ضمير يعمل الواجب خوفا من الناس، فهو يرى خيرا ما يرونه خيرا وشرا ما يرونه شرا، لا يصدر صاحبه في أعماله عن رأي نفسه بل نراه دائما مدفوعا بغيره، هذا الجندي مثلا يصمد للحرب ويصبر على لأوائها، ولا يفر حتى لا يقال عنه إنه جبان رعديد، وذاك الرجل يصلي أو يصدق في حديثه لأنه لا يرضى أن يرى فيه الناس رجلا رقيق الدين كذابا، وأهل هذه الدرجة الدنيا لا يتورعون عن شر إذا خلوا بأنفسهم وأمنوا الرقيب، أو عاشوا في بيئة سيئة لا ترى الشر أمرا نكرا.
الثانية:
وهي أحسن حالا من سابقتها، ضمير يرى الخير فيما أمر به القانون والشر فيما حظره، فهو يطيع القانون أيا كان مصدره ولا يسمح لنفسه بمخالفته وإن أمن رجل الشرطة وسلطان النيابة. صاحب هذا الضمير يعتبر من الأخيار؛ لأنه لا يسرق ولا يقتل ولا يخون ولا يأتي منكرا حظره القانون الوضعي أو السماوي أو الأخلاقي وإن أمن العقوبة، ذلك بأن ضميره يأمره باتباع القانون وعدم مخالفته في السر أو العلانية.
الثالثة:
وهي الدرجة العليا، ضمير يحتم على صاحبه عمل ما يراه في نفسه خيرا، خالف ما تواضع عليه الناس وما أمر به القانون أو وافقه، يشعر بأن هذا العمل خير لأنه يراه خيرا، لا لأن القانون أمر به، ويرى أن ذاك شر لأنه يراه في نفسه شرا لا لأن العرف أو القانون نهى عنه، فهو ينفذ بصره وراء القواعد المتعارفة والقوانين المسنونة ليعرف أساس الحق والباطل والخير والشر، فإن هدى إلى الخير عمل به وإن خالف رأي الناس جميعا، مهما كلفه من مشاق وأرهقه من آلام.
وهذه الدرجة لا يصل إليها إلا الرسل والأنبياء وكبار المصلحين، الذين يصدعون بما عرفوا أنه الحق ولا يخافون لومة لائم. وتلك الدرجات الثلاث يسلم بعضها بالتربية إلى بعض، وفي مقدور من كان في درجة أن يصل إلى ما فوقها بتهذيب ضميره وتكميله. (5) المثل الأعلى (5-1) تعريفه
كثيرا ما يسائل المرء نفسه: ماذا أبغي من هذه الحياة؟ أو ماذا أريد أن أكون؟ فالصورة التي وضعناها ونود تحقيقها ونرى الخير كل الخير في الوصول إليها وتصلح أن تكون جوابا عن هذا التساؤل؛ هي ما يسمى في عرف الحديثين من الكتاب بالمثل الأعلى، فهو تلك الصورة البعيدة المنال التي رسمها كل منا لنفسه، ويعمل جاهدا على القرب منها إن أعجزه الوصول إليها، ويستهين في سبيل ذلك بكل جهد ينال من نفسه وماله.
من هذه الناحية كان الفرق بينه وبين الغاية، فهذه يسعى المرء لتحقيقها، بعد أن قدر لذلك الوسائل، وعرف أن في مقدوره الوصول إليها بسهولة ويسر أو مشقة وعسر، أما المثل الأعلى فهيهات أن يصل إليه مهما أنفق من مجهود، فهو يتغير ويرتفع كلما حاولنا الدنو منه؛ ولذلك كان أداة مباشرة صالحة للرقي والكمال. (5-2) اختلافه
كل منا له مثله الأعلى، هذا مثله رجل مغترف من لذائذ الحياة، ويجد سبل المعيشة الراضية أمامه موفورة، وذاك مثله الأعلى إنسان كمل عقله وأخذ بأوفر حظ من العلوم والفنون حتى صار نابغة، وآخر مثله الأعلى عمر بن الخطاب في شجاعته وعدله، وآخر أن يكون معبود الجماهير كالزعماء الشعبيين، وغير هؤلاء من يرى مثله الأعلى أن يكون حكيما زاهدا، لا تستهويه لذائذ الحياة ولا مفاتن العصر، بل يعلو بنفسه على هذه الصغائر ويعيش في عالم روحي كامل، إلى آخر أشباه هاتيك الصور العليا التي تكاد تكون بعدد أفراد الناس.
وليس في وسع الأخلاقي أن يرسم لكل امرئ مثلا يناسبه، فإن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والبيئة والتربية ونوع الحياة التي يحيونها، وغاية ما يطلبه الأخلاقي أن يكون المثل الأعلى الذي يتخذه كل لنفسه يمثل خير ما يمكن أن يكونه المرء في شأن من شئونه: في عمله الخاص، وسياسته لنفسه، ومعاملته للناس. (5-3) تكونه ونموه
Shafi da ba'a sani ba