Falsafar Ingilishi A Cikin Shekaru Dari (Sashi Na Farko)
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Nau'ikan
ولقد ظهر مذهبه هذا في مؤلف غريب رائع كان المفروض أصلا أن يكون عنوانه : «ديالكتيك الوجود»، ولكنه أسماه فيما بعد «طبيعة الوجود»، وهذا الكتاب هو الثمرة الناضجة لتفكير استمر طوال حياته بلا كلل ودون انقطاع. وقد صيغ هذا التفكير كله في قالب واحد، يحمل على الدوام طابع صانعه. ولو نظرنا إليه في إطار الفلسفة الإنجليزية الحديثة لبدا لنا غريبا أشبه بضوء منعزل يشع من جزيرة نائية قفرة، ولبدا لنا ظهوره في مثل هذه البيئة أقرب إلى اللغز المستعصي. فهو يخالف جميع طرق الفكر المألوفة المتداولة الموثوق فيها، ونادرا ما يجد المرء مفكرا يضع لنفسه مثل هذه الشروط القاسية الصارمة، ويتخذ لنفسه مثل هذا الهدف الرفيع، فأفكاره تتقدم بحتمية منطقية حتى النهاية، دون أن تظهر في أي موضع بادرة توحي بتهاون في هذه الصرامة أو تراخ في تلك الطاقة. ويتضح الحرص الشديد الذي التزمه في تفكيره وكتابته في أنه كان يخطط ما لا يقل عن خمس مسودات كاملة قبل أن يبعث بأي شيء إلى المطبعة. فالتعبير والتفكير كانا يتفقان تماما؛ إذ إن الأول، الذي كان ينحته بجهد وعناية، كان يقدم هيكلا كاملا للثاني، ومع ذلك لا يلمح المرء أي أثر للصراع الذي كان يبذله من أجل التعبير عن نفسه تعبيرا كاملا، إذ إنه قد ترك كل ذلك الصراع جانبا في عملية المراجعة الخماسية التي كان يقوم بها، والانطباع العام الذي يتركه في نفوسنا هذا الكتاب هو أنه مذهب تصوري وضع حتى النهاية بدقة ومجهود ووضوح واقتصاد وإحكام، ولكنا نجد أيضا - إلى جانب ذلك - نزعة شكلية ولفظية خاوية، ونجده كثيرا ما يهتدي في الألفاظ إلى معان سبق له أن دسها فيها، ونجده يتلاعب بالأفكار، ويميز بين أمور يقل الفرق بينها عن حد الشعرة، ويقدم تعريفات مفرطة في التدقيق، ولا جدال في أن عبارة برادلي، التي طالما اقتبست، والتي تتحدث عن «رقصة ليست من هذا العالم، تؤديها مقولات لا حياة فيها»، تنطبق تماما على مذهب ماكتجارت ببرودته وصلابته الرخامية. على أن هذا ليس إلا وجها واحدا - وإن يكن هو الوجه الغالب - من أوجه تفكير ماكتجارت وطريقته في التعبير، فمن وراء الواجهة الظاهرية التي بذل كل جهده لكي يجعلها صحيحة لا تشوبها شائبة، يشعر المرء من آن لآخر بذهن قلق، ونار خفية لتجربة عاشها بعمق، ونبض وحرارة شخصية حية تنشق حياتها الخاصة في ذلك البناء الذي يتخذ مظهرا رخاميا جامدا. ذلك هو الوجه الصوفي لماكتجارت، وهو يخترق نسيج التصورات المجردة ويصبغها بألوان أشد حيوية وبمضمون من نوع أكثر عينية. ولكن ليس لأحد أن يظن أن هذين الجانبين من طبيعته كانا يقفان في تعارض محتوم الواحد منهما قبالة الآخر، بحيث يحتفظان بالصراع محتدما بين «التصوف والمنطق» (إذا شئنا أن نستعير هذا العنوان الموفق لواحد من كتب رسل)، فقد كانت كل من هاتين النزعتين وثيقة الصلة بالأخرى في مذهبه، وقد انبثقتا معا من جذر واحد، بحيث إن التصوف قد أعطى المنطق النبض والدفء، وسيطر المنطق على التصوف وأضفى عليه النظام الدقيق. وقد قدم إلينا ماكتجارت ذاته مفتاحا لفهم هذا الطابع المزدوج لتفكيره في الجملة التي ختم بها كتابه الأول: «إن كل فلسفة حقة ينبغي أن تكون صوفية، ولكن ليس في مناهجها، وإنما في استنتاجاتها النهائية.»
92
ويعبر عنوان مؤلفه الرئيسي عن المشكلة الرئيسية فيه، فما الذي يمكن أن يقال عن العلامات المميزة لكل ما يوجد أو للوجود في مجموعه؟ إن الوجود - من حيث هو تصور - هو أضيق نطاقا من تصور الواقع
reality ، من حيث إن هناك واقعا لا يوجد بالضرورة، بينما ليس ثمة موجود إلا وهو واقع بالضرورة. وهو، على أية حال، يصف الواقعية والوجود بأنهما غير قابلين للتعريف، فإذا نظرنا إلى التمييز بين الواقع الموجود والواقع غير الموجود، وجدنا أن الأهمية الوحيدة التي تلحق بالثاني إنما هي أهمية نظرية بحتة، أما الأول - فنظرا إلى أن له أهمية عملية كبرى - فإن ماكتجارت يحدد لنفسه مهمة أضيق نطاقا هي البحث فيه، فمشكلته هي طبيعة «الوجود
existence »، ومنهجه استنباطي أولي، وهو يبرز أولا الطابع العام للوجود، ثم يناقش المشكلات الخاصة للوجود التجريبي. والجزآن يناظران مجلدي كتابه على التوالي، ففي الجزء الأول، الذي هو من أروع أعمال التفكير المنهجي الدقيق، والذي يمثل أعلى قمة بلغها ذهنه المنطقي الحاد، في هذا الجزء يقف ماكتجارت وحده بين الفلاسفة الإنجليز في جميع الفترات، صحيح أن الفلسفة الإنجليزية قد ساهمت بالكثير، منذ الأجزاء الأولى في القرن التاسع عشر، في مجال المنطق الصوري، وأن هذا المبحث، الذي هو أكثر المباحث تجريدا، قد بلغ في «الحساب المنطقي
Logical calculus » أعلى ما بلغه من القمم، ولكن لم يجرؤ أي مفكر قبل ماكتجارت على أن يطرح في الميتافيزيقا، التجربة جانبا باحتقار، ويقدم تفسيرا أوليا محضا للكون. ومن هنا لم يكن من المستغرب أن محاولته، وإن تكن قد لقيت إعجابا من آن لآخر لما فيها من جدة وغرابة، قد قوبلت منذ البداية بالارتياب، ولم تجد لها أنصارا، فهي لم تلق ذلك الصدى الرنان الذي لقيته فلسفة برادلي مثلا، على الرغم من أنها كانت في وضوحها، وإحكامها، وعمق فكرها، تفوق هذه بكثير.
وهناك شيء من التشابه بين منهجه في البرهان المطلق، الذي اتبعه في الجزء «الأولي» من ميتافيزيقاه، وبين الديالكتيك الهيجلي، غير أن المقارنة بين المنهجين لا تسفر إلا عن نتائج ضئيلة، نظرا إلى ما اتصف به منهج ماكتجارت من فردية تامة، وإلى أنه قد وضع لكي يلائم الغايات الخاصة لفلسفته فحسب. ولقد كان ماكتجارت نفسه شاعرا بذلك، على الرغم من ميله إلى الانتساب إلى هيجل، فاعترف بأن منهجه «ليس هيجليا بالمعنى الدقيق»،
93
وإن كان قد رأى أنه أقرب إلى منهج هيجل منه إلى أي منهج آخر. والواقع أن لدى ماكتجارت سلسلة من التحديدات المنطقية المتعاقبة، غير أنها لا تسير حسب النمط الثلاثي لمقولات هيجل، كما أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى ليس ضروريا من الوجهة المنطقية على الدوام (بل إنه يترك المجال مفتوحا، في بعض الحالات، لإمكان ظهور تحديدات أخرى)، وفضلا عن ذلك فهو لا ينظر إلى المقولات الدنيا على أنها مشوبة بالخطأ بالضرورة، بل يؤكد حقيقتها النسبية أكثر مما يؤكد افتقارها إلى الحقيقة المطلقة.
والفارق الأساسي بين تفكير هيجل وتفكير ماكتجارت هو أن الأول عيني مشبع بالتجربة، بينما الثاني مجرد، بعيد عن التجربة. فقد كان ماكتجارت على الدوام حريصا على أن يحتفظ لتحديداته الصورية بنقائها الأولي الذي لا تشوبه أية شائبة من المادة التجريبية، ومن الطبيعي أنه لم يستطع أن يحقق هذا الهدف على طول الخط؛ إذ يبدو أن من الضروري الالتجاء إلى التجربة على وجهين، من أجل دفع عجلة العملية الاستنباطية، فمن الممكن في البداية تأكيد الوجود الخالص، واستنباط صفاته بطريقة أولية، غير أن كون أي شيء موجودا بالفعل في الواقع هو أمر لا يعرف إلا بالرجوع إلى التجربة، فالقضية القائلة إن ثمة شيئا يوجد، ترتكز على الإدراك الحسي، وهي المقدمة الأساسية لكل استنباط تال؛ لذلك فإن بداهتها تجريبية، غير أن يقينها لا يقل عن يقين البداهة الأولية. على أن القول بأن ثمة شيئا يوجد، يعني في رأي ماكتجارت، أن ثمة جوهرا يوجد، وهنا تثار مسألة ما إذا كانت توجد كثرة من الجواهر أو جوهر واحد، أو بعبارة أخرى: ما إذا كان الجوهر متنوعا أم لا. هذه، في رأي ماكتجارت، مسألة يمكن البت فيها بالاستنباط المحض؛ إذ إن تنوع الجوهر يتلو من اليقين الأولي القائل إن الجوهر لا يمكن أن يكون بسيطا، غير أنه يؤثر أن يلجأ إلى البرهان التجريبي، ويبين أن إدراكا حسيا واحدا كفيل بإثبات أن الجوهر متنوع، وإذن فالجوهر موجود، وهو ليس واحدا بل كثير.
Shafi da ba'a sani ba