ولهذا الذي يراه «كانت»، وهو أن الضمير شعاع من القوة العليا، كان التسليم بوجود الله وخلود الروح عنده من مسلمات علم الأخلاق، كما كان صوته أمرا مطلقا غير متعلق بشرط أو متوقفا على فرض من الفروض.
ذلك أن كل أمر يصدر للإرادة يكون مقيدا إن كان مرتبطا بشرط أو فرض، وبعبارة أخرى: إن لجأنا في الحث على تنفيذه إلى العاطفة أو المنفعة كما إذا قلنا: «إذا كنت تحب الاحتفاظ بسمعتك الطيبة بين الناس، إذا أردت أن تنجح في تجارتك، إذا كنت تحب أن تكون ظريفا محبوبا؛ لا تكذب مطلقا وعامل الناس بالحسنى»؛ إذ معنى هذا أننا وضعنا الصدق ومعاملة الغير بالحسنى في كفة، ونتائجها الطيبة في كفة أخرى، وأغرينا المرء بهاتين الفضيلتين بلفت نظره إلى ما يناله من خير ومنفعة إن عمل بهما.
أما الواجب، وهو صوت الضمير، فلا يعرف هذا اللف والدوران، ولا يلجأ لتلك الوسائل الملتوية لغرض خلق من الأخلاق الحميدة، بل يقول في وضوح لا لبس فيه، وصراحة لا غموض معها: «لا تكذب مطلقا، وعامل الناس بالحسنى، وإن لم تفد من ذلك لنفسك، بل وإن جاءك الضرر من هذا السبيل.» هذا الأمر هو ما يسمى أمرا مطلقا، وما يأمرنا في كثير من الحالات بالتضحية بعواطفنا ومنافعنا الخاصة، وهو لهذا أساس الخلقية الكاملة عنده.
17
ولكن مع دقة «كانت» فيما ذهب إليه، من أن للعقل نظرا عمليا يدرك الحقائق الأدبية للأشياء، ويبين الخير من الشر والصواب من الخطأ من الأعمال، يقابل نظره الفكري أو العلمي الذي يستند للحواس في تفهم المعقولات؛ نقول مع هذا نحن لا نسلم معه أن الضمير وجد تاما كاملا لدى الجميع على السواء، فلئن كان شعاعا من نور كما يقول فلم يكن بمثابة واحدة من القوة في كل الأزمان، كما أنه من المسلم به أن حكمنا الأخلاقي على بعض الأفعال يختلف اختلافا كبيرا عن حكم آبائنا الأولين، وما ذاك إلا ثمرة التجربة والتربية.
الثالث: «مذهب الكسبيين»: يرى هؤلاء أن الضمير ليس قوة فطرية حسية أو عقلية، بل هو قوة من الشعور الكسبي استفادها المرء بالتدريج، وهو لذلك يختلف تبعا للمؤثرات ويتفاوت باختلاف الأمم والبيئات.
يقول أصحاب هذا المذهب في إيضاحه، ومنهم ستيوارت مل
Stuart Mill : إن المرء نشأ عادة في جماعة لها عرفها وتقاليدها وأنظمتها، التي تبيح أعمالا وتثيب عليها وتحرم أخرى وتحدد لها عقابا، فكان الناس يألفون الخير ويفعلونه، ويكرهون الشر ويزدرونه رغبا ورهبا، ثم نما هذا الشعور بوازع الشرائع الوضعية والسماوية، وتطاول الزمن فنسي الناس أو تناسوا الأسباب الأولى الحقيقية لحب الخير والميل إليه وبغض الشر والبعد عنه، وزعموا أنهم يفعلون الأول بدافع نفسي باطني كما ينأون عن الثاني بدافع نفسي باطني أيضا، وهذا ما سمي بعد بالضمير.
ومن السهل رد هذا الرأي أيضا، بأن الضمير لو كان كسبيا ويتفاوت بهذا القدر لاختلف الناس في أصول الفضائل والرذائل باختلاف الأمم والبيئات والعصور كما تختلف التقاليد والقوانين، وهذا منكور قطعا لاتفاق الناس على المبادئ الخلقية في كل زمان ومكان وإن اختلفوا في بعض الجزئيات.
كما أن لنا أن نقول في الرد عليهم أيضا: إن المشرعين الذين بيدهم زمام الأمم والجماعات يعتمدون في كل ما يشرعون من قوانين على ما لدى الناس من المبادئ العامة للفضيلة والرذيلة، حتى تنال هذه القوانين من احترام الكافة ما يضمن تنفيذها، وإلا لكان هذا من العسير إن لم يكن من المستحيل، فالمرء في الغالب من الأمر لا يطيع القانون إلا لاعتقاده بعدالته، وهذا الاعتقاد لا بد أن يكون وليد قوة فطرية في أصلها لدى الإنسان. •••
Shafi da ba'a sani ba