ba'a sani ba