Falsafar Ingilishi A Cikin Shekaru Dari (Sashi Na Farko)
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Nau'ikan
82
وأن التفاؤل المفرط الذي يتخلص به برادلي من هذه المشكلات الخطيرة، وتشويهه للحقائق في صورة أقرب إلى رغبته الشخصية، ليشكك المرء فيما إذا كان من الممكن للمطلق أن يبعث ذلك الرضاء «النظري» الذي ابتدعه من أجله.
وكما رأينا من قبل، فإن المجال فوق الأخلاقي الذي تهفو إليه الحياة الأخلاقية هو الدين. ولم تكن لبرادلي صلة وثيقة أو أساسية بالأمور الدينية، وإن المرء ليحس بأن ما قاله عنها سطحي، وبأنه ليس ناتجا عن معاناة وتجربة، وإنما عن تفكير نظري قام به وهو قابع في مقعده الوثير فحسب. وهو في هذا يقول إنه رغم أن الدين مطلق بالنسبة إلى الأخلاقية، فإنه بالنسبة إلى «المطلق» مجرد مظهر. وتؤدي التناقضات الداخلية التي يهتدي إليها برادلي في الدين إلى دفعه إلى تجاوز ذاته، ليصل إلى كمال الكل الميتافيزيقي الأعلى. فما هي إذن العلاقة بين الله وبين المطلق؟ إن الله لا يكون إلها إلا بقدر ما يكون هو الكل، ولكنه بهذا المعنى ليس هو الله، كما تعرفه الأديان، الذي هو أقل من المطلق. وهكذا فإن تصور الله ينجذب بدوره، بعد كل التصورات الأخرى، في الدوامة الديالكتيكية، فهو ليس الكل وإنما هو وجه واحد، وبالتالي مجرد مظهر، بحيث ينبغي أن يطرأ على الله، ومعه الدين، ذلك التحول الذي يغوص به في «الواحد» الميتافيزيقي النهائي، ولا شك أن هذا الحل - أو قل هذا الانحلال - الغريب محتم بالنسبة إلى مذهب برادلي؛ ذلك لأنه بعد أن نظر إلى الشخصية على أنها حزمة من المتناقضات، وبالتالي على أنها حقيقة من مرتبة أدنى، لم يعد أمامه بد من أن يعزو إلى المطلق طبيعة فوق الشخصية، وأن يصفه من خلال فكرتي الاتساق والانسجام، أما الدين فكان بالنسبة إليه مسألة عملية، ونظرا إلى أن صوره وتصوراته تتجه أساسا إلى تحقيق غايات عملية، فلا يلزم أن تخلو من التناقضات النظرية. أما كون معظم الأديان تصور الكائن الأعلى على أنه شخص، فتلك مجرد نتيجة للحاجة البرجماتية التي تعبر عنها هذه الأديان. وعلى أية حال فإن هذا التصوير، كما يقول برادلي، لا يمكن أن يفي بمقتضيات المبدأ الميتافيزيقي الذي يسميه المطلق؛ ومن ثم فهو يقصر دونه.
فالمطلق إذن هو الغاية التي تسعى إليها كل الأشياء، والذي تؤثر كل الأشياء، من أجله، أن تضحي بطبيعتها الخاصة على أن تظل على حالتها القلقة الراهنة؛ وعلى ذلك فإنه هو المعيار الأسمى لكل قيمة، وهو ما يجعل الصحيح صحيحا، والجميل جميلا، والخير خيرا، «إن المطلق إنما وجد ليضمن أن يكون للأعلى، في كل الأحوال، أكبر مكانة وأن يكون للأدنى أقلها.»
83
فهو الواقعي بمعنى مؤكد أو رفيع، وهو الواقعي بوصفه قيمة، أما كل ما في عالم المظهر فهو مغترب عن طبيعته الخاصة، وبالتالي فهو دائما في عملية انتقال من طابعه المتناهي إلى كماله الحقيقي، فكل هذه الأشياء في صيرورة وتغير دائمين، وهي لا تصل إلى الكمال في ذاتها، ولا تحمل في ذاتها معنى وجودها الحقيقي.
ولكن ألا تعني هذه الحركة الدائمة نحو الكمال وتحقيق المثل الأعلى، أننا نقلل إلى حد بشع من القيمة الحقيقية الصحيحة للأشياء، ونلغي تماما كل ما تكونه وما تفعله هنا، والآن؟ أليس مما يزيد الأمر سوءا أن يترك المثل الأعلى دون أي تحديد أو تمييز، بحيث لا يمكنه أن يقدم تعويضا كافيا عن هذه التضحية الشديدة للأشياء التي لا تعود على ما هي عليه مطلقا؟ لقد شعر برادلي ذاته بهذه الصعوبة، وحاول أن يخففها في فصل (رأى الكثيرون أنه لا يرتبط بأفكاره الرئيسية ارتباطا حقيقيا) عن «درجات الحقيقة والواقع»، وفي بعض الشروح المكملة في كتابه «أبحاث في الحقيقة والواقع»، فهو في هذه المواضع يقول إنه لا يلقي بكل الأشياء دون تمييز في حومة المطلق، فمتى في عالم المظهر القائم الناقص، يوجد تمييز بين درجات أو مستويات تحدد تبعا للقرب أو البعد عن المثل الأعلى الذي يضعه المطلق، وبالمسافة التي تفصل بين أي مظهر وبين المثل الأعلى - أي درجة واقعيته - وتقاس هذه الدرجة بمقدار التغير اللازم لإدخال المظهر في نسق الواقع، فجميع الأشياء - بالقياس إلى المطلق - نسبية، غير أن هناك درجات النسبية، وبالتالي - بمعنى ما - درجات من الواقعية أو من الطابع المطلق
absoluteness ، وهذا هو الذي يتيح ترتيب درجات الأشياء، فالبدن والذهن مثلا هما معا مجرد مظهرين، غير أن الذهن أقرب إلى الواقع. وهكذا فإننا لو نظرنا إلى كل شيء من مستواه الخاص، لرأينا له قيمة نسبية خاصة به، تقدر تبعا لمدى اشتماله لطبيعة الكل العيني، الذي هو الواقع، ومدى تعبيره عنها، ومثل هذا يقال عن الحقيقة، فالمستويات الدنيا للمعرفة، إذا ما نظر إليها من المستويات العليا، تبدو متناقضة مفتقرة إلى الترابط، ولكنها إذا ما نظر إليها في ذاتها، وقيست تبعا لدرجة وضوحها الخاص، تغدو متسقة صحيحة، وهنا يزداد برادلي اقترابا من المعنى العميق لفكرة هيجل في المراحل الديالكتيكية، ويقدم عرضا أفضل للمعنى الحقيقي للتمييز الأساسي بين المظهر والواقع، لا بالنسبة إلى مذهبه الخاص فحسب، وإنما بالنسبة إلى جميع المذاهب المثالية بوجه عام.
أبرز سمات فلسفة بوزانكيت قرابتها الوثيقة من فلسفة برادلي، وكأن الرجلين يكونان شركة، يمثل فيها برادلي الذهن المنشئ الذي جاء بالبادرة الأولى وأخصبها بعد ذلك، ويمثل بوزانكيت - عموما - الذهن الأكثر تفتحا والأقدر على العمل والتنفيذ. غير أن من الإسراف أن يقال - كما فعل البعض في الآونة الأخيرة - إنه يكاد يكون من الممكن النظر إلى الاثنين على أنهما شخصية فلسفية واحدة؛ ذلك لأنه، على الرغم مما بينهما من اتفاق كبير في الموقف العام فضلا عن التفصيلات، فليس من الصحيح أن تسمى فلسفة بوزانكيت مجرد ترديد لفلسفة برادلي، فهي تمثل إعادة بناء مستقلة وتوسيعا وتطبيقا لتعاليم برادلي، قام به مفكر أصيل تصادف أنه متفق مع برادلي، وإن لم يكن يقل عنه مقدرة، فليس أحدهما هو المعطي والآخر هو الآخذ فحسب، بل لقد كان بين الاثنين تبادل مثمر للآراء، كان برادلي فيه هو المستفيد في أحيان غير قليلة.
ولقد كان بين حياة كل من برادلي وبوزانكيت اختلاف هائل، (على الرغم من أن بداية حياتهما ونهايتها كانتا متفقتين في الزمان تقريبا). وقد انعكس ذلك الاختلاف أيضا في عقليتهما وطريقتهما في التفلسف، فقد كانت طبيعة برادلي منطوية منعزلة، ولم يشغل منصبا تعليميا، ولم تكن له واجبات تستحق الذكر، وهو لم يكن تواقا إلى النشاط العملي، وإنما ظل مغلقا على ذاته، منصرفا بكليته إلى حياة التأمل، وقضى حياته كلها بين جدران كليته في منفى اختياري عن العالم. أما بوزانكيت فكانت له، على العكس من ذلك، طبيعة إيجابية عملية، وقدرة هائلة على العمل، ولم يستطع أن يقنع بالحدود الضيقة لحياة المحاضر الجامعي إلا فترة محدودة، فبعد عشر سنوات قضاها في هذه الحياة، وجد مجالا أوسع وأبرز للعمل في لندن، حيث كان يقوم بالمساعدة في تنظيم الخدمات الاجتماعية ويحاضر في الجمعيات الفلسفية وفي فصول كانت قد بدأت تنشأ عندئذ بموجب حركة تعليم البالغين الجديدة. وعلى حين أن برادلي لم ينشر إلا أربعة كتب من جميع الأحجام، فإن بوزانكيت ، الذي كان من أخصب كتاب الفلسفة في عصره وأوسعهم مجالا، نشر ما يقرب من العشرين.
Shafi da ba'a sani ba