ورأس الذاهبين هذا المذهب هو «سقراط» الذي دحض ما ذهب إليه جماعة السوفسطائيين في فلسفتهم
4
من أن الحواس هي السبيل الوحيد للمعلومات التي تصل للذهن، وبما أن هذا الإدراك الحسي أي الناشئ عن الحواس هو أساس المعلومات جميعا في رأيهم وهو يختلف باختلاف الأشخاص؛ كانت المعلومات التي تجيئنا عن حقائق الأشياء بوساطته مختلفة كذلك وغير ثابتة.
هذا هو ملخص ما يراه السوفسطائيون في حقائق الأشياء، وهو رأي مخالف لما كان عليه الفلاسفة قبلهم من التفرقة بين ما يدرك بالحواس الخادعة الغاشة في بعض الأحيان - وقد يظن المرء السراب ماء، والظل ساكنا، والشمس متحركة حول الأرض، وليس ذلك صحيحا، وقد يتراءى النبات الشديد الخضرة أسود، وليس به - وبين ما يدرك بالعقل الذي هو الوسيلة الصحيحة لإدراك الحقائق العامة الكلية.
ومن هنا كانوا يفرقون بين ما يدركه المرء من الشيء وبين حقيقة الشيء الخارجية، حتى جاء السوفسطائيون فأنكروا كل هذا زاعمين أن ليس للأشياء وجود خارجي مستقل عما يتمثل في الذهن بواسطة الحواس، وبعبارة أخرى: زاعمين أن ليس هناك فرق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي؛ ولذلك كان من تعاليمهم أن ما أراه حقيقة فهو كذلك بالنسبة لي، وما يراه الآخر حقا فهو كذلك بالنسبة له، وهكذا دواليك.
وعذرهم في هذا الزعم الخاطئ أن المعلومات لا طريق لها إلينا إلا الحواس، وهي تختلف في هذا عن ذاك فيكون إدراكها لذلك مختلفا، وإذن فلا يصح أن نعتمد عليها لإثبات أن هناك في الواقع حقائق خارجية غير ما تمثله لنا هذه الحواس، ناسين أو متناسين عمل العقل في المدركات الجزئية الشبيهة بالمواد الخام التي تصله عن الحواس.
وقد بنى أشياعهم الذين أتوا بعدهم على هذه النظرية الضالة - نظرية عدم ثبوت حقائق خارجية للأشياء بل ما يدركه المرء هو حق بالنسبة له - مذهبا هداما في الأخلاق هو مذهب اللذة الشخصية الذي يقرر أن الخير الأخلاقي ما يجده كل امرئ خيرا بالنسبة له، أي ما ينتج لذة شخصية له، وعلى الآخرين العفاء.
استمر الحال كذلك فيما يختص بحقائق الأشياء الداخلية والخارجية حتى جاء سقراط، فكان من الرسالة التي اضطلع بها دحض هذه الفلسفة الخاطئة، وبيان أن سبيل المعرفة هو العقل وحده؛ لأن الحواس لا توصل إلينا إلا مدركات جزئية لكل منها صفاتها الخاصة، كإنسان وفرس مثلا، وهنا يجيء دور العقل بالجمع بين الصفات المشتركة في جميع أفراد النوع الإنساني وإبعاد الصفات العارضة المنفردة غير المطردة، فيكون من ذلك المدركات الكلية التي هي مهايا الأشياء، وهي التي تسمى معرفة.
وبما أن العقل مشترك وعام لدى جميع الناس، كانت حقائق الأشياء ثابتة غير مختلفة؛ لأننا نعلمها جميعا عن طريق واحد وهو الذي لا يختلف إدراكه في شخص عن آخر. وكان سقراط يقول بعد هذا: إنه لا فضيلة إلا المعرفة ولا رذيلة إلا الجهل، وإن الإنسان لا يستطيع عمل الخير ما لم يعلم الخير، ومعرفة أن هذا الشيء خير عقلا هي الباعث لنا على إتيانه فعلا، وأن المرء لا يأتي الشر وهو عالم به؛ لأن كل إنسان يحب الخير لنفسه كما يكره الشر لها، فمن المستحيل إذن أن يأتي ما يضرها وهو عالم بضرره، وليس عثار إرادة المرء أو خطؤها بالوقوع في الإثم الأخلاقي إلا ضلال العقل نفسه.
5
Shafi da ba'a sani ba