لماذا الفلسفة بصيغة المؤنث؟
إديث شتاين ... نحو فينومينولوجية لاهوتية
سيمون فايل: فيلسوفة المصنع والشرط العمالي
صبا محمود: نحو أنثروبولوجيا الإسلام
نادية دو موند: الوعي بالذات خطوة أولى لتحرير النساء
جوديث بتلر فيلسوفة النوع والهوية: كيف نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟
الفيلسوفة السينمائية آين راند: ما نوع العالم الذي نعيش فيه؟
نانسي فريزر: الحاجة إلى فضاء عمومي عابر للأوطان
سيلا بن حبيب: سيرتها، فلسفتها السياسية ومواقفها
المراجع والمصادر
الباحثة سيلا بن حبيب وتأملات في الربيع العربي
الشرط الإنساني ومشكلة الشر
لماذا الفلسفة بصيغة المؤنث؟
إديث شتاين ... نحو فينومينولوجية لاهوتية
سيمون فايل: فيلسوفة المصنع والشرط العمالي
صبا محمود: نحو أنثروبولوجيا الإسلام
نادية دو موند: الوعي بالذات خطوة أولى لتحرير النساء
جوديث بتلر فيلسوفة النوع والهوية: كيف نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟
الفيلسوفة السينمائية آين راند: ما نوع العالم الذي نعيش فيه؟
نانسي فريزر: الحاجة إلى فضاء عمومي عابر للأوطان
سيلا بن حبيب: سيرتها، فلسفتها السياسية ومواقفها
المراجع والمصادر
الباحثة سيلا بن حبيب وتأملات في الربيع العربي
الشرط الإنساني ومشكلة الشر
الفلسفة بصيغة المؤنث
الفلسفة بصيغة المؤنث
تأليف
رشيد العلوي
لماذا الفلسفة بصيغة المؤنث؟
عديدة هي الكتب التي تحدثت عن موضوع المرأة والفلسفة من قبيل: نساء- فلاسفة، الفلاسفة والمرأة، نساء الفلاسفة ... وأغلب الظن أنها تعالج علاقة الفلاسفة بالمرأة لبيان مواقفهم الحياتية من المرأة عامة، أو لإبراز دور بعض النسوة في حياة الفلاسفة، كما عالجت موضوع الحب من منظور الفلاسفة؛ ليقف البعض منها عند تجارب الحب التي خاضها بعض الفلاسفة مع النساء ... وقليلة هي الكتب التي عالجت أفكار بعض النساء-الفلاسفة؛ حيث تم التركيز تحديدا أغلب الأحيان على فيلسوفات بارزات من قبيل: هيباتيا، حنة آرنت، جوليا كريستيفا، سيمون دي بوفوار ...
نذهب في هذا العمل إلى البحث في سيرة وفلسفة بعض النساء اللواتي دخلن عالم التفلسف من بابه الواسع، وتحملن عبء التفرغ للفكر الفلسفي تدريسا وتأليفا في مجتمعات ذكورية بامتياز؛ حيث جددت الرأسمالية آليات السيطرة والهيمنة الذكورية على عالم الفكر. وخصصن معظم أوقاتهن للتنقل بين الجامعات، ومنهن من تحملت ويلات الحروب والاضطهاد الفاشي والديني واللغوي والثقافي خاصة في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما نجد منهن من تخلين عن الحياة الأسرية وعزفن عن الإنجاب للتفرغ للفلسفة، إن لم نجد منهن من لها ميولات جنسية مختلفة ضدا على المجتمع الذكوري، وبحثا عن اعتراف من نوع آخر.
من المعلوم جيدا أن الفلاسفة-الذكور قد هيمنوا على تاريخ الفلسفة، فلاسفة-ذكور لم ينفلت منهم من سلطة المجتمعات الذكورية إلا النزر اليسير، ولكن مع تناسل مقاومات الحركة النسائية وانتزاعها لحق المساواة والحرية والإنصاف لولوج مجالات عمل كانت إلى عهد قريب حكرا على الرجال، ومع الدور الذي لعبته الأنظمة الاشتراكية والحركات النسائية في العالم، سيتعزز دور المرأة في المجتمعات الغربية تحديدا والتي أقرت أنظمة علمانية منحت للنساء حقوقا لم يكن يسمح بها من ذي قبل.
في مجتمعات اليوم لم يعد السؤال يتعلق بالحاجة إلى تحرير المرأة كما طرح في القرن التاسع عشر (مع الموجة النسوية الأولى)، بل صار السؤال ينصب حول مستقبل هذا التحرر، من جهة أن هناك مشكلات جديدة صاحبت الاعتراف بالمرأة ودورها السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، من قبيل الحقوق الجنسية، والاختلاف الجنسي والتحول الجنسي ... ناهيك عن التعدد الثقافي والديني واللغوي.
ماذا لو قلبنا التاريخ رأسا على عقب، فإذا كان تاريخ الفلسفة في مجمله تاريخا ذكوريا بامتياز كتبه فلاسفة ذكور، فماذا عساه يصير لو كان تاريخا نسويا؟ ماذا لو كانت النساء هن اللواتي لعبن دورا هاما في تاريخ الفلسفة؟ ألن نجد أنفسنا أمام قضايا فلسفية مغايرة، ومنهجيات فلسفية مختلفة، ولربما أمام فكر مختلف جذريا عن فلسفة الفلاسفة الذكور، وأمام فلسفة جديدة حتى لا نقول فلسفة نسوية؛ لأن هذا النعت يضمر بين ثناياه نزعة ذكورية؛ حيث يتم التمييز بين فلسفة ذكورية ونسوية؟
ستكون لثورة المساواة في الحقوق ولولوج عالم الشغل والفكر والثقافة انعكاسات جديدة على بنيات التفكير، وعلى طبيعة القضايا الفلسفية كما نجد ذلك في عالم السياسة والاقتصاد. لذا نعتقد - دون الجزم في ذلك - أن التاريخ المقبل للفلسفة سيكون تاريخا مغايرا ومختلفا، ليس بسبب ثورة المساواة والحقوق وحدها، وإنما بسبب اجتياح النساء لنسب الساكنة العالمية، وتفوقهن في مجالات التعليم والسياسة والاقتصاد على حد سواء، وبسبب ثورة الحب كما نظر لها لوك فيري وألان باديو.
نجد أنفسنا في هذا العمل أمام فكر فلسفي يطرح قضايا سياسية راهنة تتصل بالفلسفة السياسية تحديدا؛ حيث سنلتقي بوجوه بارزة لعبت أدورا هامة في التنظير لقضايا لم تطرح من قبل، كما هو الشأن بالنسبة للفيلسوفة جوديث بتلر
Judith Butler
أو سيلا بن حبيب
Seyla Benhabib ، أو نانسي فريزر
Nancy Fraser ، وبوجوه لم تلق كامل الحفاوة والاهتمام في الجامعات وكليات الفلسفة على الأقل في عالمنا العربي من قبيل سيمون فايل
Simon Weill
وصبا محمود
Saba Mahmood
وإديث شتاين
Edith Stein
وآين راند
Ayn Rand ، وبفيلسوفة نقدية معاصرة تنتمي إلى المدرسة الماركسية وتحاول إعادة النظر في موضوع البطريركية (الأبوية) وفق مستجدات البحث الأنثروبولوجي والسوسيولوجي الراهن: نادية دو موند
Nadia de Monde .
إذا كان اهتمام إديث شتاين ينحصر أساسا في الفينومينولوجيا متأثرة بأستاذها إدموند هوسرل
E. Husserl
وفي الأنثروبولوجيا الفلسفية، وتكبدت عناء العيش في كنف حيث حرمتها الحياة من الأبوة، واختارت عنوة حضن الكنيس هربا من ويلات النازية التي لاحقتها إلى كرملية هولندا لتتخلص منها بمعية أختها روز في أبشع الصور في محرقة أشفيتز الغازية سنة 1942، فإن اهتمام آين راند التي اختارت الهروب من الاتحاد السوفياتي في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، سينصب حول النزعة الموضوعية حيث تبحث عن عالم خاص بجون غالت (بطل روايتها الإضراب): عالم فرداني بامتياز، حيث تعلي قيم «فضيلة الأنانية» (عنوان كتابها المميز) بدل قيم كانط المتعالية، فعبارتها المدوية: «امنحني الحرية أو الموت»، تقر أن الفرد يمتلك قيمته في ذاته، من جهة أنه مكتف بذاته ولا يتوجب أن تحبسه الغيرية التي أفسدت على الفرد قيمه الأخلاقية النبيلة. ووراء السعي نحو التخلص من قيم الغيرية فإن من واجبات الدولة العمل فقط على حفظ مصلحة الأفراد الذاتية؛ لأننا «لسنا دولة ولا مجتمعا بقدر ما نحن تجمع بشري مبني على إرادتنا ويستجيب لمصلحتنا الفردية». وهؤلاء الأفراد يتقاسمون مجموعة من القيم خارج أية قوانين أو قواعد؛ لذا لا ينبغي أن نقبل إلا القيم الموضوعية الضامنة لروح الأنانية العقلية أو أنانية المصلحة الفردية التي تمثل نقيض الغيرية أو عقلية القطيع (الجماعية)، حيث الفرد هو أساس كل الأخلاق يوجد لذاته وليس لغيره.
ما يجمع هاته الوجوه في اعتقادنا هو ذلك الصوت النسوي النقدي الذي تغفله بعض الأقلام الفلسفية ولا تمنحه ما يستحق من اهتمام. فجميعهن رغم اختلاف مشاربهن واتجاهاتهن الفلسفية وانتماءاتهن العقدية واختياراتهن السياسية تركن أثرا فلسفيا عميقا، ناهيك عن الخيوط الناظمة لبعض المفاهيم التي نحتناها حيث التداعي قائم: الحق في كافة الحقوق، الشر، التوتاليتاريا، الاعتراف والرغبة (حيث التوليف بين اسبينوزا وهيجل كما فعلت بتلر) ...
لا يسعنا في مجتمعاتنا الذكورية بامتياز رغم الكليشيهات التي تظهرها بعض الأنظمة السياسية في هذه الرقعة من العالم، إلا أن نعلي من شأو التفكير الفلسفي الذي تركته هاته الوجوه النقدية وغيرها (وأغلبهن لا يزال على قيد الحياة) في سبيل الدفع بتفكير من هذا النوع في مجتمعاتنا؛ حيث لا تزال النساء عرضة لكل أنواع الاضطهاد والتهميش والتحقير بفضل بنيات التسلط الذكورية المتعششة في تربتنا، والتي ترسخها في عالم اليوم تيارات محافظة لن تزيدنا إلا انتكاسة نحو الوراء (الماضي الذهبي الذي يحلمون به وينادون به حيث تطالب المرأة بالخنوع والطاعة والخضوع لسلطة الرجل بدعوى «ناقصة عقل ودين»). فالتنوير يقتضي أول الأمر الخروج من حالة الوصاية والخضوع، فكيف يمكن قبول ما نشاهده يوميا من مآس وجرائم في حق النساء، والدعوة إلى جهاد النكاح، وإلى حق سبي نساء العدو (هذا إذا صح فعلا أنه عدو؟) ... كيف لنا السكوت عن أنظمة الذل التي تبتغي إبقاء الوضع على ما هو عليه؟
يزداد لدي اليقين أن ثورة الحقوق والمساواة قد أدت فعلا إلى تحولات عميقة بدأت تظهر بوادرها في مجموع الكوكب الأزرق. ورغم أن هدف الليبرالية السياسية والرأسمالية العالمية هو إدخال النساء في إطار أسطورة «مقاربة النوع» إلى عالم المال والأعمال بهدف تلطيف الاستغلال وترسيخ الاستعباد الجديد للنساء، فإنها في حقيقة الأمر تحفر قبرها بنفسها؛ لأن الفردانية كمبدأ قد يؤدي بالمجتمعات المعاصرة إلى نتائج عكسية. يتم تبرير الفردانية بدعوى الحرية الفردية التي هي شرط الديمقراطية الليبرالية، لكن يتم تناسي أن الحرية في شموليتها والسياسية تحديدا هي شرط لا مناص منه؛ لأن منح الاستقلالية المادية للمرأة هو مفتاح تحررها الشامل. هكذا ترى نادية دو موند أن «النساء تستعمل كجيش احتياطي للصناعة (ماركس) في الاقتصاد الرأسمالي، يدمج في فترات التوسع الاقتصادي ولكنه يسرح في فترة الانكماش الاقتصادي أو فترات الأزمة ... ويتم تبرير هذه الممارسة بفكرة أيديولوجية مفادها أن الرجل هو من يلبي أساسا حاجيات الأسرة، وأن المكان الطبيعي للمرأة هو المنزل كربة بيت. وتستخدم النساء مكان قوة العمل الذكورية لإضعاف الطبقة العاملة وتقسيمها. كما تستعمل النساء بطبيعة الحال في أقسام «ضعيفة» و«هامشية» من الطبقة العاملة كما هو حال المهاجرين والمهاجرات.» لذلك تذهب نانسي فريزر في كتابها: حظوظ النسوية
Fortunes of Feminism
إلى ضرورة قطع الصلة مع النيوليبرالية لبناء مجتمع متضامن؛ حيث تقول «تتيح الأزمة الحالية الفرصة لتولي زمام الأمور وربط حلم تحرير المرأة برؤية لمجتمع متضامن. ولكي تتحقق هذه الغايات، تحتاج النسوية لقطع علاقتها بالليبرالية الجديدة، واعتماد «ثلاث مساهمات» لخدمة أغراضها الخاصة:
أولا:
يجب علينا أن نقطع الصلة الزائفة بين نقد مستوى دخل الأسرة والرأسمالية المرنة، والعمل لخلق شكل من الحياة لا يركز على أسعار/أجور العمل وتعزيز الأنشطة غير المأجورة، بما في ذلك أعمال الرعاية.
ثانيا:
علينا أن نغير مسارنا من السجال حول اقتصاد السوق إلى الهوية السياسية، بحيث يتم دمج النضال لتقديم شكل يناهض القيم الذكورية ويسعى لتحقيق العدالة الاقتصادية أيضا.
أخيرا:
علينا قطع الصلة بين سجالنا حول البيروقراطية وأصولية السوق الحر من خلال استدعاء عباءة الديمقراطية التشاركية كوسيلة لتعزيز السلطات العامة اللازمة لتحجيم رأس المال من أجل عدالة اجتماعية. هكذا «ظهرت موجات النسوية كنقد للرأسمالية في شكلها الأول، إلا أنها أصبحت خادمة للرأسمالية في ثوبها الجديد الذي ظهر بعد الحرب.»
تجد الفلسفة بصيغة المؤنث شرعيتها في طبيعة الموضوعات التي تناولتها الوجوه المنتقاة في هذا العمل بقليل من التفصيل، ولكن بعمق فلسفي حي يروم إبراز دورها في تاريخ الفلسفة المعاصر. وفي انتظار وجوه أخرى في نفس المجال فإننا نتقدم بالشكر الجزيل لكل الصديقات والأصدقاء اللواتي والذين قدموا ملاحظاتهم في مناسبات مختلفة، دون أن ننسى الدكتورة الفاضلة رجاء بن سلامة التي وفرت من وقتها الكثير للاطلاع على هذا العمل ومراجعته، وتجشمت عناء التقديم له، فألف تقدير واحترام لها على جهودها في سبيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
إديث شتاين ... نحو فينومينولوجية لاهوتية
لم تعش أكثر من خمسة عقود، لكنها تركت ما لم يتركه من عمر ما يقارب القرن. يتعلق الأمر بالفيلسوفة اللاهوتية، إديث شتاين
Edith Stein (1891-1942): يهودية الهوية وألمانية المنشأ. لم يأسر قلبها ولا عقلها أي من الأديان، إلا بعد أن خبرت الحياة وسبرت أغوار الحقيقة من كل الجهات.
تتلمذت على يد الفينومينولوجي الشهير، إدموند هوسرل، الذي عينها مساعدة له سنة 1917، بعد وفاة معاونه الأول الدكتور ريناخ. التحقت إديث بجامعة فريبورغ سنة 1913، وأعدت فيها أطروحة الدكتوراه في الفلسفة، دراسة فينومينولوجية، تحت عنوان: «تسرب الانفعالات والعواطف»، حاولت من خلالها تجاوز مقاربة علم النفس، نحو علم يخص الظواهر الإنسانية؛ للكشف عن عمق الباطن الفردي، وما يفعل فيه من إحساسات تترجم في حدوس عقلية وانفعالية.
كان لفقدان إديث لأبيها ولثلاثة من إخوتها (وهي واحدة من ضمن عشرة إخوة)، وهي في سن الثانية من عمرها، أثر بليغ في مسارها اليومي. وقد تكفلت أمها بإعالتها هي وإخوتها، غير أن إديث شتاين ستشق لنفسها طريقا آخر غير ما ورثته من التقاليد اليهودية، وهذا ما عبرت عنه في كتابها «قصة حياة يهودية»، الذي يعد سيرة ذاتية غير مكتملة، حكت فيها عن طفولتها وانفعالاتها وعنفوانها، وعن علاقاتها في مراحل مختلفة من حياتها. لم تسعفها الظروف الحياتية لتصير فيلسوفة معروفة في الأوساط الأكاديمية، بالنظر إلى وضعها بصفتها يهودية مهددة في حياتها، بعد صعود النازية إلى الحكم في الثلاثينيات. وقد كان حدسها صحيحا؛ حيث أحرقت بمعية أختها الطبيبة روز (التي ساعدتها على التطبيب في الحرب العالمية الأولى تضامنا مع زملائها في الدراسة الذين تطوعوا للقتال دفاعا عن الوطن)، في محرقة أشفيتز الغازية سنة 1942، على الرغم من انتمائها إلى الطائفة المسيحية، فيما بعد، واعتكافها على تربية الراهبات في الكرملية الهولندية (إيخت) لسنوات عدة. مع العلم بأن هيدغر رشحها لمنصب جامعي ودعمها، إلا أن النازيين وقفوا في وجهها بسبب أصلها اليهودي.
أصدرت إديث في حياتها كتبا فلسفية ومعرفية عدة ركزت على قضية المرأة، والحقيقة والتربية والوضع الإنساني. في كتابها «العلم والإيمان»، بنت حوارا أخاذا بين هوسرل وتوما الأكويني. وفي «بناء الكائن البشري»، نجد بحثا في أصل الجنس البشري وتطوره وأعراقه ومعتقداته، وهو البحث الذي عرف، فيما بعد، ب «الإناسة اللاهوتية». أما كتابها «جوهر الحياة»، أو «الحياة في شموليتها»، فتعالج فيه قضايا تربوية عدة: تربية الروح والنفس، وما تقتضيه من قوى روحية من شأنها أن تجعل من الحياة بكاملها مشروعا يندفع نحو الحقيقة، لتعرج فيه على أهمية الحضور النسوي في التعليم. هذا ناهيك بكتاب «فن التربية» و«في الشخص». وفي كتابها عن «قدر المرأة»، كانت إديث سباقة إلى الحديث عن المرأة ودورها في المجتمع، حيث تتساءل: هل المرأة من طبيعة أنثوية؟ ما الهدف من تعليم المرأة؟ محاولة أن تعالج قضايا المرأة من باب أخلاقية المهن النسائية، أو فيما سمته «تكامل المرأة في جسد المسيح السري»؛ حيث تدعو الرجل والمرأة معا، ليكونا ضمن نظام الطبيعة ونظام النعمة. ولا شك في أنها متأثرة كثيرا بوضعية أمها التي عالت إخوتها وبالسيدة آن رينر.
كتبت في مجال اللاهوت: «صلاة الكنيسة وسر الميلاد»، و«علم الصليب»، وترجمت كتاب توما الأكويني «في الحقيقة».
خالطت شتاين كبار عمالقة الفكر الفلسفي الألماني طوال سنوات خلال تحضيرها أطروحتها الجامعية، وخلال اشتغالها محاضرة فيما بين 1923 و1933. وانتقلت إلى المعاهد الكاثوليكية بعد أن أعفيت من الأستاذية؛ لتعيش حياة الرهبنة، مهرولة إلى اللاهوت لقراءة المفكرين المسيحيين، لا سيما القديس توما الأكويني. وقد كان لهذا التغير المفاجئ وقع على أصدقائها اليهود، بحيث اتهمت بالهروب من جحيم النازية، الذي لم تسلم منه. وصاحبت كلا من أدولف رينر، الذي يعد الذراع اليمنى لهوسرل ، وجون هيرينج، وهانز ليبس، وماكس شيللر (في الصليب الأحمر الألماني)، وهيدغر، وانخرطت في حلقة الفينومينولوجيا. يمكن تقسيم أعمال الفيلسوفة الراهبة شتاين - بحسب المتخصص في فلسفتها اللاهوتية، جون فرنسوا لافين - إلى ثلاثة محاور:
يتعلق الأول بتحليل الشخص البشري كما يعيش نوازعه وانفعالاته الداخلية، منطلقا من سؤال: من أكون؟ إلى أي نوع من الموضوعات ينتمي الأنا؟ ما الروابط القائمة في تشكلنا: الجسد، الملكات العقلية، الروح، الحساسية، الأحاسيس؟ وذلك للبحث عن تصور شمولي للكائن البشري.
أما الثاني، فيخص التربية؛ فلأجل تربية الكائن، يجب التوجه إليه كما هو؛ كما يحس داخليا ووفق معرفته الباطنية. وهو ما جسدته، فعليا، في الكرملية، حيث عمقت بحثها في الظواهر الإنسانية.
ويتعلق المحور الثالث، بمجال الميتافيزيقا، حيث اطلعت على توما الأكويني؛ إيمانا منها بأن البحث عن الحقيقة هو أسمى ما يمكن أن يقودها إلى فهم ما يحيط بها من ظواهر إنسانية. ولا شك في أن لكتاب هيدغر، الكينونة والزمن، (صدر سنة 1929)، أثرا بالغا على محاضراتها في تلك الفترة، التي نجد فيها تأملات فلسفية عميقة مشحونة بعاطفة جياشة مفعمة بالأمل.
وإلى جانب كتابها في مسألة الدولة، يشكل بحثها تحت عنوان: «الكينونة الفانية والكينونة الأبدية»، (وهو أضخم كتبها؛ يقع في 530 صفحة)، أعمق تأمل فلسفي في قضية الغير، والتعاطف، محاولة استجلاء القول، وبيان عمق البينذاتية
l’intersubjectivité
في بعدها الفينومينولوجي. فالتعاطف
Empathy ، يسير في اتجاه تحقيق الذات، بالارتكاز على خبرتك في فهم الذات الإنسانية، وهو ما يتطلب تركيزا لفهم الأنا التي لا تظهر للعيان على حقيقتها. تزداد صعوبة التعاطف خلال اللقاء بالناس؛ لأن كل واحد منهم يحمل «أنا» خاصة محملة بخبرات متنوعة ظاهرة. وعلى هذا الأساس، تشدد إديث على ضرورة فهم الآخر، عبر نظرية التعلم واكتساب المعرفة؛ وبذلك تشاطر ماكس شيللر في مقاربته لإشكالية معرفة الغير.
سيمون فايل: فيلسوفة المصنع والشرط العمالي
تحقيق حاجة شعب إلى الحقيقة يلزمها توافر أناس يحبون الحقيقة.
عملت الفيلسوفة سيمون فايل
S. Weil (1909-1943) أستاذة مبرزة في الفلسفة في التعليم الثانوي لمدة أربع سنوات، إلا أنها سرعان ما ستتخلى عن وظيفتها، بعد أن قررت أن تصبح عاملة في المصانع الفرنسية، بفضل أفكارها الماركسية (معادية للستالينية)، حيث تبدي دوما تعاطفا لا متناهيا مع الفقراء والبسطاء الذين تقتسم معهم كل ما تملك، بما فيها أجرتها الشهرية (قررت العيش بخمسة فرنكات فرنسية في اليوم، وتودع ما تبقى من أجرتها الشهرية في صندوق التضامن مع عمال المناجم). وكانت سيمون تلتقي مع العاطلين والعمال في المقاهي، وتمنحهم ثقافة عامة للالتزام السياسي، فيما يشبه تعليما شعبيا للجميع، تبسط فيه قضايا راهنة وإشكالات المجتمع الغربي. وأعطت دروسا في الجامعات الشعبية (انخرطت بصدق في تحليل القضايا التي شغلت عصرها في المنابر التقدمية).
تنتمي سيمون فايل إلى عائلة يهودية-برجوازية، وهي أخت عالم الرياضيات أندري فايل، والتلميذة النجيبة للفيلسوف الفرنسي اللامع: آلان
Alain (إميل شارتييه)، الذي أثر فيها تأثيرا بليغا، واستلهمت منه أسلوبه في الكتابة والتعبير، وظلت وفية له ولروحه. وقد شجعها كثيرا بمناسبة صدور دراستها «تأملات حول أسباب القمع والحرية»، معتبرا إياها قلما واعدا ونبراسا للأجيال المقبلة.
لم تعمر العذراء الحمراء (كما هو نعتها الآن)، سوى أربعة وثلاثين سنة، كتبت خلالها ما يعادل خمسة وعشرين كتابا، تشهد على أنها فيلسوفة متجذرة وشرسة بشكل غير مسبوق. صدرت أعمالها كاملة عن دار غاليمار، في سبعة عشر جزءا، موزعة على سبعة مجلدات. لم تكن فايل مجرد مدرسة عادية تؤدي وظيفة مؤسساتية، بل كانت نموذجا لفيلسوفة ملتزمة بقضايا المضطهدين الذين كافحت من أجلهم طوال حياتها، مناضلة نقابية وسياسية شاركت في حملات التضامن والإضرابات القطاعية (شاركت بقوة في الإضراب الشهير سنة 1936)، وجالست العاطلين والعمال وخبرت محنتهم، كما صادقت تلامذتها وأحبتهم بإخلاص؛ مما أتاح لها أن تضع أسسا جديدة لتربية تقوم على التمرد على الجاهز والمألوف. والتحقت بالمقاومة الإسبانية سنة 1936 إبان الحرب الأهلية لمواجهة انقلاب فرانكو الفاشي. وسمت فايل بكونها الفيلسوفة الروحانية أو الفيلسوفة الماركسية ذات النفحات الصوفية، غير أن ما آل إليه فكرها، في السنوات الأخيرة من حياتها، ما بين 1940 و1943، كان أقرب إلى الفلسفة الصوفية منه إلى الماركسية. ولنا شهادة في رسالة من تروتسكي إلى فيكتور سيرج يوم 30 يوليو (تموز) 1936، يدعوه إلى قطع العلاقة مع فايل لأنها لم تعد متحمسة للفكر الثوري، ولم تعد مناصرة لقضايا البروليتاريا هذا النبي الأعزل بتعبير إسحاق دويتشر، استقبلته فايل في منزل عائلتها في ديسمبر (كانون الأول) 1933. انظر: («سيمون فايل»: حوار مع تروتسكي، 2014).
لا نجزم ما إن كانت حنة آرنت قد استعارت عنوان «شرط الإنسان الحديث» من سيمون فايل، الذي تحدثت قبله عن الشرط العمالي؛ ففي كتابها هذا، ترصد عذراء الفلسفة المعاصرة، مجموع الشروط التي تعاني منها اليد العاملة الصناعية في فرنسا. وقد مثل اقتحامها للعمل في المصانع، أقصى درجات الالتزام السياسي بقضايا المستغلين، حيث صار الاستغلال والاضطهاد ومختلف أنواع القهر والاستعباد المعاصر، عيشا يوميا ملازما لها طوال تلك التجربة، أو ذلك «اللقاء مع الحياة الحقيقية والفعلية»، كما عبرت في رسالتها إلى تلميذة (الشرط العمالي، 20)؛ ولهذا يعود لها الفضل في اختبارها حقيقة أفكار ماركس ومن تبعه في المذهب من مختلف المدارس، وما شعارها البراق إلا خير دليل على ما خبرته: «الوحوش الثلاثة للحضارة البشرية الراهنة، هي المال والتقانة والجبر».
بدءا من سنة 1938، دخلت فايل في علاقات مع كثير من رجال الدين، ومنهم تحديدا جوزيف ماري بيرين (صاحبته ما بين 1940-1942)، وقد أثر فيها كثيرا، ولعب دورا في تجربتها الروحية التي طمستها طوال حياتها، ولم تظهر إلا من خلال رسائلها، بعد وفاتها (نتيجة نوبة قلبية قد يكون السبب وراء معاناتها الطويلة مع مرض السل). وقد سبق لفايل أن تحدثت عن الموت قبل وفاتها، «لقد فكرت في الموت في سن 14 بعد أن عشت شهورا في الظلمات» (الرسالة الرابعة: السيرة الروحية - في انتظار الله). لهذا «امتنعت دائما، عن التفكير في حياة مستقبلية. وصرخت دوما أن لحظة الموت هي معيار وهدف الحياة» (الرسالة الرابعة)؛ لأن المستقبل في نظرها «لن يجلب لنا أي شيء، ولن يمنحنا أي شيء؛ إننا نحن من يصنعه، من يمنحه كل شيء بما فيه حياتنا نفسها».
ليس لدينا دليل فيما إن كانت فايل قد التقت مع حنة آرنت، لكن من المؤكد أن بينهن علاقة فكرية غير مباشرة، وبالقدر الذي نعرف آرنت كمناهضة للتوتاليتاريا وللفكر الجامد والوثوقي، ينبغي أن نعترف أن سيمون فايل، قد خطت كلماتها القوية ضد الفاشية وضد الأنظمة الشمولية، في «تأملات في قضايا الحرية والقهر الاجتماعي»، وفي «كتاباتها السياسية والتاريخية» التي جمعت فيما بعد. وعلى هذا الأساس، فإن فكر حنة آرنت الفلسفي، يلتقي مع فكر سيمون فايل في كثير من القضايا من قبيل: العنف، الشر، الحرية، الألم، الحقيقة، التجذر، نقد التوتاليتاريا، المحبة ... أي في مجمل قضايا السياسة والأخلاق والدين.
يمنح صدق فايل لكلماتها معاني خاصة جدا، معاني نابعة من عمق مأساتها التي تعتبرها بمثابة بلاء، عليها أن تتحمله حبا في الله. وكما تقول في سيرتها الروحية: «تغيرت حياتي لأول مرة في سفري إلى إيطاليا، حينما ركعت على ركبتي أمام الكنيسة» (في انتظار الله). غير أن هذا الحدث لم يكن وحده كافيا لتفسير صلة فايل بالدين المسيحي؛ لأنها لم تمارس التدين يوما، واكتفت بالإيمان بالله ومحبته؛ لأن «الحب إلهي يحطم القلب الإنساني لما ينفذ إليه» (المعرفة الخارقة، 308). تلك المحبة التي «هي الله ذاته» (رسالة إلى الأب جو بوسكيه)، بالقدر الذي صارت فيه الطبيعة عند اسبينوزا متوحدة في الله؛ لهذا: «خلق الله عن محبة ومن أجل المحبة. لم يخلق الله غير المحبة ذاتها وغير طرق المحبة. خلق كل أشكال المحبة. خلق كائنات قادرة على المحبة من جميع المسافات الممكنة. أتى، هو نفسه؛ لأنه لا أحد غيره قادر على القيام بذلك، إلى المسافة القصوى، المسافة اللانهائية. هذه المسافة اللانهائية بين الله والله، كآبة
déchirement
مطلقة، ألم لا يدانيه أي ألم» (الخبرة مع الله: حب الله والبلاء، ترجمة محمد علي عبد الجليل، معابر). وبهذا يكون الله «في جوهره، محبة إلى درجة أن الوحدانية التي هي تعريفه ذاته بأحد المعاني ليست سوى مجرد نتيجة للمحبة»
1
وتضيف: «هناك شكلان من المحبة، اللقاء والانفصال. وهما ضروريان جدا. وينطوي الاثنان على الخير نفسه، الخير الوحيد، المحبة؛ لأنه عندما يقترب شخصان ليسا صديقين من بعضهما، لا يكون هناك لقاء. وعندما يبتعدان لا يكون هناك انفصال. هذان الشكلان حسنان أيضا لاحتوائهما على الخير نفسه.»
2
كتبت آرنت عن المحبة في أطروحتها عن أوغسطين (1929)، لكنها لم تبلغ ما بلغته فايل من تعال وتسام يصير فيه البلاء والشر قدرا لا مفر منه: «أعتقد أن أصل الشر، عند الجميع ربما، بل عند من أصابهم البلاء بصورة خاصة، وخصوصا إذا كان البلاء بيولوجيا، إنما هو حلم يقظة. إنه العزاء الوحيد، غنى المبتلين الوحيد، العون الوحيد لحمل الثقل الرهيب للزمن؛ عون بريء لا غنى عنه على أي حال. فكيف يكون ممكنا الاستغناء عنه؟ ليست له سوى سيئة واحدة، هي أنه غير واقعي. وعزوف المرء عنه حبا بالحقيقة يعني حقا تخليه عن جميع ممتلكاته بدافع جنون الحب واتباع من كان الحق بذاته.» كل البشر يستسلم للشر عن غير وعي، ما دام أنه لا يمكن أن يعيش وحيدا في العالم؛ لأن هذا الأخير هو بوابة ومدخل وحاجز، وفي الوقت نفسه، جسر للعبور «ليس ضروريا أن يقول المرء نعم للشر حتى يتملكه الشر. ولكن الخير لا يشغل النفس إلا إذا قالت له نعم» وهكذا ف «أقصى ما يمكن أن يفعله الكائن الإنساني، هو أن يحافظ في داخله على سلامة ملكة قول نعم للخير» (رسالة إلى جو بوسكيه). وإذا كانت دعوة فايل هي الجرأة في قول «نعم للخير»، فإن دعوة آرنت لملايين الضحايا الذين قادهم بضع مئات من جنود النازية إلى المحرقة، هي قول: «لا»، لا للشر وللهمجية: «لماذا لا يستطيعون التمرد؟» ذلك هو السؤال الذي أحرق حنة وهي تبحث عن أصل الشر، لا بما هو بلاء ميتافيزيقي يجد أساسه في القدر، وإنما بلاء بشري يعبر أيما تعبير عن تصحر هذا العالم. فكل المآسي «التي يمكن أن نتخيلها تعود إلى مأساة واحدة: إضاعة الوقت»؛ لأن إنسانا يعيش وحيدا في العالم، لا يمكنه أن يتمتع بأية حقوق لأن؛ قدره هو الواجبات لا غير.
صبا محمود: نحو أنثروبولوجيا الإسلام
صبا محمود (1962-...) أنثروبولوجية أمريكية (باكستانية الأصل)، باحثة نقدية معاصرة تنتمي إلى الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت ، وتهتم بقضايا عديدة حول النظرية السياسية والأنثروبولوجيا في منطقة الشرق الأوسط (عضو مركز الشرق الأوسط للدراسات) وجنوب آسيا (عضو معهد الدراسات حول جنوب آسيا)، تركزت أعمالها حول مجتمعات ذات غالبية مسلمة، ولها مساهمات عدة حول الأخلاق والسياسة، العلاقة بين الدين والعلمانية، مكانة النساء ودورهن في تلك المجتمعات.
تشغل حاليا منصب مدرسة مساعدة في جامعة كالفورنيا بولاية بيركلي، وقبلها عملت مهندسة معمارية لمدة أربع سنوات، غير أن شغفها بالبحث الأنثروبولوجي وخاصة أنثروبولوجيا الإسلام بدأ لما كانت طالبة دراسات عليا في جامعة ستانفورد على يد أستاذها طلال الأسد الذي لعب دورا هاما في مسارها الجامعي والأكاديمي، حيث أقرت في حوارها مع ناثان شنايدر: «كنت مهندسة معمارية لأربع سنوات ... وعزمت على العودة إلى الدراسات العليا من أجل التفكير في التحولات التي حدثت جراء الصعود الذي عرفه المشهد الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الإسلامية، لم أكن أعرف حقا الكثير عن الأنثروبولوجيا في ذلك الوقت؛ ولذا التحقت ببرنامج الدراسات العليا في العلوم السياسية، الذي وجدته ذا توجه مركزي أوروبي للغاية؛ فأدركت أن هذا التخصص لن يساعدني على استكشاف نوعية الأسئلة التي كنت مهتمة بها، كنت محظوظة بما فيه الكفاية في ذلك الوقت لألج حقل الأنثروبولوجيا الذي أصبح بمثابة تخصصي الأصلي.» معتقدة أن أي تخصص آخر كان سيستوعب نشاطها و«لكن الأنثروبولوجيا مكنتني من متابعة مسألة الاختلاف بطريقة جدية»؛ لأن الكتابات الأنثروبولوجية المبكرة عن مجتمعات المسلمين قد أغفلت دور النساء، وتركزت حول «دراسة الآخر البدائي من أجل تأكيد خصوصية القيم الثقافية والاجتماعية الغربية»، وقد اتجه علماء الإناسة فيما بعد مع تيار ما بعد الحداثيين للاشتغال بطريقة نقدية حول مسألة اختلاف الثقافات، التاريخ، التقاليد، تجدد معه البحث فيما يعرف حاليا بالتنوع الثقافي. وقد مكنها تعاملها مع الفقراء والمحتاجين في الأحياء الهامشية في أمريكا وباكستان، لمساعدتهم على تصميم المساكن وتمويلها وبنائها، من إدراك قيمة الحياة الاجتماعية التي يحاول فيها سكان هذه الأحياء «أن يفهموا عالما ألغى إلغاء كاملا إمكانية وجود حياة هانئة، ورغم هذا لا يزال الناس يحاولون إعادة بناء هذه الإمكانية من خلال مواءمة أنواع مختلفة من الممارسات والعادات».
نالت صبا محمود شهرة واسعة بفضل أبحاثها القيمة حول مكانة النساء في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، حيث أنجزت بحثها الميداني الأول (سياسة التقوى: الإحياء الإسلامي والشخصية النسوية) ما بين 1977 و1995 حول المرشدات الدينيات في القاهرة، بعد أن فشلت في إنجازه بفاس والدار البيضاء والجزائر، الذي نالت بموجبه شهادة الدكتوراه، ومنحتها الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية جائزة فيكتوريا شوك سنة 2005، فإلى جانب مقالاتها النقدية ودراساتها العلمية فقد نشرت مجموعة من العناوين الهامة منها: «هل النقد علماني؟» (2009) بمعية طلال أسد، وجوديث بتلر، وويندي براون، وهو بمثابة مؤلف نقدي يعيد النظر في الجدل الذي أثارته الرسوم الدنماركية والذي صور بأنه صراع بين التجديف وحرية التعبير، بين الرؤية العلمانية والرؤية الدينية للعالم، «سياسات الحرية الدينية» (2015)، «الاختلاف الديني في عصر العلمنة: تقرير حول الأقليات الدينية» (2015)، الذي ناقشت فيه التعدد والتنوع الذي ميز منطقة الشرق الأوسط وبلدان آسيا الجنوبية (سواء في البلدان المستقرة سياسيا واجتماعيا أو في البلدان التي تعيش اضطرابات جراء الحرب والصراعات الأهلية).
حظي كتابها: «سياسة التقوى» بشهرة واسعة بالنظر إلى تحليله للحركات الإسلامية في مصر التي غيرت الحياة الاجتماعية والسياسية، والتي شجعت النساء على المواظبة على الدروس الدينية في المساجد التي تقدمها المرأة «الداعية» حول الدين منذ ما يقارب ثلاثة عقود في مختلف مساجد القاهرة، وهي دروس هامة جدا - في نظر صبا - بالنظر إلى ما تثيره من نقاشات عميقة أعادت الاعتبار للنساء المسلمات في الحياة الدينية والاجتماعية بعد التهميش الذي طالها بسبب تأويلات مغرضة في حق النساء، حيث دافعت بقوة عن خروج النساء إلى المجال العمومي؛ لمناقشة مواضيع كانت إلى عهد قريب حكرا على الرجال، ويتعلق الأمر بشئون العقيدة والإيمان، فبرامج الوعظ والإرشاد التي اجتاحت بعض البلدان المسلمة (مصر، باكستان، المغرب ...) ستلعب دورا هاما في مجال التأويلات، وستغذي العديد من الأفعال والسلوكيات الإنسانية.
تناولت صبا في هذا الكتاب موضوعات هامة من قبيل: الحرية، خريطة الحركة التقوية، الحجاج أو فن الإقناع، الأخلاق العملية والتقاليد، دور الشعائرية ... وقد قادتها هذه الدراسة إلى سؤال العلمانية معتبرة أن قضايا: الإجهاض، ترسيم البابوات والأئمة الشواذ، ارتداء الحجاب، إعلان الدين أو الأيديولوجيا، النزاعات حول الإجهاض، زواج المثليين ... لا تهم مجتمعات ذات غالبية مسلمة وحدها، بقدر ما تهم أيضا العالم العلماني الذي جرب العلمنة لقرون. فبعد أن فرض المسلمون أنفسهم في الغرب عاد النقاش إلى المجال العام حول دور الدين في الحياة المعاصرة حيث تقول: «إن تداخل الدين مع الحكم المعاصر لا يطغى فقط على المجتمعات غير الغربية، إنما أيضا على تلك الدول التي تعد نماذج مثالية لما ينبغي أن تكون عليه الدولة العلمانية، وهذا يتضح في التنظيم القضائي والتشريعي القائم لبعض جوانب الحياة الدينية في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا» (العلمانية والاختلاف الجنسي والحرية الدينية، ترجمة: نورة آل طالب). فاهتمامها بالحياة الاجتماعية للقانون، خصوصا أن العديد من القضايا المعروضة على المحاكم عن حق الحرية الدينية في الشرق الأوسط تخاض ليس في المحاكم فحسب، ولكن من خلال الحملات الشعبية التي تطلق في المجالات الثقافية والسياسية؛ فيتشكل شعور الناس عما تعنيه الحرية الدينية من الجدل القائم بين منظمات حقوق الإنسان والحقوق المدنية وحقوق الأقليات؛ لذلك تركز بحثها في مصر حول العمل مع ممارسي النشاط الحقوقي، ولا سيما أولئك الذين يستخدمون البروتوكولات الدولية لحقوق الإنسان في استراتيجياتهم القانونية وحملاتهم الشعبية.
يتعلق الأمر إذن بالاهتمام بمكانة الرأي العام وحيزه في النقاش العمومي، وهذا ما دفع الباحث جوليان بوجي في قراءته لهذا الكتاب إلى القول: تجسد صبا محمود فكرة غاستون باشلار حول الرأي: الرأي تفكير سيئ، إنه لا يفكر بتاتا، يترجم المعارف إلى حاجات؛ لأن الأطروحة الليبرالية تعتقد أن «طرح الخطاب عن الحرية الدينية، خاصة في صيغتها الفردانية، سيؤدي إلى اختراق دائرة الدين والأسرة والاختلاف الجنسي؛ حيث إن القوة الحاسمة لذلك الخطاب من شأنها أن تخلخل الدعامة الصلبة لتلك الدائرة، ولكن وكما أظهر تحليلي، فإن الخطاب الدائر حول حق الحرية الدينية عمق من تلك الدائرة على عكس ما يظن، مستثمرا بصورة أكبر الهويات الأقلية والأغلبية في هذه المباحثة. وحقيقة أن هذا الطرح تحقق جزئيا عبر قوى عابرة للحدود القومية ممثلة في السلطة والقانون تذكرنا بأن مسائل كهذه لا تحسم ثقافيا فقط بل جيوسياسيا». وهنا نتلمس مكمن الخلل في النظرة المعيارية للدين فيه «من الآثار المترتبة المتناقضة لعلمنة المجتمعات الإسلامية هو أنه مثلما أصبح للسلطة الدينية دور هامشي في إدارة الشئون المدنية والسياسية، هي في الوقت ذاته تكتسب مكانة مميزة في تنظيم العلاقات الأسرية والجنسية. بعبارة أخرى، نتج عن الخصخصة المتزامنة للدين والجنسانية في العالم الإسلامي اندماج الاثنين (الدين والجنسانية) اندماجا حتميا؛ حيث إن مسائل الهوية الدينية للغالبية المسلمة والأقليات غير المسلمة على حد سواء غالبا ما يستتبعها نزاعات حول الجندرية والزواج والأسرة. ورغم أن بعض جوانب القصة حول خصخصة الدين والأسرة يتشارك فيها الجزء الغربي وغير الغربي، إلا أن ما هو مميز بشأن المجتمعات ما بعد الكولونيالية أنه في أغلب الحالات لا يزال قانون الأسرة يدار بما يتوافق مع الإرشادات الدينية فقط، دون الرجوع إلى القانون المدني». فهل تستطيع قوانين الأسرة أن تحل العديد من المشكلات المرتبطة بالحياة الفردية الخاصة للمسلمات؟ وهل بإمكان النظرة المعيارية أن تذهب بعيدا في ضمان الاستقرار والتعايش في ظل تزايد مشكلات الاندماج الاجتماعي والتعدد الثقافي والإثني جراء مشكلات الهجرة التي تسببت فيها عشرات الحروب؟ هناك بعض المميزات الخاصة ببعض الدول كما هو حال قانون الأسرة في لبنان الذي يعرض الخلافات الزوجية على المحاكم الأهلية (حوالي 18 قانونا أهليا).
استطاعت صبا محمود أن تلفت النظر إلى أهمية الالتزام الأنثروبولوجي من خلال حثها على «التفكير بطريقة نقدية حول اختلاف فريد من نوعه في العلوم الإنسانية، يستحق الاهتمام والاستكشاف». فمعها تولد مجال بحث واعد يجد مكانته فيما تعيشه مجتمعاتنا من تطورات وأوضاع ستعمق نقاشات سياسية وأيديولوجية ضرورية للرقي بأوضاعنا؛ فالجدل الدائر حول الحجاب والحدود بين الحرية الفردية والحرية الجماعية، نابع أساسا من تطلع أجيال اليوم إلى الحرية التي لا تقبل المساومة أو المهادنة باعتبارها أساس الوجود الإنساني؛ حرية لا يمكن أن يحد منها خطاب العنف وممارسته الفعلية ضد المختلف والمعارض والمنتقد؛ لأن اللجوء إلى العنف المادي والرمزي معا دليل على قرب نهاية وأفول أيديولوجيا وفكر دوغمائي وإقصائي لا يريد أن يساير التحولات الجارية في كافة المجالات.
نادية دو موند: الوعي بالذات خطوة أولى لتحرير النساء
نادية دو موند
Nadia de Mond
واحدة من أبرز نساء الفكر الماركسي التروتسكي الأكثر دفاعا عن نسوانية دينامية قادرة على الرقي بالوضع النسائي نحو التحرر، دشنت نضالها السياسي فكريا وعمليا.
سنسلط الضوء في هذه المقالة على جانب من جوانب فكرها المدافع عن مجتمع المساواة بين الرجل والمرأة في سبيل تحرير المجتمع المعاصر من كل أنواع وأشكال البطريركية، وهي تستند في مقالاتها على جهود فريديريك إنجلز في كتابه: «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» والذي تعيد النظر في بعض حججه التي استقاها من الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة له. فكيف تفهم نادية دو موند إذن المجتمع الذكوري؟ هل هناك تغييرات جذرية في التحليلات الأنثروبولوجية التي أتحفنا بها منظرو القرن التاسع عشر لأصل المجتمعات البشرية؟
تفيد النسوانية في نظر نادية أمرين:
أولا:
الوعي بمكانة النساء في المجتمع البطريركي؛ فالنظام الأبوي يوجد دوما في علاقة مع مختلف أشكال إعادة الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي. وفي هذه المرحلة من هذا القرن يعني الاعتراف بأن النظام البطريركي مستمر في وجوده ضمنيا مع الرأسمالية النيوليبرالية.
ثانيا:
تحرر النساء؛ أي تحرر نصف النوع البشري، ونصف الطبقة العاملة. إنها إذن وسيلة وأداة لا غنى عنها في الكفاح من أجل تحرر البشرية جمعاء.
هكذا دشنت التفكير في ثلاث قضايا متصلة بنضال الحركة النسائية: أصل وطبيعة النظام الأبوي، ركائز وأعمدة النظام الأبوي، مفهوم النوع الاجتماعي.
تنطلق نادية دو موند من سؤال هام لمقاربة موضوع الذكورية: هل كانت الهيمنة الذكورية موجودة دوما في تاريخ البشرية؟ وتعمد في ذلك إلى دحض أحكام الرجعيين ممن يعادون حقوق المرأة ويسعون بجد إلى استعبادها نتيجة أفكار خاطئة ولا تاريخية وهي:
إن تبعية المرأة للرجل أمر طبيعي؛ لقد كان الأمر دوما هكذا.
تؤدي الاختلافات البيولوجية القائمة تلقائيا إلى الاختلافات الاجتماعية والثقافية؛ وبالتالي إلى تراتبية هرمية بين الجنسين .
تؤدي القوة العضلية الكبرى للرجال إلى الهيمنة.
وتجابه هذه الافكار التي تفتقد أي منهج علمي صريح، لتبقى مجرد تمثلات نجدها طاغية لدى بادئ الرأي، بتأكيدها أننا كماديين تاريخيين نجيب عن هذا بسهولة: (1)
أن القوة العضلية نسبية جدا وترتبط بالتدريب والنظام الغذائي ... (2)
أن القوة الطبيعية في مجتمعاتنا الحالية ثانوية في إشباع حاجياتنا بالنظر إلى التكنولوجيا التي نستعملها.
فالعودة إلى ما قبل التاريخ تستوجب أولا دراسة عملية دقيقة لتجاوز مجموع الأساطير التي تحبك من قبيل أن الرجل صياد بارع، طور خصائص فيزيولوجية ونفسية للهيمنة؛ كالعدوان، والمكر، والتخطيط الاستراتيجي ... لهذا تدعو إلى ضرورة فحص أمهات الكتب، متسلحين بسؤال: هل كانت الهيمنة الذكورية موجودة دوما؟ نعود - على الأغلب - في الأدب الماركسي إلى الكتاب الهام لإنجلز في نهاية القرن التاسع عشر: «أصل العائلة، والملكية الخاصة، والدولة» (الذي ارتكز على الحوارات مع ماركس وملاحظاته؛ والذي لم تتح له الفرصة لتركيبها).
لم يكن إنجلز متفقا مع كون فكرة اللامساواة (الاستغلال، الجور) بين الأشخاص موجودة دوما؛ فبناء على الدراسات الأنثروبولوجية الأولى للويس مورغان
Lewis H. Morgan
اتفق إنجلز مع فرضية وجود مجتمع بدائي مبني على المساواة، المشاعية، بدون طبقات، الذي يسميه «الشيوعية البدائية» (أو المشاعية البدائية) والتي لم تكن فيها المرأة تابعة في وضعها إلى الرجل.
كان إنجلز بحق يفكر على العكس تماما بأن هذه المجتمعات كانت أمومية؛ حيث أسست النساء النواة القارة للعشيرة، وكن من يحددن النسل؛ وبالتالي يتمتعن بسلطة واسعة وباحترام كبير من قبل الرجال. وقد بينت الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة خطأ هذه الفكرة. بحيث لا يمكن الحديث عن مجتمعات أمومية، وإنما عن عصر أمومي.
لا يمكن الحديث عن نظام أمومي حقيقي، حيث يخضع الرجال للنساء، ليس فقط من حيث إن لهن دورا هاما داخل تقسيم العمل، وفي الاقتصاد المنزلي أو في اتخاذ قرارات تتعلق بالعمل المنزلي (كما هو اليوم على سبيل المثال عند قبائل الموسو
Mosuo
في الصين)،
1
وإنما حينما تخترق سلطتهن الفضاء العمومي والعلاقات الخارجية؛ حينما يتخذن قرارات هامة تتعلق بالجماعة، ومنها أساسا سلطة معيرة/ضبط ومراقبة السلوك الجنسي لدى الرجال. ويقود هذا أيضا إلى سلطة تحديد القيم والأنظمة الرمزية. هكذا ترى نادية أن إنجلز قد فشل وأخطأ في حكمه على مجتمعات ما قبل التاريخ لهذا الاعتبار، غير أن خطأه لا يعني بطلان المنهجية التي استخدمها، والتي نلخصها فيما يلي:
أولا: ربط وضعية النساء بالسياق المادي، الاقتصادي، والاجتماعي، وبالتقسيم الجنسي للعمل، وبمساهمة كل جنس في تغذية القبيلة. ثم؛ وهذا مناسب تماما؛ بعد معرفة أن إعادة الإنتاج البيولوجي والاجتماعي كعامل ورهان هامان بالمقارنة مع الإنتاج المادي. إنه نقاش راهن في الحركة النسوية، وفي مدارس المادية الجدلية، والتي تعيد النظر حاليا في قيمة العمل: الإنتاج وإعادة الإنتاج في الموجة الثالثة للرأسمالية.
وبحسب الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، يوجد في كل الحضارات المعروفة في التاريخ شهادات مكتوبة حول اضطهاد النساء ابتداء من 1500 سنة قبل الميلاد؛ ولهذا تفحص نادية مرحلة ما قبل التاريخ، والتي تمتد ما بين 35 ألف و6000 سنة قبل الحضارات، والمسماة بالعصر الحجري القديم جدا، حيث لا توجد لدينا أي شهادات مكتوبة.
كيف حدد المؤرخون والأنثروبولوجيون هذه المرحلة؟
تستند نادية على قول ج. ليرنر
G. Lerner : «نربط بين القطع (أدوات، مقابر، فخار، ما تبقى من المباني، هياكل عظمية ...) والأساطير التي وصلتنا شفويا، ونقارنه مع ما نتعلمه من الشعوب البدائية التي لا تزال موجودة اليوم».
ليس لدينا إذن أدلة دامغة، بل نقدم فقط افتراضات، ونحاول بفضل هذه الدراسات العلمية القيام بتغذية المادية التاريخية بوضع نساء ورجال ما قبل التاريخ في سياق جغرافي وبيئي. حيث كانت المجتمعات البشرية الأولى تتشكل من مجموعات صغيرة (عشائر، قبائل ...) غير مهيكلة، بدوية، مع تنظيم محكم للعمل. كانوا يعيشون من جني الثمار وصيد الأسماك والطرائد الصغيرة؛ وهو صيد يشارك فيه الجميع، ويستهلك الجميع كل ما يصطادونه، دون أن يحصل هناك أي فائض.
بدأ أول تقسيم للعمل (احتمالا) مع صيد الطرائد الكبيرة - بالتزامن مع التطور التكنولوجي في إنتاج الأسلحة - الذي يتطلب اللحاق بها مدة طويلة، وأحيانا غيابا غير متوقع، وهو ما يصعب التوفيق بينه وبين الحمل والرضاعة. هذا ناهيك عن أن النساء يتفرغن لإعادة الإنتاج الطبيعي للعشيرة، ومن غير المناسب وضع حياتهن في خطر.
بدأ تقسيم العمل وظيفيا، ولا يرتبط «بالقدرات الفيزيائية»؛ ففي الواقع هناك على سبيل المثال مشاركة الإناث العزباوات اللواتي لا يملكن أطفالا؛ في الصيد. لا تلغي الفروق الجنسية المساهمة المشتركة لكلا الجنسين في الحفاظ على بقاء الجماعة، كما لا تقلل من قيمة جنس لحساب جنس آخر. وأكثر من ذلك، ففي معظم مجتمعات الصيد وجني الثمار، في الحاضر كما في الماضي، لا يمثل الصيد إلا نشاطا مساعدا وعرضيا؛ حيث تساهم النساء ب 60٪ من الغذاء. وللقيام بذلك عليهن أن يتحركن على مساحات كبيرة من الأراضي حاملات أطفالهن. وتتطلب أنشطتهن المتنوعة معرفة عميقة بالوسط، وبالنباتات والمناخ، وبخصائصها الغذائية والطبية: الحفاظ على النار، اختراع الأواني وامتهان الفخار. ناهيك عن كل الأعمال المرتبطة بالطرائد الكبيرة التي يجلبها الرجال في الصيد (الطبخ، الحفاظ على المئونة، الخياطة ...)
هناك شيئان ساهما بشكل أساسي في ضمان بقاء القبيلة: إنتاج الغذاء، وإعادة الإنتاج الطبيعي؛ حيث لعبت النساء دورا قياديا، علاقة غامضة بالحياة وبالموت، لقد وجدن في مختلف الأماكن مجموعة من تماثيل «الأمهات الإله» والتي تشهد على عبادة النساء اللواتي يتمتعن بالقدرة على إعادة الإنتاج، وبالاحترام خشية من سلطة المرأة التي يمكن أن يستوحيها الرجال.
تخلص، س. كونتز
S. Coontz
إلى القول: «أكدت الدراسات الراهنة صحة استنتاجات إنجلز: لقد كانت العلاقات بين الجنسين متكافئة/المساواة في مجتمعات الصيد والجني البدائية، في حين يزداد وضع المرأة تفاقما مع ظهور التفاوت الاجتماعي، والملكية الخاصة والزراعة والدولة.»
كانت - في نظر نادية دو موند - معظم مجتمعات الصيد وجمع الثمار في مجتمعات الأمومة تعيش بسلام (على الأقل في ظروف بيئية مناسبة) مع القبائل الأخرى التي تلتقي معها من حين إلى آخر. ففي مجتمعات الأمومة (حيث الزوج يقيم في بلدة الزوجة الأصل من أمها- الأميسية) بشكل عام، فإن وضعية المرأة أفضل من وضعيتها في مجتمعات أبوية (حيث تقيم الزوجة في بلدة الزوج الأصلية-الأبيسية) وهذا بديهي.
قام جدل كبير بين الأنثروبولوجيين حول أسباب التطور من المجتمع الأمومي إلى المجتمع الأبوي ، وطرحت العديد من الفرضيات منها:
الحصول على أكبر عدد ممكن من النساء لضمان استمرار وبقاء العشيرة.
تندمج النساء ببساطة في القبائل الجديدة لأنهن لا يستطعن مغادرتها بسبب الأطفال.
تظل النساء في قبيلتهن الأصلية لأنهن مناسبات للعشيرة أكثر من الرجال - الصيادين الكبار - بفضل معرفتهن أكثر بالأرض.
غير أنها تبقى مجرد فرضيات تستوجب تحقيقات أنثروبولوجية دقيقة نفتقر إلى وسائلها اليوم للخروج بخلاصات مبرهنة ومقبولة، وقادرة على تفسير عمليات الانتقال تلك حسب المناطق؛ لأنه يستحيل أن يكون الانتقال واحدا في جماعات مختلفة يبعد بعضها عن البعض ولا تتصل الواحدة بالأخرى؛ جراء كون المنافسة والصراع أساس تدبير العلاقات القبلية في المجتمعات البدائية.
هكذا يبدو من الواضح في جميع الحالات أن اللامساواة تطورت قبل انقسام المجتمع إلى طبقات، بحيث حدثت تغيرات اجتماعية هامة مع ظهور الزراعة المستقرة - ثورة العصر الحجري الحديث - حوالي عشرة آلاف سنة قبل الميلاد في الشرق المتوسط، وحوالي 13 ألف سنة قبل الميلاد في كامبوديا، وازدهرت هذه الزراعة في أوروبا خلال ستة آلاف سنة قبل الميلاد.
يتطلب استعمال المحراث في البداية قوة ذكورية (قبل استعمال الأبقار). وهذا ما عزز رقابة الرجال على الفائض. ولجمع المحاصيل الاستهلاكية يتوجب مضاعفة عمل النساء لتحويل الفائض إلى مخزون، إضافة إلى الأنشطة الأخرى من الإنتاج الاجتماعي: النسج، الخزف، الغسيل، الصيانة ... فليس للنساء هوايات، على عكس الرجال الذين يتمتعون بأشياء أخرى (مهن أخرى أو طقوس).
تستند نادية في هذه المعطيات إلى معيار منهجي مادي واضح: إن البحث في الأثر المادي الملموس لوضعية النساء في المجتمعات البدائية يمنحنا إمكانية فهم الأسس الأولية التي قامت عليها اللامساواة بين الجنسين قبل ظهور المجتمعات الطبقية بالشكل الذي ستتطور فيها إلى حدود الوضع الذي نعيشه اليوم في ظل سيطرة الرأسمالية على مجمل مجالات الوجود البشري. فالنظام الأبوي-البطريركي نظام هيمنة يبني كل مجالات الوجود، ولا تستطيع الرأسمالية القضاء عليه ما دام هو معيارا لضمان تراتبية اجتماعية وسياسية تخدم مصالح الطبقات المالكة لوسائل الإنتاج؛ لذا فإن عملية إعادة الإنتاج كلها تتجه بهذا القدر أو ذاك نحو الحفاظ على الهيمنة الذكورية، رغم الاعتراف بالمساواة وتوسيع هامش انخراط النساء في دائرة العمل خارج المنزل؛ مما يشي بتحويل الاستغلال إلى جوانب أخرى وهوامش كانت بالأمس حكرا على الذكور.
وفي بحثها للحقبة الراهنة حيث تسيطر الرأسمالية العالمية على كل العالم، ترى أن النساء يستعملن كجيش احتياطي للصناعة (ماركس) في الاقتصاد الرأسمالي - يدمج في فترات التوسع الاقتصادي ولكن يسرح في فترة الانكماش الاقتصادي أو فترات الأزمة. ويتم تبرير هذه الممارسة بفكرة أيديولوجية مفادها أن الرجل هو من يلبي أساسا حاجيات الأسرة، وأن المكان الطبيعي للمرأة هو المنزل كربة بيت. كما تستخدم النساء مكان قوة العمل الذكورية لإضعاف الطبقة العاملة وتقسيمها، كما تستعمل النساء بطبيعة الحال في أقسام «ضعيفة»، «هامشية» من الطبقة العاملة كما هو حال المهاجرين. ويؤدي ذلك إلى اشتغال النساء بأجور زهيدة، وفي ظروف عمل جد هشة؛ ليتمكن من الجمع بين الشغل من أجل السوق وبين مهام إعادة الانتاج الأسري. وهو ما يؤدي إلى وظائف غير مضمونة ومؤقتة ... ومعاش بئيس. وبالجملة تجد النساء في وضعية استقلال اقتصادي جزئي بالمقارنة مع الرجال.
نشهد حاليا تأنيثا حقيقيا لعالم الشغل، وهذا لا يعود إلى الزيادة القوية في عدد النساء النشيطات في الاقتصاد في العقود الأخيرة وفي كل العالم الرأسمالي المعولم، وإلى استعمال ما يسمونه تأنيث الشركات: القدرة على ربط العلاقات والتواصل، الاهتمام والعناية بالمهمة، التفاني، الليونة، الانصياع كطباع ... الاندماج الهش في عالم الشغل؛ ارتباط لين بالشركة؛ ساعات عمل متغيرة في خدمة الشركة بين وقت العمل وانشغالاتها (وقد تصحب معها العمل إلى المنزل). لقد صار هذا نموذجا لجميع الأجراء رجالا ونساء. إننا نتحدث عن استغلال مزدوج للنساء اللواتي يزاولن عملا مأجورا.
تعرج نادية على الإشارة إلى مقاربة هامة لتيار جديد من النسوية نسميه نسوية العناية، حيث الاهتمام متزايد بوضع النساء في عالم الشغل؛ كساعات الرضاعة للتخفيف من حدة التوتر جراء العمل وللزيادة في المردودية. ونفس الشيء بخصوص القروض الصغرى حيث تعمد الرأسمالية إلى انسحاب الدولة من مسئوليتها تجاه مواطنيها ، من خلال تحميلهم المسئولية في ضمان عملية إعادة الإنتاج؛ فعلى الفرد وخاصة النساء اللواتي يزاولن عملا اجتماعيا غير مؤدى عنه أن يتحملن المسئولية في إعالة أسرهن؛ لذلك تقدم لهن قروض بشعة بدعوى التنمية الذاتية والمستدامة. إنه استعباد جديد ما بعده استعباد.
ولهذه «العناية» تأثير حقيقي على ولوج النساء للمجال العمومي، ففي بلدان أفريقيا الشمالية وفي أغلب دول الخليج والشرق المتوسط لا تزال النساء مقصيات من العملية السياسية ومحرومات من حقوقهن الدستورية، ويتعرضن لكل أشكال الاضطهاد في المجال العام. فإذا استطاع الجيل الأول من الحركة النسوية في عشرينيات القرن الماضي انتزاع مكاسب المشاركة السياسية: الحق في التصويت (حصل في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية) وفي ولوج المؤسسات العمومية كما هو الحال في أوروبا مثلا فإن ذلك الولوج لا يزال ضعيفا حتى في المجتمعات الغربية؛ لأن نسب النساء في الحكومات والبرلمانات والمجالس الجهوية والإقليمية لا يزال محتشما بالمقارنة مع حضور الرجال.
توهمنا الليبرالية أن ولوج النساء للفضاء العام قد تحقق بشكل يخدم المساواة ولكن في حقيقة الأمر لا تزال النساء حبيسة المنازل كرقم هام في عملية إعادة الإنتاج، وفي العمل الاجتماعي غير المؤدى عنه.
جوديث بتلر فيلسوفة النوع والهوية: كيف نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟
تعد الفيلسوفة جوديث بتلر
Judith Butler ، أبرز زعماء النظرية النقدية المعاصرة (الجيل الثالث). وهي يهودية أمريكية ذات أصول روسية-مجرية، عانت عائلتها من الاضطهاد النازي، وفقدت جزءا من عائلتها في المحرقة النازية (حيث أبيدت عائلة جدتها في قرية صغيرة في جنوب بودابست). ولدت الفيلسوفة يوم 24 فبراير (شباط) 1956 بكليفلاند بولاية أوهايو. واهتمت بالفلسفة السياسية والاجتماعية ونظرية الأدب والدراسات الثقافية والجنسانية والنوع الاجتماعي والهوية. حصلت سنة 1984 على أطروحة الدكتوراه من جامعة يال، حول مفهوم الرغبة عند هيغل، ونشرت رسالتها سنة 1987 تحت عنوان: «ذوات راغبة: تأملات هيغيلية حول فرنسا القرن العشرين»، وطورت فيها فهما جديدا للعلاقة بين الرغبة والاعتراف (دمج لفكر اسبينوزا وهيغل).
غادرت سنة 1993 جامعة جونس هوبكينز، بعد حصولها على كرسي ماكسين إليوت بشعبة البلاغة والأدب المقارن بجامعة بيركلي بكاليفورنيا ، وهي السنة التي أصدرت فيها دراستها الشهيرة «هذه الأجساد التي يجب اعتبارها». كما حصلت سنة 2006 على كرسي حنة آرنت للفلسفة في كلية الدراسات الأوروبية العليا بسويسرا. وانتخبت سنة 2009 رئيسة محكمة هوسرل حول فلسطين، والتي تجمع المثقفين الأمريكيين حول القضية الفلسطينية لحشد شروط سلام دائم وعادل بين إسرائيل وفلسطين؛ وذلك بفضل موقفها الثابت من رفض وشجب عنف الدولة الإسرائيلية.
تنتمي جودي (كما يحلو لأصدقائها الجامعيين مناداتها)، إلى النظرية النقدية المعاصرة، بفضل إسهاماتها المتعددة حول قضايا فلسفية متنوعة، حافظت من خلالها على إرث مدرسة فرانكفورت؛ لذلك حصلت سنة 2012 على جائزة أدورنو الذائعة الصيت، عن جدارة واستحقاق، رغم هجوم الصهاينة عليها علنا. وهناك الكثير من الدراسات التي اهتمت أخيرا بفكرها الفلسفي والسياسي، منها تحديدا: «الفلسفة السياسية عند جوديث بتلر»، من تأليف بيرجيت شيبرز (2014)، الذي عالج فيه سياسات تشكل الذات، فلسفة الإنسان السياسية، مفارقة العنف، نحو مجتمع ما بعد العلمانية. إلى جانب الدراسة النقدية التي أنجزها ستيفان هابر سنة 2006. تحت عنوان: «نقد مناهضة النزعة الطبيعية: دراسات حول فوكو وبتلر وهابرماس»، ناهيك عن مئات المقالات، وسيرتها التي كتبتها سارة صالح تحت عنوان: «جوديث بتلر» (2002)، وفحصت فيها مفاهيم: الذات، والجنوسة، والجنس، واللغة، والنفس.
تشكل الفكر الفلسفي لبتلر منذ مراحل مبكرة من حياتها. وقد جالت في الفكر الحديث، وساجلت اسبينوزا وروسو وهيغل وكانط، وطورت فلسفة فوكو وفرويد والتوسير وجاك لاكان وهابرماس وجاك دريدا وسيمون دي بوفوار، في حوار معها، مع مجلة الفلسفة (العدد 66)، قالت بتلر، إن علاقتها بالفلسفة بدأت من قبو منزلها العائلي، حيث وضع والداها كتابات فلسفية مختلفة: «هناك قرأت اسبينوزا (كتاب الإثيقا) وكيركغارد وآخرين». بعد اطلاعها على هيغل، ستتبنى بتلر مفهوم الاعتراف الذي أثر في حياتها السياسية والفلسفية فيما بعد؛ نظرا لالتصاقه بوضعها الذاتي؛ فالرغبة في العيش، كما تحدث عنها اسبينوزا، غير ممكنة في نظرها إلا من خلال الاعتراف الهيغلي، بحيث لا يرتبط الاعتراف بتحقيق الرغبة في العيش فقط، وإنما العيش بطريقة حرة ومختارة، أي أنه يطرح سؤال الهوية تحديدا التي لا تنظر إليها كشيء ثابت ومحنط، بل كهوية تتشكل بحسب الظروف التي ينمو فيها الفرد، وبفضل تنشئته الاجتماعية التي يخضع لها. وهكذا فمعرفة الذات لا تتم من خلال الغير ولا ترتبط به؛ لأنها قد تكون هوية غير اجتماعية، أو خاضعة لمعيارية اجتماعية هي بمثابة أحكام قبلية غير صحيحة؛ لذلك نقرأ لها في كتابها «الذات تصف نفسها»: «بينما نحن نطلب معرفة الآخر، أو نطالب الآخر أن يعرف نفسه على نحو نهائي ومؤكد، فإن من المهم لنا ألا ننتظر جوابا شافيا بأي حال.
إننا بامتناعنا عن السعي إلى القناعة، وبإبقائنا السؤال مفتوحا، بل حتى ثابتا، نمنح الآخر فرصة أن يعيش ما دام بالإمكان فهم الحياة بوصفها، على وجه الدقة، ذلك الذي يتجاوز أي وصف قد نقدمه له ... إذا كان في السؤال رغبة في الاعتراف، فعلى هذه الرغبة أن تبقي نفسها حية بوصفها رغبة وألا تحل نفسها ... إن الرغبة يجب أن تدوم. في الواقع، يكون الإشباع نفسه، أحيانا، الوسيلة التي يتخلى بها المرء عن الرغبة، الوسيلة التي ينقلب المرء بها ضدها، ويرتب لموتها السريع.»
من المعلوم أن سؤال الرغبة والحاجة إلى الاعتراف عند جودي، ليس أمرا معزولا عن العلاقة مع الغير، كما أنه لا ينفصل كليا عن سؤال الهوية وعلاقتها بالذات؛ فالهوية ليست سابقة على الوجود الاجتماعي بالقدر الذي يكون فيه هذا الوجود هو أساس الهوية. وقد استعارت جودي هنا، عبارة سيمون دي بوفوار: «المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك»، وهو ما يقود إلى التساؤل حول الهوية (وأساسا الهوية الجنسية) التي تتميز اليوم بالتعدد والتنوع: كيف يمكن الاعتراف برغبتي؟ وكيف تؤسس المعايير لهذه الرغبة؟ وهل يمكنك الاعتراف برغبتي لأتصرف كراغبة في شيء ما، ولربما ما يحلو لي؟ لذلك تصرح: «عندما أطرح السؤال الأخلاقي: كيف يتوجب علي أن أعامل الآخر؟ أنا أقع مباشرة في قبضة مملكة من المعيارية الاجتماعية، ما دام الآخر لا يظهر، ولا يشتغل بوصفه آخر بالنسبة لي، إلا ضمن إطار أستطيع أن أراه وأفهمه في انفصاله وخارجيته. وهكذا، فرغم أني قد أفكر في العلاقة الأخلاقية بوصفها ثنائية، أو بالأحرى سابقة على الاجتماعي، فإني لا أقع في قبضة مجال المعيارية وحسب، ولكن في إشكالية القوة ... فالقواعد لا تعمل على توجيه سلوكي وحسب ولكنها تقرر النشوء الممكن للقاء بيني وبين الآخر.» (الذات تصف نفسها 69). تحاول جودي الجواب عن سؤال طرحته في خطابها، بمناسبة نيلها جائزة أدورنو (خطاب تحت عنوان: «أخلاق لعصر هش»): كيف يمكن أن نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟ بحيث يقر أدورنو أنه «لا توجد حياة حقيقية ضمن حياة زائفة»، حياة حقيقية داخل عالم مبني بشكل واسع على اللامساواة والاستغلال والإقصاء. إنه سؤال مركب يطرح من خلاله أدورنو العلاقة بين الأخلاق والشروط الاجتماعية، أو بصيغة أعم، العلاقة بين الأخلاق والنظرية الاجتماعية. تصرح بتلر: «أحبذ أن أظهر أنه لا يمكننا أن نناضل من أجل حياة جيدة؛ حياة تستحق العيش، دون الاستجابة للحاجيات التي تسمح للجسم بضمان الاستمرارية.» لذا فكيف يمكن التفكير في حياة قابلة للعيش دون افتراض تصور مثال واحد أو موحد لهذه الحياة؟
فحصت جودي في خطابها ذاك، سؤال الحياة الجيدة عند حنة آرنت، وتقول: «ميزت حنة آرنت بشكل حاسم في كتابها «حياة الذهن» (1971) بين الرغبة في العيش والرغبة في العيش الكريم، أو بالأحرى الرغبة في حياة جيدة. لم يكن البقاء بالنسبة لحنة آرنت ولن يكون هدفا في ذاته، ما دام أن الحياة لم تكن أصلا جيدة؛ فالحياة الجيدة وحدها تستحق أن تعاش. لقد وضعت بسهولة حلا لهذه المشكلة السقراطية، ولكن - كما يبدو على الأقل - بشكل متسرع جدا. لست متأكدة من أن إجابتها ستنقذنا في إغاثة، كما أني لست مقتنعة أنه ذات يوم ستكون إجابة فعالة»؛ فآرنت «تفصل أساسا، حياة الجسد عن حياة الذهن، وبموجب هذا، أقامت في كتابها (شرط الإنسان الحديث)، تمييزا بين الفضاء العمومي والفضاء الخاص. يضم الفضاء الخاص عالم الضرورة، إعادة إنتاج الحياة المادية، الجنسية، الحياة، الموت، والطابع الانتقالي للحياة. كانت تعتبر بشكل واضح، أن الفضاء الخاص يدعم الفضاء العمومي للفعل والفكر. ولكن السياسة في تصورها، تتحدد بالفعل، في الإحساس الفعال بالكلام. كما يصير العمل اللفظي، أيضا، فعلا سياسيا في الفضاء التداولي والعمومي؛ ما يجعل دخوله للفضاء العمومي ينطلق من الفضاء الخاص؛ وبالتالي فالفضاء السياسي يعتمد أساسا على إعادة إنتاج الخصوصي كجسر واضح، من الخاص إلى العام.»
هكذا تصل بتلر إلى أن التحرك السياسي في الفضاء العمومي، لا يتم فقط عبر الجسد، على أن طرق التجمع والغناء أو الهتاف، أو حتى الصمت في الشارع هي جزء لا يتجزأ من البعد الأدائي للسياسة، حيث يتحدد الخطاب كفعل جسدي من ضمن أفعال جسدية أخرى. تتصرف الأجساد حينما تتكلم، وهذا مؤكد، ولكن الكلام ليس وحده طريقة للفعل بالنسبة للأجساد؛ ومن المؤكد أنه ليس وحده شكلا للتحرك السياسي.
تعتبر جودي من دعاة الحل الثالث للقضية الفلسطينية: البحث عن الاعتراف المتبادل بين الشعبين؛ أي تسوية للعيش المشترك حيث الأمن والاستقرار. غير أن هذا الأمر يرتبط بالفلسطينيين وبقرارهم الذي تعتبره القرار الحاسم. وقد تذكرت موقف إدوارد سعيد الذي تراجع عن حل الدولتين حيث تقول: «من وجهة نظري أن شعوب هذه الأراضي، يهودا وفلسطينيين، يجب أن يجدوا طريقة للعيش سوية على أساس المساواة. ومثل الكثيرين، أتطلع إلى كيان ديمقراطي على هذه الأراضي، وأؤيد مبدأ تقرير المصير والعيش المشترك لكلا الشعبين، وفي الواقع، لكل الشعوب. وأمنيتي، كما هي أمنية عدد متزايد من اليهود وغير اليهود، أن ينتهي الاحتلال، ويتوقف العنف بكافة أشكاله، وأن يتم ضمان الحقوق السياسية الأساسية لكافة الشعوب في (هذه) الأرض عبر تركيبة سياسية جديدة.» ويعود ذلك، إلى اكتشافها الفكر اليهودي في سن الرابعة عشرة من عمرها كما تقول (مجلة الفلسفة العدد 66): «تابعت الدروس حول الدين والعبرية في معبدي بمدينة كليفلاند، كما اطلعت أيضا على الروايات والكتب حول إسرائيل والهولوكوست. لقد شغلتني هذه المسألة منذ مدة طويلة، وتحضر في الكثير من كتبي»؛ منها على سبيل المثال: «الخطاب المثير: سياسات الأداء» (1997)، و«الحياة النفسية للقوة: نظريات في الإخضاع». وتشكل جودي مثالا ل «المثقفة الجريئة المتعاطفة»، كما وصفها البيان التضامني للمثقفين الفلسطينيين بعد الهجوم الذي تعرضت له سنة 2012 إبان ترشيحها في ألمانيا؛ فهي عضو في الهيئة الاستشارية ل «الصوت اليهودي من أجل السلام»، وممثلة في اللجنة التنفيذية ل «أساتذة من أجل السلام الفلسطيني-الإسرائيلي، في الولايات المتحدة الأمريكية»، وفي «مؤسسة مسرح الحرية في جنين».
تطرح بتلر دوما السؤال (مجلة ف.ع.66): هل ينبغي لزوم الصمت؟ هل ينبغي إنكار الوضع اليهودي تحت ذريعة أننا لا نقبل سياسة إسرائيل؟ لا، فإسرائيل لا تمثل كل اليهود، والصهيونية ليست زعيمة اليهودية؛ لأنه «لا يمكنني شخصيا، أن أكون يوما مناهضة للسامية. كنت ساذجة! وصرخت أولا، في وجه هذه الاتهامات في ألمانيا سنة 2012. حينما حصلت على جائزة أدورنو، بأن هذا ليس إلا لغوا، ولكن ليس الأمر كذلك، إنه حقا أمر جدي ... كانت هذه التجربة صادمة، ومؤلمة جدا. بالنسبة لليهودي، لا يوجد امتحان أسوأ. وبالنسبة لي كيهودية، لا يوجد ما هو أسوأ من الاتهام.» وهي ترفض العنف تحت أي مبرر، حيث صرحت في محاضرتها سنة 2010 في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، في ذكرى إدوارد سعيد: «كنت دوما ميالة إلى الفعل السياسي اللاعنفي»، و«إنه لصحيح أنني لا أؤيد ممارسة المقاومة العنفية، كما لا أؤيد عنف الدولة، ولا يمكنني تأييد ذلك، ولم أفعل ذلك يوما.» وهذا ما تؤكده كتاباتها في هذا المضمار: «حياة قلقة-مستباحة: قوى العنف والعزاء»؛ و«أطر الحرب: متى يؤسى على الحياة؟»؛ و«طرق متفرقة: اليهودية ونقد الصهيونية»؛ «حياة هشة»: حول سلطة العنف والمآثم بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
الفيلسوفة السينمائية آين راند: ما نوع العالم الذي نعيش
فيه؟
في مقدمة كتاب «في سبيل نخبة جديدة»، تقول آين راند: «يطلبون مني (أن أجيب) ما إذا كنت روائية أو فيلسوفة، أجيب: الاثنين معا، وبمعنى من المعاني، فكل روائية فيلسوفة؛ لأننا لا نستطيع أن نقدم صورة عن الوجود البشري من دون إطار فلسفي؛ فقبل أن أحدد وأشرح وأقدم تصوري للإنسان، علي أن أكون فيلسوفة بالمعنى الدقيق للكلمة.» وآين راند (1905-1982) هي الكاتبة الروائية والسيناريست أليسا زينوفيفنا روزنباوم، التي اهتمت كثيرا بالتقاليد الفلسفية، واشتهرت في عالم الأدب والفن السابع أكثر مما اشتهرت في عالم الفلسفة ، على الرغم من كتاباتها الفلسفية الكثيرة، وأفكارها حول مذهب الموضوعية والنزعة العقلانية.
ولدت آين راند في سانت بطرسبرغ في روسيا في 2 فبراير (شباط) 1905 من عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى. وقد ساندت في هذه المدينة العمالية (الشهيرة كمعقل للاشتراكية الديمقراطية الروسية بتقاليدها البلشفية) حكومة كيرينسكي البرجوازية، وسرعان ما كرهت الحكم البلشفي بعد ثورة أكتوبر 1917 وإسقاط حكومة كيرينسكي، وأعلنت عداءها للشيوعية وللثوريين؛ إذ صادر الثوريون صيدلية والدها؛ ما أجبرها على الرحيل إلى أوكرانيا. عرفت آين منذ سن مبكرة (السابعة من عمرها) بمحاولاتها كتابة الرواية. وفي ربيعها التاسع، قررت أن تكون كاتبة محترفة. وفي المدرسة الإعدادية، ستكتشف فيكتور هيغو ملهمها الحقيقي في عالم الأدب. وبعد عودتها من أوكرانيا، ستحصل على شهادة التعليم الثانوي في يونيو (حزيران) 1921، وتنتقل إلى جامعة بتروغراد، حيث تدرس الأدب والفلسفة وتكتشف أرسطو، وفريدريك فون شيلر، ودوستويفسكي. وسيتغير مسار الفيلسوفة آين راند سنة 1924، بعد حصولها على شهادة الإجازة، حيث ستلج، في السنة نفسها، معهد الفنون السينمائية لاستكمال دراستها المحبوبة، بعد بحث استجاب لميولها: «هوليوود: مدينة الأفلام الأمريكية»، الذي يعبر عن استلهامها لروح المجتمع الأمريكي، وكانت لم تزل في روسيا. وفي سنة 1926، حصلت على تأشيرة لزيارة أمريكا حيث استقرت إلى يوم وفاتها 6 مارس (آذار) 1982، في نيويورك التي ألهمتها بعمرانها وحضارتها الصاعدة آنذاك، بعد صراع مرير مع سرطان الرئة (عرفت بكونها مدخنة شرهة للغاية).
رافقت آين الكثير من نجوم وكتاب عالم السينما والفنون في هوليوود، وتركت أثرها في أعمالهم؛ بفضل خيالها الواسع، وأسلوبها المختلف عن السائد. وناقشت أفلام الويستيرن، ودعت إلى تجديد أسلوب العروض الفنية ومضمونها بما يتماشى ومتطلبات الحضارة الصاعدة. وبفعل عوامل كثيرة، صاحبت ثلة من النخب الأمريكية لتؤسس حلقة «الموضوعية» التي توجت بصحيفتها الشهيرة بالتسمية نفسها، والتي واظبت على إصدارها من 1962 إلى 1971.
درست آين في ستينات القرن الماضي، في عدد من الجامعات الأمريكية: يال، برينستون، كولومبيا، هارفارد، وجوناس هوبكنز، حيث وضعت أهم أفكارها الفلسفية والسياسية والأخلاقية. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من سنة 1963 حصلت على الدكتوراه من جامعة لويس وكلارك، ونشرت بحثها سنة 1964، تحت عنوان فضيلة الأنانية
The Virtue of Selfishness ، الذي لخصت فيه فلسفتها الإثيقية والسياسية. تركت آين راند في عالم السينما، الكثير من رواياتها التي تحولت إلى أفلام شهيرة: «نحن الأحياء» 1936 (الترجمة الفرنسية 1996)، وأخرجه الإيطالي غوفريدو اليساندريني سنة 1942، كما هو الشأن بالنسبة لروايتها «منبع العيش» 1943 (الترجمة الفرنسية 1999)، و«الإضراب» في العقد نفسه (الترجمة الفرنسية 2011). ينضاف إليها مسرحية «ليلة 16 يناير» سنة 1933.
ويعبر كتابها «فضيلة الأنانية» 1964 (الترجمة الفرنسية 1993)، إلى جانب «مدخل إلى الموضوعية الأبستمولوجية» 1979، عن مجمل فلسفتها ومذهبها الأخلاقي في الموضوعية والعقلانية. غير أن محاضرتها البالغة الأهمية، التي ألقتها يوم 6 مارس 1974 أمام جمع من رجال السياسة والأعمال، والمعنونة ب «فيم نحتاج الفلسفة؟» (أخرجها ووضبها ليونارد بيلكوف سنة 1984)، ستلخص بإيجاز طروحاتها حول الإنسان. يعتبر «قاموس آين راند: الموضوعية من الألف إلى الياء»، الذي كتبه سنة 1986، المتخصص في فكرها السيد هاري بينزوركر، أهم مرجع يؤسس ويؤرخ لطروحاتها حول مذهب «الموضوعية»، ناهيك بالكثير من المؤلفات حول سيرتها وأفكارها. ويذهب الفرنسي سيباستيان كاري، إلى أن فلسفة آين راند، تشمل أربعة مجالات كبرى: الميتافيزيقا، حيث نحتت مفهوم «الواقع الموضوعي» من منطلق أن الفكر ليس جامدا ولا متعاليا يسبح في سماء المعقولات، بعبارة سارتر، وإنما هو محايث لواقع موضوعي بعيد عن تصور قبلي، وهو ما تلخصه عبارتها الشهيرة: «لفهم الطبيعة عليك الامتثال لها». ولا يعني الامتثال هنا، الاستسلام المطلق، إنما يفيد بأن في الطبيعة ما يجعل الأشياء كما هي، ولكون الإنسان جزءا منها، فهو «غاية في ذاته». وهي العبارة التي تلخص مذهبها في الأخلاق، حيث وضعت مفهوم «المصلحة الفردية» من منطلق أن نزعة الإيثار التي تعود إلى الوضعية والفلسفة الحديثة مع كانط وهيغل، قد أفسدت الحضارة البشرية، ومحت الأنا-وحدي
Solipsisme
الديكارتي، الذي مهد لفهم عميق للذات الإنسانية بعد أن أخرجها من جحور العصور الوسطى. وضعت في كتابها «مدخل إلى الموضوعية الأبستمولوجية» أسس فلسفة العلوم (الأبستمولوجيا)، بفضل تصورها الجديد لمفهوم العقل الذي يختزل فكرها في العبارة النيرة: «لا يمكنك أكل كعكتك والحفاظ عليها في الوقت نفسه.» لأننا بحاجة إلى تخليص المعرفة - كل المعرفة البشرية - من الخطأ.
وفي مجال السياسة تحدث سيباستيان كاري عن مفهوم «الرأسمالية الفوضوية»، حيث دعت آين راند لتصور بديل للدولة يقترب كثيرا من الفوضوية الروسية، لكنه بعيد جدا عن التيارات السياسية الفوضوية التي تنكر وجود الدولة، وعبارتها المدوية: «امنحني الحرية أو الموت»، تعني أن الفرد يمتلك قيمته في ذاته، من جهة أنه مكتف بذاته ولا يتوجب أن تحبسه الغيرية التي أفسدت على الفرد قيمه الأخلاقية النبيلة، ووراء السعي نحو التخلص من قيم الغيرية فإن من واجبات الدولة العمل فقط على حفظ مصلحة الأفراد الذاتية؛ لأننا «لسنا دولة ولا مجتمعا بقدر ما نحن تجمع بشري مبني على إرادتنا ويستجيب لمصلحتنا الفردية». وهؤلاء الأفراد يتقاسمون مجموعة من القيم خارج أي قوانين أو قواعد؛ لذا لا ينبغي ألا نقبل إلا القيم الموضوعية الضامنة لروح الأنانية العقلية أو أنانية المصلحة الفردية التي تمثل نقيض الغيرية أو عقلية القطيع (الجماعية)، حيث الفرد هو أساس كل الأخلاق يوجد لذاته وليس لغيره. وهنا تنفتح الفيلسوفة على مفهوم «الإنسان الأعلى» كما بلوره نيتشه، وعن مفهوم إرادة القوة وهو ما بلورته في كتابها: «في سبيل نخبة جديدة»، حيث راجعت أرسطو وأفلاطون وهيوم وكانط وهيغل.
من الأسئلة الفلسفية التي شغلت بال الفيلسوفة: ما نوع العالم الذي نعيش فيه؟ كيف يمكن إقامة حد فاصل بين المعرفة والخطأ؟ ما الشر؟ وما الخير؟ وهي الأسئلة التي وضعتها أساسا لكتابها النير: «فيم نحتاج الفلسفة؟» حيث دافعت في 18 مقالة عن الحاجة إلى وجود الفلسفة في كل مكان؛ لأن الحضارة الغربية قد أفلست بسبب فشل الفلسفة والفلاسفة في الدعوة إلى تقعيد وتشييد فلسفة العقل؛ فالفلسفة لا يجب أن تكون من اختصاص من يسكنون في البرج العالي؛ لأنها فلسفة للعيش على الأرض؛ عيش الفرد من أجل ذاته لا من أجل الآخرين. فكل كائن يعيش بطبيعة تحدد له الشروط الضرورية للحفاظ على بقائه، والناس بحاجة إلى منظومة أخلاقية؛ لأن محيطهم لا يمنحهم الأجوبة المباشرة على حاجاتهم. وفي هذا ترد على كانط الذي ارتكز جهده، بحسبها، على وضع أخلاقية غيرية قوضت النهضة الحديثة، ودمرت أسس الذاتية العقلانية؛ لأن الفرد يمكن وفق الواجب الكانطي، أن يكون شريرا أو خيرا؛ لأنه يؤمن بالأساس الذاتي للقواعد الأخلاقية كقاعدة عامة للتصرف والسلوك البشريين. فهذا «الفيلسوف الكسول» (كما نعتته) دمر النزعة الفردية التي هي قوام الحياة وأساس البقاء، معتبرة إياه «أكبر شخص سيئ في تاريخ الفلسفة». أبدى الكثير من المهتمين بالفلسفة المعاصرة، شكهم حول كون آين راند فيلسوفة، واعتبروها روائية وكاتبة سيناريو. غير أن هذا الاعتراف الذي كتبته في مقدمة كتابها «في سبيل نخبة جديدة»، يمكن أن يغير التحفظ حولها: «يطلبون مني ما إذا كنت روائية أو فيلسوفة! وأجيب: الاثنتين معا. وبمعنى من المعاني، فكل روائية فيلسوفة؛ لأننا لا نستطيع أن نقدم صورة عن الوجود البشري من دون إطار فلسفي؛ فقبل أن أحدد وأشرح وأقدم تصوري للإنسان، علي أن أكون فيلسوفة بالمعنى الدقيق للكلمة.»
نانسي فريزر: الحاجة إلى فضاء عمومي عابر للأوطان
نانسي فريزر فيلسوفة أمريكية معاصرة (1947-...) تدرس الفلسفة والعلوم السياسية في «الكلية الجديدة للأبحاث الاجتماعية»، (وهي نفس المدرسة التي درست فيها حنة آرنت). تهتم بموضوعات الفلسفة السياسية التي شغلت الجيل الثالث للنظرية النقدية (مدرسة فرانكفورت)، من أمثال أكسيل هونيث مدير المدرسة، وجوديث بتلر وسيلا بن حبيب، وهابرماس ... ويشكل موضوع العدالة والحق والنظرية النسوية وحول الفضاء العمومي، محور كتاباتها العديدة حيث قامت بمراجعات أساسية.
هي ثلاثة مجالات تحكم تفكير نانسي فريزر السياسي والفلسفي:
المجال الأول:
يتعلق بالمجال السياسي حيث تنظر وتعيد النظر في مفهوم الفضاء العمومي كما نحته هابرماس؛ لتؤسس أطروحتها الأساس حول الحاجة إلى تجاوز التصور الويستفالي الذي حكم هابرماس في نظريته، مقرة بوجود فضاء عمومي كوني يتجاوز الحدود السيادية الكلاسيكية، وهو فضاء تلعب فيه فئات وحركات اجتماعية جديدة أدوارا هامة. وتشكل كتبها الثلاثة أساس تصورها هذا: «ما هي العدالة الاجتماعية؟ الاعتراف وإعادة التوزيع» (مارس 2011). وكتاب «دينامية النساء» (2013). جدالات نسائية: مطارحات فلسفية. بالاشتراك مع سيليا بن حبيب وجوديث بتلر، ودروسيلا كورنل. (1994).
المجال الثاني:
يتعلق بالمجال الثقافي؛ حيث تعيد النظر في مفهوم الاعتراف مع ظهور الأشكال الجديدة للتفاوتات بين الناس في الرأسمالية المعاصرة: ظهور التعدد الثقافي ونشاط النسوية الجديدة، وتدفق الهجرة ومشاكل الاستبعاد الاجتماعي. وقد ساجلت أكسل هونيث وجوديث بتلر وبول ريكور حول هذا المفهوم؛ لتحاول التوفيق بين الأسس الفلسفية للاعتراف عند هونيث والأسس الثقافية لهذا المفهوم عند تشارلز تايلور. وهو ما بلورته في كتابها: التصور الراديكالي: بين إعادة التوزيع والاعتراف (2003)، وفي: إعادة التوزيع أو الاعتراف؟ مطارحات فلسفية-سياسية مع أكسيل هونيت، (2003).
المجال الثالث:
ويتعلق بالمجال الاقتصادي حيث تعيد النظر في مفهوم إعادة التوزيع: ذلك أن تصور العدالة الكلاسيكي ينبني على تصور معين لتوزيع الثروة، وهو التصور الذي يحاول أن يعيد النظر في النظريتين الأساسيتين حول العدالة: التصور الماركسي والتصور الليبرالي السياسي كما نجده لدى جون راولز وهابرماس؛ إيمانا منها بالحاجة إلى وضع جديد تسميه «وضع ما بعد الاشتراكية»، وهو ما قامت بالتأسيس له في: «انقطاعات العدالة: تأملات نقدية حول الوضع ما بعد-الاشتراكي» (1997). وفي: «موازين العدالة: إعادة تصور الفضاء السياسي في عالم معولم» (2008). (1) نظرية نانسي فريزر في الفضاء العمومي «لا يلائم «النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي»، النظرية النقدية المعاصرة. نحن بحاجة إلى تصور ما بعد برجوازي يسمح لنا بتخيل دور الفضاءات العمومية (أو على الأقل البعض منها) الذي يتجاوز الشكل البسيط لرأي ذاتي مستقل ومنفصل عن السيرورة الرسمية لاتخاذ القرار.»
1
اهتمت نانسي فريزر بمفهوم الفضاء العمومي عند هابرماس بالنظر إلى قيمته السياسية التي تساهم في فهم الملابسات التي تعترض الحركات الاجتماعية التقدمية والنظريات السياسية التي ترتكز عليها؛ فقد مثلت هذه النظرية طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين إسهاما مباشرا في فهم التغيرات السياسية التي أعقبت ثورة مايو 68، بعد ظهور الحركات الاجتماعية الجديدة من قبيل: الأقليات العرقية والإثنية، الحركة النسائية، حركات الحقوق الجنسية، حركات الثقافات واللغات المهمشة، حركة العاطلين عن العمل، والحركات المتصلة بمختلف المشاكل التي أفرزتها الرأسمالية عبر تطورها التاريخي. (1-1) حدود النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي
وينصب اهتمام فريزر أساسا على محاولة تجديد أطروحات النظرية النقدية، من خلال مراجعة مواقف الجيل الأول والثاني من أجيال مدرسة فرانكفورت، وفي هذا السياق راجعت نظرية هابرماس في الفضاء العمومي أو فيما تسميه «النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي»، لبيان صلته بالنظرية النقدية المعاصرة، ولفحص الأسس السياسية والفلسفية التي قام عليها، من أجل صياغة أطروحة جديدة تطلق عليها تسمية «الفضاء العمومي ما بعد البرجوازي»
l’espace public post-bourgeoisies .
وتؤكد أن المشكلة الأولى التي يطرحها مفهوم الفضاء العمومي الهابرماسي تكمن في العلاقة بين الدولة وأجهزتها من جهة؛ والفضاءات التعبيرية العمومية وجمعيات المواطنين من جهة أخرى، ذلك أن النموذج الكلاسيكي للدولة (الاشتراكي والماركسي) يفرض رقابة الاقتصاد للدولة الاشتراكية التي تراقب أيضا مجموع المواطنين الاشتراكيين. فالتشابك واللبس الذي يكتنف العلاقة بين أجهزة الدولة والفضاء العمومي وجمعيات المواطنين يعود إلى الشكل التحكمي والسلطوي للدولة الاشتراكية في مجمل الفضاءات والتنظيمات، وهو شكل لا ديمقراطي ولا تشاركي يستدعي بدوره طرح السؤال حول الديمقراطية الاشتراكية ذاتها كما طبقتها الأنظمة الستالينية، ونفس الأمر ينطبق على الديمقراطية البرجوازية التي طوقت الفضاء العمومي السياسي وأطرته بأطر وتشريعات قانونية وطنية لم تعد تستجيب لحاجيات المواطنين اليوم. ولذلك فإن كلا النمطين: البرجوازي والاشتراكي على حد سواء لم يعودا صالحين لنمط العيش المشترك اليوم، أي في عالم يحتاج إلى مواطنة كونية تنتفي فيه الحدود الوطنية الويستفالية.
تعتبر فريزر أن نظرية الفضاء العمومي تمتلك «قيمة مفهومية»، بحيث تساعدنا على فهم بعض المشكلات المعاصرة المتصلة مباشرة بالديمقراطية، وتحدد الفضاء العمومي بكونه «فضاء المجتمعات الحديثة؛ حيث تمر المشاركة السياسية عبر اللغة، إنه فضاء المواطنين الذين يناضلون من أجل مصالحهم المشتركة، فضاء يمأسس تفاعلا تداوليا».
2
وترفض التعريف الهابرماسي الذي يحدد المشاركة في جمهور مثقف يتقن استعمال العقل بشكل نقدي؛ لأن المجتمع المعاصر يختلف جذريا عن مجتمع القرن الثامن والتاسع عشر، مؤكدة في الآن ذاته أنه رغم ما يمكن أن يقال من مؤاخذات على نظرية هابرماس، فإن مفهوم الفضاء العمومي «ضروري للنظرية النقدية للمجتمع وللممارسة السياسية الديمقراطية»؛ لأنه مكان منفصل عن الدولة، وفضاء لإنتاج ونشر الخطاب النقدي تجاه الدولة، لا بد له من أن يتمثل كاقتصاد غير رسمي (اقتصاد الدولة) وخال من علاقات السوق، إنه فضاء لعلاقات التخاطب يسمح بالنقاش والتداول. فإذا حولت الرأسمالية الفضاء العمومي إلى مكان للبيع والشراء فإن الفضاء الذي يلائم النظرية النقدية المعاصرة ينبغي أن يتجاوز النموذج البرجوازي بحيث: «لا يمكن لأي محاولة لفهم حدود الديمقراطية الرأسمالية المتأخرة أن تتم دون اللجوء والاستعانة بطريقة أو بأخرى لبذل الجهود من أجل تطوير نماذج بديلة للديمقراطية.»
أبانت أركيولوجيا هابرماس عن عظمة وانحطاط الفضاء العمومي البرجوازي المحدود في التاريخ من جهة، ومن جهة أخرى عن تساؤله عن قانون النموذج المعياري المتعلق بهذه المؤسسة والتي يطلق عليها اسم «النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي»، وكان هدفه فيما ترى فريزر مزدوجا:
قصد فحص الشروط التي جعلت هذا النمط من الفضاء العمومي ممكنا.
إعادة وضع تلك الشروط في مكانها، وإدراك راهنية المنفعة المعيارية لهذا النموذج الليبرالي.
وتؤكد على الحاجة إلى تجديد هذه النظرية وتجاوزها؛ لأن «الشروط الجديدة لديمقراطية الجماهير ولدولة الرعاية في نهاية القرن العشرين، أسقطت الفضاء العمومي البرجوازي ونموذجه الليبرالي في عداد النسيان. وأن شكلا جديدا للفضاء العمومي ضروري لحماية وصيانة الوظيفة النقدية لهذا الفضاء ولمؤسسة الديمقراطية».
3
وتلوم هابرماس في أنه لم يبلور تصورا بديلا عن النموذج الليبرالي الذي نظر له، وهو ما يتنافى مع روح النظرية النقدية المعاصرة حيث تقول: «غريب أن هابرماس لم يذهب إلى وضع نموذج جديد للفضاء العمومي ما بعد البرجوازي ... وأكثر من ذلك لم يستشكل أبدا بعض الفرضيات المتداولة حول النموذج الليبرالي، وعليه فالفضاء العمومي انتهى دون اقتراح معنى وفهم لفضاء عمومي مغاير للنموذج الليبرالي خدمة لأهداف وغايات النظرية النقدية المعاصرة.»
4
وما يعنيه ذلك من أن هابرماس لم يستشكل ولم يقترح بديلا للنموذج البرجوازي، بل إن جهده لا ينسجم وتوجهات المدرسة النقدية ولا يخدمها؛ مما يجعله خارجها. (1-2) الحاجة إلى فضاء عمومي عابر للأوطان
تقر فريزر بالحاجة إلى تجاوز نظرية هابرماس؛ بالنظر إلى كونها مبنية على أسس وطنية ضيقة (الإطار الويستفالي) تجاوزها التاريخ، ولتعارض هذه النظرية مع معطيات الواقع الاجتماعي الجديد الذي كشفت عنه نظريات جديدة في التاريخ، والعرق، والنوع، والثقافة ... وهكذا تعلن أن هدفها هو الدفاع عن فضاء عمومي بديل للنموذج الليبرالي و«سأبدأ بمقارنة التأويل الهابرماسي للتحولات البنيوية للفضاء العمومي مع تأويل آخر (فهم آخر) يستند إلى الإسطوغرافية الحالية ... وفي خلاصة موجزة سأضع بعض سبل التفكير داخل النقاشات النقدية، التي ستفتح المجال أمام فهم آخر وما بعد برجوازي للفضاء العمومي (أي التفكير في فضاء عمومي ما بعد برجوازي).»
5
وفي المقطع المعنون ب «أي تاريخ؟ أي تصور؟» تصرح فريزر بالقول: «لنأخذ أولا تأويل هابرماس للتحولات البنيوية للفضاء العمومي كتجمع لأشخاص خصوصيين يجتمعون للصراع حول المصلحة العمومية أو المصلحة المشتركة. تمتلك هذه الفكرة قوتها وواقعيتها في بداية أوروبا الحديثة مع تأسيس «الفضاء العمومي البرجوازي» الذي شكل القوة النقيض والمعادية للدولة المطلقة.»
6
وفي المقابل فهي تفتقد أي مصداقية في واقع اليوم؛ لأن الجماهير العريضة غير المرتبطة بالبرجوازية هي التي صارت تلعب اليوم أدوارا هامة في اللعبة السياسية، وهي التي تحرص على الخدمة العمومية وتطالب بها حينما تفتقدها، هذا ناهيك عن كون الدولة المعاصرة قد قننت العديد من الحاجيات التي كانت مجرد مطالب في التاريخ الحديث. و«هؤلاء العموم مدعوون لخدمة الوسيط بين المجتمع والدولة، ورافضون أن تكون الدولة مسئولة أمام المجتمع بواسطة العمومية.»
تقوم نانسي فريزر
7
على امتحان واختبار نظرية هابرماس وفحص بعض أسسها ونقد بعض العناصر التي ترتكز عليها في ضوء بعض التحليلات الإسطوغرافية التي قدمها كل من جون لاندز
Jean Landes
وماري ريان
Mary Ryan
وجيوف إلي
Jeoff Eley ، وتركز على نقطتين أساسيتين: (1)
مسألة النوع الحاضرة بقوة التي ساهمت في طرحها بعض الحركات العريقة المتنامية في العالم خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين والتي عمادها النساء. (2)
مسألة السود الذين ناضلوا في أمريكا وكونوا فضاء عموميا نقيضا للفضاء الرسمي عبر نضالاتهم وحركاتهم.
تقارن بين التأويل الهابرماسي والتأويل الإسطوغرافي الحالي، حيث تعتبر أن التأويل الأخير ينطلق من أن هابرماس قدم الفضاء العمومي البرجوازي باعتباره فضاء مثاليا. حيث تشدد إليزابيت بروكس هيجنبوتان
Elizabeth Brooks Higginbothan ، وتقر بوجود فضاء عمومي بديل مسير من طرف السود في الولايات المتحدة الأمريكية ما بين 1880 و1920، حيث طرح السود الحق في المشاركة السياسية: التصويت، إلى جانب مجموع الفضاءات ومؤسسات المجتمع المدني. وتصر إليزابيت وريان على أن البرجوازية لم تكن تمثل قط الجمهور أي الشعب.
8
ولقد كانت هذه الفكرة جوهرية لفهم الاعتراضات التي تقيمها فريزر على هابرماس؛ لأن التجربة الأمريكية كانت بالفعل نموذجا أغفله هابرماس في نظريته عن الفضاء العمومي؛ لذلك فالفضاء العمومي البرجوازي ليس وحده موجودا وليس البرجوازيون وحدهم من يؤطره، بل إن هناك جمهورا آخر كان موجودا منذ بداية الفضاء العمومي. فإلى جانب البرجوازيين هناك دوما: جمهور المواطنين، صغار الفلاحين، النساء والنخبة، جمهور الطبقة العاملة؛ إنه جمهور عريض متعدد ومتنوع، وإن العلاقات بين الجمهور البرجوازي وباقي العموم هي على الدوام علاقات صراعية، وهو الأمر الذي يقر به جوف إيلي
Geoff Ely
بحيث لا يمكن أن يولد الفضاء العمومي إلا في خضم الصراع الاجتماعي.
9
مما يعني أن النموذج الهابرماسي وفق التأويلات الجديدة هو مجرد نموذج مثالي، طوباوي.
10
تحاول فريزر أن تعتمد مقاربة أخرى جديدة وبديلة للتأويل الهابرماسي من جهة، ولنقاده من جهة أخرى، معتبرة أن كلا التأويلين جذري إلى أقصى مدى. وتؤكد بأن نظرية هابرماس حول الفضاء العمومي تشتغل على مستويين: (1)
مستوى إمبريقي
Empirique (تجريبي) تاريخي، مؤسساتي. (2)
مستوى نقد الأيديولوجيا أو المثال المعياري.
وفي سياق بحثها لمرتكزات النظرية التقليدية للفضاء العمومي ترى أن هابرماس بنى نظريته حول ستة افتراضات مؤسساتية كلها وطنية: (1)
جهاز الدولة الوطنية (الأمة) الذي يمارس السيادة داخل مجال حدودي ووسط قاطنيه. (2)
اقتصاد وطني منظم قانونيا وفق التشريعات الوطنية. (3)
جسم المواطنين الذين يقطنون داخل حدود وطنية ويقتسمون مصالح عامة. (4)
لغة وطنية تؤسس وسيط التواصل داخل الفضاء العمومي. (5)
أدب وطني يؤسس وسيط التكوين وإعادة إنتاج توجيه ذاتي (وطني) في سبيل جماعة متخيلة (وطنية) أي هوية وطنية. (6)
بنية وطنية للتواصل، وصحافة وطنية، ومن ثم شبكة وطنية للإعلام والتوزيع.
هذه العناصر المؤسساتية هي التي ارتكزت عليها النظرية التقليدية للفضاء العمومي بطريقة أيديولوجية محددة وموجهة نحو سيرورة (وطنية) للتواصل العمومي (عن طريق اللغة الوطنية والإعلام الوطني)، والتي تخدم مصالح عامة مدبرة تواصليا؛ ذلك أن كيان المواطنين يقوم بقيادة وتنظيم شروط العيش المشترك وبشكل خاص اقتصاد وطني. وهو ما لا يسمح بالاعتراف أو البينذاتية على مستوى كوني عابر للأمم. بحيث اكتفت النظرية التقليدية الهابرماسية على المستوى الأمبريقي بالنظر فقط في السيرورات التاريخية التي ساهمت في دمقرطة الدولة-الأمة (الوطنية)، وعلى المستوى المعياري فلا تمثل إلا مساهمة في نظرية الديمقراطية الوطنية. وهنا تكمن حدود نظرية هابرماس في الفضاء العمومي، وفي هذين المستويين ترى نانسي فريزر أنه يمكن نقد اختلالات الديمقراطية للدول-الأمم
11
بتجاوز الطرح الهابرماسي، من خلال البحث عن أسس جديدة لنظرية معاصرة؛ لأن نظرية هابرماس تتعلق بمشروع سياسي محدود مرتبط بالدولة الوطنية (أي دمقرطة الدولة الحديثة)، يصعب معه «فهم كيف تؤسس الفضاءات العمومية سلطة ديمقراطية مضادة لسلطة الدولة»،
12
لذا فإن نقد هذه النظرية التقليدية يتوجه إلى الأسس الوطنية التي قامت عليها.
كانت المقاربة الهابرماسية مبنية على أسس وطنية أي داخل الإطار الوطني، وهو الأمر الذي نجده لدى الانتقادات المتنوعة التي تعيد التفكير في الفضاء العمومي من وجهة نظر النوع (النساء) والعرق (الأقليات) والطبقة (الفقراء). ولم تتم أشكلة نظرية الفضاء العمومي إلا في العقود الأخيرة بفضل تنامي الظواهر العابرة للأمم، والمرتبطة بالعولمة أو بما بعد الاستعمار أو بالتعددية الثقافية؛ حيث أصبح من الضروري بحث إمكانية وضرورة إعادة تشكيل نظرية الفضاء العمومي على أسس عابرة للأمم (دولية، عالمية).
تنطلق فريزر من بعض عناصر التفكير في هذا السبيل من أجل فضاء عمومي ما بعد برجوازي؛ إذ كتبت تقول: «يتمثل اقتراحي العام في إعادة تسييس نظرية الفضاء العمومي التي تتعرض لخطر فقدان قيمتها السياسية
dépolitisée .»
13
يطرح الإطار الوطني للفضاء العمومي في النظرية التقليدية العديد من المشكلات التي يمكن تحديدها في مشكلتين أساسيتين:
الأولى:
الفرق بين الدول الوطنية والسلط الخاصة، بحيث صار من الواجب إعادة بناء السلط العمومية على نحو دولي (عالمي) من أجل الحد من سطوة السلط الخاصة، ولفرض رقابة ديمقراطية دولية عليها.
الثانية:
تتصل بالفرق بين المواطنة داخل الدولة الواحدة والبلدان الأخرى، بحيث يجب مأسسة عناصر المواطنة الدولية/الكونية وإنتاج تضامن واسع وغير مقيد بالفروقات اللغوية والعرقية (الإثنية) والدينية والوطنية، ومن ثم إنتاج وبناء فضاءات عمومية واسعة مبنية على تواصل ديمقراطي مفتوح.
ومن أجل التأسيس لمقاربة جديدة للفضاء العمومي ينبغي تفادي مقاربتين محدودتين:
مقاربة إمبريقية:
تأخذ بعين الاعتبار فقط النظرية في علاقتها بالوقائع الموجود التي تتأسس على المعايير.
مقاربة مثالية:
متعالية على الواقع الاجتماعي.
البديل هو مقاربة نظرية نقدية توظف الخصائص المعيارية وتأخذ بعين الاعتبار الإمكانات السياسية. (1-3) في سبيل نظرية خطاب نسوية
تشغل المسألة النسائية في تفكير نانسي فريزر مكانة هامة؛ أولا: باعتبارها مناضلة يسارية ترعرعت في كنف الحركة الاشتراكية، وثانيا: باعتبارها صاحب قول في الفلسفة الاجتماعية والنقدية التي ترتكز على قراءة التجارب (التي تنخرط فيها يوميا) لاستخلاص الدروس.
تدعو فريزر في الفصل الخامس من كتابها: «دينامية النساء» (2012)، الذي عنونته ب «بنيوية أم برغماتية؟ حول نظرية الخطاب (النسوي) والسياسة النسوية» إلى حاجة الحركة النسائية إلى نظرية متكاملة حول الخطاب؛ من أجل إدماج مفاهيم الخطاب، كما نجدها عند جاك لاكان، فوكو، هابرماس، غرامشي، كريستيفا، دريدا، باختين ... معلنة أنها تحاشت الحديث في وقت سابق عن هذا الأمر؛ أي حاجة الحركة النسائية إلى خطابات فوق-نظرية؛ لذلك تقول: «سأحاول شرح لماذا تحتاج النسوية إلى نظرية الخطاب، وسأنطلق من سؤالين محوريين: فيم ستخدم نظرية الخطاب الحركة النسائية (وخاصة الموجة الثالثة)؟ فيم ستحتاج ناشطات الحركة النسائية نظرية الخطاب؟ أرى أن هذه النظرية ستساعدنا على فهم أربعة أشياء: (1)
ستسمح لنا بفهم كيف ستتغير وتتحول مع الزمن الهويات الاجتماعية:
تعني الهويات الاجتماعية دلالات مركبة وأنظمة من التأويلات، فأن تمتلك هوية اجتماعية، أي تصبح امرأة أو رجلا مثلا، تعني أن تعيش وتتحدد تحت مجموعة من الأوصاف؛ أوصاف لا تخص الجسد أو الروح فقط، حيث لا يكفيك الإلمام لا بالبيولوجيا ولا بعلم النفس، بل يتوجب عليك الغوص في الممارسات الاجتماعية المحددة تاريخيا للنوع؛ لفهم كيف تشكلت الهوية.»
الهويات الاجتماعية في نظر نانسي معقدة ومركبة جذريا: لا توجد هناك امرأة بل امرأة بيضاء ، يهودية، من الطبقة المتوسطة، فيلسوفة، سحاقية، اشتراكية، أم ... ولأن كل الناس يتحركون في سياقات اجتماعية متعددة، تتشكل الهوية الاجتماعية لفرد ما في خضم مجال وسياقات تحركه ووجوده؛ لذلك لا توجد امرأة بنفس المقاييس أو المعايير.
في بعض السياقات تمثل الأنوثة مكانة محورية من ضمن مجموعة من الأوصاف التي تؤطرنا وتحيط بنا أو تنسب إلينا؛ ولهذا لا تتشكل الهويات الاجتماعية دفعة واحدة، بل يتم تعديلها مع مرور الزمن، وتتغير بالموازاة مع الممارسات ومع هويات الفاعلين. (2)
ستسمح لنا بفهم كيف تتشكل وتتفكك المجموعات الاجتماعية في ظل شروط اللامساواة: كيف يجتمع ويتنظم الأفراد تحت يافطة الهوية الاجتماعية؟ كيف تنشأ طبقة ما؟ أو نوع اجتماعي ما؟ يتم تشكل جماعة ما في خضم نضالات برهاناتها وخطاباتها المتنوعة. (3)
ستؤثث وتضمن التداخل الثقافي للمجموعات السائدة في مجتمع ما. (4)
ستوضح لنا منظورات التغيير الاجتماعي والممارسات السياسية للاضطهاد.
يأتي اهتمام نانسي بنظرية خطاب نسوي في سياق إيمانها الكامل بحجم المعاناة التي تزداد مع توسع الرأسمالية في طورها النيوليبرالي؛ حيث لم يعد خطاب الحركة النسوية كما كان مع الموجة الأولى؛ لأن النساء أنواع بحسب تنوع الهويات الاجتماعية، ولا توجد المرأة كما تقول بنفس معايير النساء، بل المرأة بما هي نوع اجتماعي مميز بهويته.
سيلا بن حبيب: سيرتها، فلسفتها السياسية ومواقفها
(1) أولا: السيرة (1-1) تعريف بسيلا بن حبيب
1
ولدت سيلا بن حبيب
Seyla Benhabib
بإسطنبول/تركيا سنة 1950، وهي أستاذة العلوم السياسية والفلسفة بجامعة يال
Yale
الأمريكية، وتدير بنفس الجامعة برنامج الإثيقا والعلوم الاقتصادية والسياسية. وهي عضو الجمعية الفلسفية الأمريكية منذ 1996، ودرست بشعبة الفلسفة بجامعة بوستون
Boston
وستوني بروك
SUNY Stony Brook
والكلية الجديدة للبحث الاجتماعي
New School for Social Research (التي درست فيها حنة آرنت وتدرس فيها حاليا نانسي فريزر
Nancy Fraser )، كما درست بشعبة الحكامة بجامعة هارفارد
Harvard . ألفت العديد من الكتابات التي تتناول قضايا فلسفية وسياسية عديدة، سنتطرق إليها فيما سيأتي. واشتغلت سابقا مع هابرماس، وتهتم تحديدا بالنظرية النقدية والنظرية النسوية. تزوجت من الصحفي والكاتب جيم سليبر
Jim Sleeper
الذي يشتغل بدوره بجامعة يال. وتتقن اللغة الألمانية، والتركية، والإنجليزية، والفرنسية والإيطالية.
تشغل سيلا بن حبيب منذ 2013 رئيسة اللجنة العلمية بجامعة كولونيا بألمانيا حيث حصلت على جائزة
2
Meister-Eckhart-Preis
سنة 2014، وذلك بفضل المساهمات التي قدمتها حول الهجرة والتعدد الثقافي والهوية. هناك عنصر هام في ذاكرة الفيلسوفة بن حبيب يتعلق بالهوية اليهودية من خلال مجموع الوقائع التي عاشتها عائلتها مع الغربة، وهو الأمر الذي ساهم في جزء كبير من تشكيل شخصيتها، حيث تعود محنة عائلتها إلى سنة 1492 التي ارتحلت فيها إلى تركيا (إبان الحكم العثماني) فرارا من إسبانيا من جراء حملة محاكم التفتيش التي كانت تجبر المختلف عقائديا على تغيير عقيدته الدينية.
أثر في سيلا أساتذة أمريكيون فروا إلى تركيا بسبب موقفهم من غزو الفيتنام، ناهيك عن الحركة الطلابية والحركات العمالية والاحتجاجية المطالبة بالاستقلال. وقد مثلت الفلسفة السياسية توجهها الأول،
3
لأنها كانت من جيل الحركة الطلابية 1968 التي يعود لها الفضل في بناء توجهها الفكري والسياسي «الاشتراكي الديمقراطي» كتبت أطروحتها في فلسفة هيجل السياسية سنة 1977 (أي في النصف الثاني من عقدها الثالث)، حيث قارنت فيها بين تصور هيجل لمفهوم الحق والحق الطبيعي. وبعد ذلك ناقشت أطروحتها في فلسفة هوبز.
وتنظر بن حبيب إلى الفلسفة السياسية لا كبحث في تاريخ الفكر أو الفلسفة السياسيين، بقدر ما هي الاتصال بالأحداث الراهنة والمعيشة،
4 (وعلى هذا الأساس ارتأينا التركيز على مواقفها من قضايا عالم اليوم من قبيل: فلسطين، إسرائيل، تركيا، الاتحاد الأوروبي، الربيع العربي) إنصافا لروح فلسفتها. وتصرح سيلا بن حبيب أن «التحول الكبير الذي عاشته حدث في سنوات التسعينيات، حيث دشنت البحث في قضايا التعددية الثقافية والمواطنة والهجرة داخل الاتحاد الأوروبي».
5
أما عن علاقتها بهابرماس فتقول: «يعود الفضل لهابرماس في نحته لمفهوم العقلانية التواصلية، وأنا بدوري أعتبر أن العقلانية التواصلية مسلمة، وأفترض مسبقا أن كل عملي يتمحور حول صلاحية الانتقال إلى العقلانية التواصلية. كنت مهتمة بالروابط بين العقلانية التواصلية والأخلاق والديمقراطية التشاورية، حيث يلعب الفضاء العمومي دورا محوريا.
هناك تحول في الفضاء العمومي ساهمت فيه وسائل الإعلام والتواصل الحديثة، ويؤثر على الحركات الاجتماعية والفعل السياسي عموما، ويتوجب الوعي بهذه التحولات التي تخترق العالم، وأطلب في هذا السياق: ما هي التجربة الملموسة لجيل ابنتي مثلا التي ولدت سنة 1986؟ تستيقظ الأجيال الجديدة وتشغل حاسوبها وتتلقى كل الأخبار والمعلومات في وقتها عبر النت، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نحن أمام مركزة صاعدة ومحتكرة لوسائل الإعلام.»
6
وناقشت سيلا بن حبيب أيضا التفاوت القائم بين وسائل الاتصال والإعلام في تبادل الرأي والمعلومات وبين التداول المتبع في التشاور حول اتخاذ القرارات؛ لأن التداول هو شكل بديل لاتخاذ القرار في المؤسسات وليس في وسائل الإعلام؛ لأن هذه الأخيرة مجرد أدوات لتبادل الرأي لا أكثر، حيث تقول: «لا يمكن لوسائل الإعلام أن تكون أداة للتداول أبدا، وإنما مجرد أداة مساعدة؛ لأن عملية التداول واقعية وتحتاج إلى وقت وإلى عدد كبير من المعطيات؛ فوسائل الإعلام والاتصال تلعب دورا في تبادل الآراء واختبار بعض المقترحات بخصوص اجتماعات معينة أو مبادرات، ولكنها لا يمكن أن تحل محل التداول، وأنا ضد اتخاذ قرارات جماعية في وسائل الاتصال الإلكترونية أو التصويت.»
7 (1-2) مؤلفات سيلا بن حبيب
كثيرة هي الكتب التي ألفتها بن حبيب في مجالات مختلفة، تتصل تحديدا بالفلسفة السياسية وبالعلوم السياسية، وترتكز على قضايا عالم المعيش، التي تؤرق ملايين الأشخاص في العالم: من قبيل مشكلات الهجرة، الاحتلال، مخيمات اللاجئين، المقيمين، البدون أوراق
les sans papiers ،
8
المهمشين والمقصيين بسبب العرق أو اللغة أو الدين أو الهوية. وفي مسائل نجد لها حضورا قويا في كوسموبوليتية بن حبيب، إيمانا منها أن بناء عالم الغد لا يمكنه أن يتم إلا في إطار تصور شامل وكلي لمجموع العالم أو ما أسمته الدولة العالمية أو الحكومة العالمية. وسنحاول أن نقدم هنا جردا لمؤلفاتها مع بيان بعض مضامين الأهم منها والمتوافرة لدينا.
9
طرحت بن حبيب في كتبها الأخيرة «حقوق الآخرين: الأجانب، المقيمين، والمواطنين»،
10
و«كونية أخرى»
11
قضايا جوهرية حول الشرعية الديمقراطية، الليبرالية الدستورية، الحق في الإقامة المؤقتة والدائمة، الحكومة العالمية، الفيدرالية العالمية ... وتقدم فيها حججا قوية لحماية الجماعات البشرية الهشة والضعيفة (الأجانب، المقيمين، اللاجئين ...)، كما تعالج فيها مسألة الحدود، حيث تقول:
حاولت في كتبي الأخيرة، معرفة ما إذا كان هنالك موقف يمكن الدفاع عنه وتبنيه، بين فتح الحدود من جهة، والمحافظة على سيادة الدولة - معاهدة ويستفاليا - من جهة أخرى. إن موقف الحدود (أي كسر الحدود على تحركات الناس) هو الموقف الوحيد الذي يبدو أخلاقيا، وأكثر قبولا؛ لأنه من الصعب جدا حرمان الناس من حقهم المشروع في حرية التنقل والسفر، فهذا الحق، هو واحد من أهم الحريات الأساسية والضرورية للإنسان،
12
ولا يقتصر الحوار حول الهجرة على حق الدخول إلى دولة معينة، وإنما يجب أن يركز هذا الحوار على حق العضوية داخل ذلك المجتمع، في حالة دخوله ولو لمرة واحدة؛ لأن مطلب الحق في التمتع بكافة الحقوق يتطلب الاعتراف بالعضوية الوطنية، فالاستشفاء والعلاج والتمدرس وإنشاء شركة؛ كلها حقوق تستوجب الاعتراف القانوني بالمهاجرين واللاجئين.
أما كتابها «النقد، المعيار واليوتوبيا»،
13
فيعتبر أهم مؤلفاتها الفلسفية (حوالي 455 صفحة) صاغت فيه مفهوم النقد، من جهة أصولها الفلسفية الحديثة التي تعود أساسا إلى هيجل، وهو موضوع الفصل الأول من الكتاب، مضيفة إليه مرتكزات النقد الهيجلي المنهجي والمعياري لنظريات الحق الطبيعي، لتنتقل في النقطة الثالثة، إلى النقلة الماركسية، وتحديدا في الفترة ما قبل 1848 حيث اتخذ النقد صيغة نقد النقد المجرد أو المثالي كما صيغ في المثالية الألمانية. وفي الفصل الثاني، عالجت المنهج الفينومينولوجي الهيجلي باعتباره أصلا من الأصول النقدية الهيجلية، حيث بلور هيجل مقولة الشغل كفرضية من فرضيات المنهج الفينومينولوجي، مصحوبا بالنقد الماركسي لهذه الفرضية بالاعتماد على التحليل الأنثروبولوجي مع مخطوطة 1848، في حين خصصت الفصل الثالث، لنقد هيجل لفلسفة كانط الأخلاقية، لتنتقل في الفصل الرابع إلى تشكل النقد كنظرية مع الفكر الماركسي مركزة أكثر على المستويات الثلاثة للنقد في كتاب «الرأسمال» ل «كارل ماركس
Karl Marx »، ولم تفت الفرصة بن حبيب للتذكير بأهم مراحل النقد كما تبلور مع هابرماس في الربع الأخير من القرن العشرين، حيث بحث مفهوم نقد العقل الأداتي، وهو محور الفصل الخامس من الكتاب، مبينة في الفقرة الأولى منه أهمية الانتقال من نقد الاقتصاد السياسي إلى نقد العقل الأداتي، عبر بيان مزايا هذا الأخير بالوقوف على فكر كل من جورج لوكاتش
G. Lukács ، وماكس فيبر
M. Weber ، ونخبة مدرسة فرانكفورت، حيث تبحث عن المفارقات التي طرحتها العقلانية في زمن الفعل التواصلي من داخل فلسفة الذات. ولتوضح في الفصل الثامن: الحاجة إلى أخلاقية واستقلالية تواصلية. وتختم الكتاب بالبحث فيما تسميه «ما وراء فلسفة الذات»، ولا شك أن هذا هو مجال اهتمامها في فترة ما بعد التسعينيات. (2) ثانيا: فلسفتها السياسية
يصعب الإلمام بمجمل فلسفة سيلا بن حبيب لعدة اعتبارات: (1)
كون إسهاماتها متعددة المشارب ومتنوعة جدا، تتراوح بين قضايا عديدة لا ندعي إمكانية الإلمام بها جميعها في هذا المقال. (2)
لا يزال فكر الفيلسوفة جاريا؛ مما يعني أن محاولة حصره في هذا الاتجاه أو ذاك، إنما هي مغامرة كبرى في حقها. (3)
كون وضعها الخاص، وتاريخها الخاص، يفرض عليها الانخراط السياسي في قلب المعركة؛ لذلك فإن مواقفها السياسية تجد مكانها كثيرا في فلسفتها. (4)
اهتمامها بقضايا العصر الأكثر إلحاحا من قبيل الهجرة، الحدود، السيادة، المواطنة، وهي القضايا التي تعرف مستجدات جارية لا حصر لها.
إلا أنه رغم ذلك، أمكننا التمييز بين مرحلتين أساسيتين من تطور فكر الفيلسوفة سيلا بن حبيب الفلسفي والسياسي معا:
مرحلة ما قبل التسعينيات: (من القرن العشرين)، وقد مثلت الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة مصدر فكرها الفلسفي. وهي مرحلة الشباب إن جاز التعبير الألتوسيري هنا، حيث تشكل فكرها من خلال اشتغالها على عباقرة الفكر السياسي الحديث من أمثال هيجل
Hegel (أنجزت أطروحتها الأولى حول هيجل - الذي استلهمت منه العديد من أفكارها - بعنوان: «هيجل والحق الطبيعي: بحث في الفلسفة السياسية الحديثة»)، وتوماس هوبز
Hobbes
وكانط
Kant (من خلال فحصها لمشروع السلام الدائم الذي أسست عليه أطروحاتها الحالية حول المواطنة الكونية، والسيادة ما بعد الوطنية)، ومرورا بحنة آرنت
H. Arendt (حيث أنجزت كتابين حول فكرها - أشرنا إليهما أعلاه - موظفة بشكل كبير مفهوم آرنت الذائع الصيت: «الحق في التمتع بكافة الحقوق») وهابرماس
Habermas
مستلهمة منه مفهوم العقلانية التواصلية الذي تعتبره أساس مشروعها، رغم انتقادها لهابرماس حول إقصائه لدور النساء في الفضاء العمومي ومن الكونية الأخلاقية.
14
مرحلة ما بعد التسعينيات:
حيث انكبت أساسا على معالجة قضايا الوضع البشري الأكثر إلحاحا: النسوية، الهجرة، التعدد الثقافي، المواطنة العالمية، الديمقراطية، العدالة، السيادة ...
كما يمكن أن نعتبر الفيلسوفة منظرة ومفكرة تنتمي إلى الجيل الثالث للنظرية النقدية، من خلال اشتغالها مع هابرماس وأكسيل هونيث
A. Honneth
ونانسي فريزر
N. Fraser
وجوديث بتلر
J. Butler .
15
ويهدف مشروعها العام إلى بلورة نظرية كوسموبوليتية للعدالة تتمركز حول إعادة التوزيع على الصعيد العالمي، إلى جانب حق الانتماء. ويتعلق سؤالها بمدى معرفة كيف أن نوعية/طبيعة أعضاء جماعة سياسية معينة قادرة على تحقيق توزيع عادل للثروة، وضمان اعتراف كامل بالمواطنة من خلال التمتع بكافة الحقوق التي للأعضاء الحقيقيين (الأصليين) لذلك المجتمع. وهو ما جعل نظريتها ترتكز على بيان حدود التنظيم السياسي الذي يميز بين أعضاء جماعة ما والأجانب أو المهاجرين. وتقدم حجتها دعما لحق أساسي في الخيرات بالارتكاز على أخلاقية المناقشة مسنودا بمفهوم الحرية التواصلية. كما أن حقوق الإنسان أيضا تقدم شرط الاستقلالية لكل فرد تأخذ بعين الاعتبار حقا أساسيا هو الحق في التبرير
justificationla .
16 (2-1) نظرية الديمقراطية
لا تنفصل نظرية الديمقراطية عند سيلا بن حبيب عن مشروعها الفلسفي-السياسي العام، فهي نظرية في العدالة، وفي الحق، وفي المواطنة الكونية التي تتأسس على منظور كوسموبوليتي يحاول إعادة النظر في طريقة تدبير المشاكل العالمية المتنامية، وأساسا تلك المتعلقة بالهجرة والبيئة والمساواة، والنسوية، والمواطنة، والتعدد الثقافي ... فالثقافات لا تتشكل أحادية القطب، أي بمعزل عن الثقافات الأخرى، بل تتشكل من خلال حوارها مع الثقافات الأخرى. وتفيد الديمقراطية عندها «بناء جماعة سياسية بقواعد واضحة، يتم عبرها تحديد العلاقات بين الداخل والخارج». وفي الديمقراطية «يستمد الدستور شرعيته من الإرادة الجمعية والمتحدة للشعب» ... «فالشعب الديمقراطي يقبل سلطة القانون؛ لأنه في الآن نفسه واضع ومستقبل هذا القانون. إن مواطن ديمقراطية ما ليس بالمواطن العالمي، بل مواطن داخل مجموعة سياسية محددة، بغض النظر عما إذا كان ذلك يتعلق بدولة مركزية أو فيدرالية، باتحاد أوروبي أو باتحاد للدول.»
17
وترى أن الفرد وفق منظورها للديمقراطية هو من يقرر في حياته الخاصة. ولضمان الانسجام بين التعددية الثقافية والكوسموبوليتية في عالم اليوم تأخذ بعين الاعتبار ثلاثة شروط: (1) «التعامل بالمساواة»: حيث يجب أن يتمتع أعضاء الأقليات بنفس الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تتمتع بها الأغلبية. (2) «القبول الطوعي»: حينما يولد فرد ما، لا يجب أن يعين له دين ما أو ثقافة ما بشكل أوتوماتيكي. ولا يجب أن تترك الدولة للجماعات الحق في تقرير حياة الأفراد. فأعضاء المجتمع لهم الحق في التعبير بأنفسهم عن اختياراتهم. (3) «الحرية في الخروج من الجماعة والحرية في التجمع»: لكل فرد الحرية في الخروج عن جماعته. فحينما يتزوج فرد من جماعة أخرى فلكل منهم الحق في الحفاظ على عضويته. ويجب إيجاد تسويات بالنسبة للأزواج بين الجماعات وأطفالهم.
يطرح موضوع الانسجام بين التعددية الثقافية والمساواة الديمقراطية نقاشات كبرى؛ فالشرط الأول يتعلق بالعديد من الثقافات التي تتعرض فيها الأقليات لاضطهادات متكررة من طرف الأغلبية، وحيث لا تقوم الحكومات بأي جهد لوقف المجازر التي يتعرضون لها. كما أن الشرطين الأخيرين يطرحان مشكلات كبرى. (2-2) المساواة والتنوع في عصر العولمة
لم يكن الفكر والفلسفة السياسيين يهتمان بشكل كبير بمسألة التعددية الثقافية قدر اهتمامهما بها اليوم، بحيث كرست معاهدة ويستفاليا المنظور الأحادي للهوية والمواطنة داخل الدولة الوطنية (الدولة-الأمة) فيما يشبه الدولة- المدينة، رغم أن أفلاطون كان يصرخ دوما داخل الدولة المدينة: «أنا لست أثينيا، ولا يونانيا: أنا مواطن العالم»، وعلى منواله تغنى الرواقيون والكلبيون بالمواطنة العالمية والكونية
18
وقليلا ما استثمر هذا الإرث اليوناني في الفلسفة السياسية، ويعود هذا المشكل في نظر بن حبيب إلى الفصل العبثي بين الديموس
Démos
والإثنوس
Ethnos .
ستتعزز الدراسات حول إشكالات الهوية والتعددية الثقافية، مع نهاية الحرب العالمية الثانية وما تلاها من بداية جديدة للعلاقات الدولية والاعتراف بالمؤسسات الدولية والعالمية التي دافعت عن تعزيز حقوق الإنسان؛ نتيجة كوارث الأنظمة الشمولية والاستبدادية التي اجتاحت العالم، وهي الإشكالات التي عالجتها سيلا في كتابها القيم: «مطالب الثقافة: المتماثل والمختلف في عصر العولمة».
19
يتناول هذا الكتاب إشكالية هامة طبعت النقاشات المعاصرة لتزيل الوهم الذي يرى أن الثقافات مجرد أجزاء من فسيفساء يمكن الهيمنة عليها بسهولة، ويمكن تلخيصها في السؤال التالي: «كيف يمكن تطبيق الديمقراطية الليبرالية في عالم مليء بأشكال جديدة من صراع الهويات والثقافات؟» وقفت في الفصل الأول على استخدام وسوء استخدام الثقافة، لتنتقل إلى الإشكالية القديمة-الجديدة: نحن وهم، لتقترح نموذجا بديلا لتغيير السياسات المعاصرة في الفصل الثالث يمكن الاقتداء به في التغيير سمته من إعادة التوزيع إلى الاعتراف. وهو نفس الشعار الذي تبنته نانسي فريزر في كتابها: ما العدالة الاجتماعية؟ الاعتراف وإعادة التوزيع.
20
كما وقفت فيه على مسألة التعددية الثقافية ومواطنة النوع الاجتماعي، وما يرتبط بها من معضلات لتقترح الديمقراطية التداولية كبديل للديمقراطية الليبرالية من خلال وقوفها على مفهوم ما بعد الدولة-الأمة. وقد ترجم هذا الكتاب إلى: اللغة السويدية، الإيطالية، الإسبانية.
في مقاله حول الديمقراطية التشاركية: الحدود والاستقلال الذاتي، يذهب رومان فيلي
Romain Felli ،
21
إلى أن العولمة قد طرحت رهانات جديدة تتجاوز إطار الدولة الوطنية، بحيث إن قضايا من قبيل الهجرة والكوارث البيئية والإرهاب، تفترض حلولا تتجاوز الإطار الوطني الويستفالي؛ مما يعزز الحاجة إلى حكامة دولية بدأت تطرح نفسها رغم أنها تسير عكس إرادة الشعوب. وهناك بالنسبة لسيلا بن حبيب طريقة أخرى لتصور المواطنة الجديدة، أي مواطنة تتجاوز مفهوم مواطنة الإقامة. وعلى هذا الأساس أعادت النظر في مفهوم الضيافة
22
الذي طرحه كانط في مشروع السلام الدائم. كما تستوجب المواطنة الجديدة في نظرها إعادة بناء تصور الفعل السياسي دون المرور بقطيعة قانونية بين العضو الذي ينتمي إلى الجماعة أو غير العضو القادم إلى تلك الجماعة من جماعة أخرى (قد يكون مهاجرا أو مقيما بشكل مؤقت أو دائم أو لاجئا). هكذا فالحدود الخاصة بدولة ما يمكن إعادة تحديدها من منظور كوسموبوليتي-كوني يتجاوز المنظور الويستفالي. وتستدل سيلا بن حبيب على ذلك بالحركات الاجتماعية الحضرية التي تجسد نموذجا «فعل سياسي خارج التمييز الكلاسيكي بين العضو/وغير العضو».
23
وبناء عليه تقترح سيلا بن حبيب مواطنة كونية أو مواطنة ما بعد الدولة-الأمة، وما يقتضيه ذلك من ضرورة إعادة بناء أسس هذه المواطنة على نحو جذري. إلا أن الأمر لا يتعلق ب «محو الحدود السيادية للدول وإنما طرق جديدة لتدبيرها»، أي «فتح العلبة السوداء للسيادة الوطنية».
24
ولنا في تحليلها لطبيعة الدولة الإسرائيلية مثال على ذلك، حيث تؤكد أن إسرائيل لا تزال حبيسة التصور الويستفالي القديم، وتسعى إلى تدبير صراعها مع الفلسطينيين وفقه، وهو ما يجعلها مهتجسة دوما بالهاجس الأمني، الذي لا تستطيع الخروج عنه. وهو ما يبرر ممارستها للحرب. (2-3) تجديد الكوسموبوليتية الكانطية
انطلقت الرؤية الكوسموبوليتية لسيلا بن حبيب من مشروع السلام الدائم لكانط كنقطة بداية
25
وأساسا من الحق الكوني في الاستشفاء، فلكل شخص الحق في الذهاب إلى حيثما شاء دون أن يخشى التعرض للمرض. أخذت سيلا هذه النقطة كمنطلق لمشروعها الفكري حول الهجرة واللاجئين. وذهبت بعيدا أكثر من كانط حيث لا ترى أن الاستشفاء حق للمهاجرين فقط أي العابرين أو المؤقتين وإنما حتى للمقيمين طويلا (حالة المنفيين/ اللاجئين السياسيين). لذلك ترى أن جوهر الجدل العالمي-الكوسموبوليتي في يومنا هذا يعتمد على المشاركة الديمقراطية. وتمييز كانط بين حق الضيف وحق الزائر لم يعد في يومنا هذا مقبولا؛ فالضيف يعتبر دائما مواطنا محتملا. ويجب أن تكون هناك مؤسسات في المجتمع تمكن «الغريب الأجنبي»، أي «الآخر»، من أن يصبح عضوا من أعضاء المجتمع. وهنا لا يتعلق الأمر بعالم من دون حدود، وكذلك لا يتعلق بأنه لا يجوز أن تكون هناك شروط وقوانين على الإطلاق. ولكن يجب أن تتم صياغة مثل هذه الشروط والقوانين بصيغة تتوافق مع حقوق الإنسان وتراعي الديمقراطية بقدر الإمكان.
وإذا كان كانط ينظر للكوسموبوليتية كما يعيشها في عصر التنوير، فإن سيلا بن حبيب تنظر لها في سياق مختلف تماما، بحيث ترتبط هذه المسألة بمسارها الشخصي والعائلي، حيث تقول إجابة عن سؤال: كيف شكلت مسيرتك الشخصية قيمك الكوسموبوليتية؟ «الأمر يرجع إلى جذور عائلتي، فعائلتي سمح لها بالدخول إلى أراضي الإمبراطورية العثمانية أيام التفتيش الإسباني، واستقررنا في صالونيك وإسطنبول وغاليبولي. فأنا دائما كنت واعية بسخرية التاريخ الأوروبي، فإسبانيا باكتشافها لأمريكا كانت أول من بدأ في التفتيش الديني، فاضطر اليهود إلى مغادرتها، واستقبلهم المسلمون بحفاوة في بلدانهم؛ إذن، فتاريخ عائلتي يرجع إلى 500 سنة بتركيا، وهذا تاريخ طويل. لكن كنا دائما واعين بمن نحن. وأظن أنه من أتى من هذا السياق، وكبرت في محيط متعدد بأربع لغات، فلا شك سيكون في منحى فكري لنوع العلاقة بين الثقافة والحقيقة الاجتماعية، وأن يكون مهتما كثيرا بحقوق الشعوب.»
26
تهتم مؤخرا بالمشكلة القائمة بين فتح الحدود وحق تقرير المصير، التي في عمقها ترتبط بأزمة السيادة في إطار الدولة الأمة. وترى سيلا أنها تناضل في سبيل حق تقرير المصير إلى جانب الحق في فتح الحدود، فهناك «ترابط بين حق تقرير المصير، باعتباره وسيلة للحد من الفوارق الكبيرة والدائمة، والمساواة السوسيو اقتصادية».
27
مشددة على ضرورة تزايد سلط بنيات التدبير العالمي؛ لأنها وحدها قادرة على حل مشاكل المواطنة العالمية في الوقت الذي لا تزال فيه الرؤية الكلاسيكية لمفهوم السيادة الوطنية سائدة، ومعيارا لتدبير مشكلات العصر. وهكذا تميز بين المفهوم القانوني للكوسموبوليتية وبين مظهره الثقافي والأخلاقي. ف «الكوسموبوليتة الأخلاقية تعني أنها شكل عالمي يعتبر أي إنسان جدير بالاحترام والاهتمام، أنا متفق مع هذا. هناك نقاش آخر في الفكر المعاصر يرتكز على التساؤل عما إذا كانت الكوسموبوليتة الأخلاقية تعني أن يتمتع الأجانب البعيدون بامتيازات على حساب المجمعات الموجودة دائما. هذا النقاش بدأته مارتا نوسباوم حول الوطنية. لا أعتبر الانطلاق من شبكة تقييم على أساس أنها ضرورية في فهمي للكوسموبوليتية.»
28
وتشدد على أن مقاربتها لهذا المفهوم تستند على المرجعية الكانطية - وليس على النظرة الرواقية - ب «اعتباره إطارا قانونيا ومؤسساتيا وصيرورة سياسية».
29
فالكوسموبوليتية الثقافية، الرائجة حاليا، «تعتمد على تعدد الثقافات المختلفة داخل الدولة التي من المفروض أنها مزيج من الأعراق والقوميات» إلا أن المظهر الثقافي للكوسموبوليتية لا يكفي لفهم مشروع كوسموبوليتي أكثر مؤسساتية. بالنسبة لي، فالكوسموبوليتية بدأت عندما نظر لها كانط بمصطلحات مطالب عبر حدودية، والتي نحافظ عليها عن طريق مجتمع مدني عالمي للإنسانية جمعاء. رغم أن هذا الفهم الكانطي لا يكفي وحده، بحيث تصور النظام القانوني آنذاك بناء على ثلاثة مستويات :
القانون داخل الدولة.
القانون العالمي .
القانون الكوسموبوليتي.
لذلك فإن ما ينقصنا من وجهة نظرها هو «البنيات السياسية التي بإمكانها دعم هذه الكوسموبوليتية القانونية».
30
ورغم دفاعها عن هذه المقاربة القانونية-المؤسساتية فهي تدافع عن «مجموعات منظمة ذاتيا بإمكانها منح حقوق الانتماء القوية بما فيه جواز المرور»، وهو مبدأ كل ديمقراطي وكوسموبوليتي؛ لأن النقاش حول الهجرة «يجب ألا يختزل فقط في الحق في الولوج إلى الدولة، لكن يجب أيضا أن يرتكز على إمكانية أن المواطنة تكسبها بمجرد الدخول إليها.» (3) ثالثا: مواقفها (3-1) موقف سيلا بن حبيب من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
31
لا يزال الفكر النقدي يحافظ على بريقه في مختلف المواقف التي تثير اهتماما واسعا لدى الرأي العام العالمي؛ فحينما يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي فإن مواقف المثقفين والحركات المناهضة للصهيونية في الغرب، تكون مؤثرة أكثر من نظيراتها في العالم العربي. وهذا هو حال الموقف النقدي الجريء من هذا الصراع الذي اتخذته الفيلسوفة الأمريكية المعاصرة من أصول تركية سيلا بن حبيب باعتبارها أحد الوجوه النقدية المعاصرة والبارزة في الساحة السياسية الدولية بفضل مواقفها المبدئية والداعمة للشعوب المضطهدة والمقصاة بسبب الهوية أو اللغة أو الدين ...
ففي ظل الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في دجنبر 2008 أنجزت سيلا بن حبيب مقالا بارزا («أي حل لإسرائيل؟»)
32
حول الصراع بين إسرائيل وفلسطين، فككت فيه الرؤية السياسية للفاعلين في إسرائيل منتقدة حل الدولتين لتقترح، فيما يشبه حلما، حل الكونفدرالية القادرة على تدبير التعددية الدينية واللغوية والسياسية ...
وتشدد سيلا بن حبيب على أن إسرائيل قد «فقدت رؤيتها السياسية وقوتها العسكرية، ولا معنى سياسيا واضحا يوجه أفعالها/ممارساتها»، معتبرة أن القوة العسكرية تظل عمياء وتتدخل بكل وحشية «من أجل الوصول إلى أهدافها السياسية». فهل يمكن للمقاربة العسكرية والأمنية أن تكون وسيلة فعالة لضمان السلام؟
يحلل كانط في مشروع السلام الدائم - الذي تغترف منه سيلا بن حبيب - طبيعة العلاقات السياسية الدولية، داعيا إلى سلام دائم وممكن بين الأمم، وفي معرض نبذه للعنف وضرورة التحلي بثقافة السلم والتضامن، يرى كانط أنه لا سبيل إلى إقرار السلم ما لم يتم القضاء وبشكل نهائي على الجيوش الدائمة باعتبارها المسئولة عن الويلات التي تعيشها الأمم. ولعل تأملا بسيطا لفلسفة كانط السياسية، سيجد أن هذا الفيلسوف كان - على حد تعبير حنة آرنت - نموذجا صارخا لفيلسوف متنور حامل لهم الإنسانية ككل، فقد أعلن في بيانه الشهير: «مشروع للسلام الدائم»، دون شبهة أو لبس، إيمانه العميق بالسلام، ودفاعه المستميت عن مجتمع جديد خال من العنف والإبادة والقتل بأي مبرر كيفما كان، ففي المادة الثالثة من المواد التمهيدية للقسم الأول يقول: «يجب أن تلغى الجيوش الدائمة إلغاء تاما على مر الزمان»، ويعلق على ذلك قائلا: «لأن هذه الجيوش التي تبدو على الدوام متأهبة للقتال تهدد الدول الأخرى بالحرب تهديدا دائما، كما تحفزها إلى التسابق في زيادة قواتها المسلحة زيادة لا تقف عند حد ... أضف إلى هذا أن استئجار الناس لكي يقاتلوا أو يقتلوا معناه فيما يبدو أننا نستعملهم استعمال الآلات أو الأدوات في يد غيرهم (الدولة)، وهو أمر لا يتفق مع حقوق الإنسانية في أشخاصنا.» ويضيف في المادة السادسة: «لا يحق لأية دولة، في إبان الحرب، أن تستبيح لنفسها اقتراف أعمال عدائية كالاغتيال والتسميم، وخلق ظروف التسليم، والتحريض على الخيانة - من شأنها عند عودة السلم أن تجعل الثقة بين الدولتين أمرا مستحيلا.» لذا فينبغي «إقرار» حالة السلام.
وقبل أن تقدم سيلا بن حبيب الحل الذي تراه مناسبا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تؤكد أنه «لا أحد من المسئولين الإسرائيليين يمتلك رؤية سياسية»، وتميز في هذا الإطار بين الرؤية
vision
والاستراتيجية حيث تقول: «لا أقصد استراتيجية ذات أهداف طويلة المدى محددة بين ولايتين انتخابيتين ويمكن مراجعتها حسب الظروف، وإنما أقصد رؤية سياسية يستطيع مؤسسو الجمهوريات تملكها.»
33
وتتلخص الرؤية السياسية التي تقصدها هنا سيلا في الأسئلة التالية: كيف يمكن ضمان الاستمرارية والبقاء؟ ما هي المؤسسات المستدامة التي يمكن أن تضمن للأجيال اللاحقة الازدهار كأفراد وكمواطنين؟ (أ) ميلاد حركة حماس وأيادي تدبير الصراع في المنطقة
تستشهد سيلا بن حبيب بمقال إدوارد سعيد الذي نشره في مجلة نيويورك تايمز في خريف 1992، والذي أعلن فيه نهاية أيديولوجية منظمة فتح. بحيث فسح «الفراغ الذي أحدثه انهيار الأيديولوجيات البيروقراطية، والعسكرية، الحديثة والغربية، في مجمل العالم العربي، المجال للأيديولوجيات الإسلامية التي مثلها حزب الله وحركة حماس».
34
وهنا نرى عمق تحليل الفيلسوفة التي تتابع عن كثب الوضع في مجمل منطقة الشرق الأوسط، حيث ترى أن «الإسلاموية الجديدة تمثل رؤية أخلاقية خالصة، تأديبية، تمتح من ثورة آيات الله الخميني ضد الغرب التي لقيت صدى في الأراضي الفلسطينية بفضل خطابها الشرس والداعي إلى تدمير الدولة اليهودية».
35
لقد نجحت الثورة الإيرانية في بسط خطابها السياسي-الأيديولوجي في الأراضي الفلسطينية بفضل «البرامج الخيرية في إعادة التوزيع والتضامن الإسلامي»، هذا ناهيك عن المد العالمي لحركة الإخوان المسلمين التي لقيت بدورها دعما من طرف الطبقات المتوسطة والبرجوازية الصغيرة المتذمرة من التسلط والاستبداد السياسي الذي ساد المنطقة من جراء صعود بعض الأنظمة العسكرية إلى الحكم.
وتؤكد سيلا بن حبيب أن حركة حماس - كما هو الشأن بالنسبة لحركات أخرى في تركيا وفي الشرق الأوسط - قدمت «منظورا للمساواة و«إعادة التوزيع» والتضامن الإسلامي»، وهو المنظور الذي لقي إقبالا جماهيريا نتيجة سياسة التفقير والتجاهل التي مارستها الأنظمة السياسية، ورغم ذلك فهو منظور يعمق في نظرها «التسلط ومعاداة الليبرالية»، رغم أن معاداة الليبرالية تبقى موضع سؤال، بالنظر إلى أن بعض الدراسات المتخصصة في شئون الحركات الإسلامية بالمنطقة ترى أن هذه الحركات قد اندمجت كليا مع الرأسمالية ولا تتبنى أي برامج معادية للفكر الليبرالي، أو للرأسمالية كنظام اقتصادي، وفي هذا الصدد نستحضر على سبيل المثال تحليل جلبير الأشقر الذي يؤكد أن حركة الإخوان المسلمين مثلا في مصر تستند في خطابها وممارستها السياسية على خدمة مصالح قسط هام من البرجوازية المصرية حيث يقول: «وفي المنطقة العربية، فإن راية الأصولية الإسلامية هي التي رفعتها بوجه عام الحركة الممثلة للتطلع الرجعي إلى «جعل عجلة التاريخ ترجع القهقرى»، داعية للعودة إلى عصر ذهبي إسلامي حاكت حوله أسطورة. وهي تجد قاعدتها الاجتماعية بين الطبقات الوسطى التقليدية، وكذلك في صفوف مثقفي تلك الطبقات، سواء التقليديون منهم (رجال الدين بوجه خاص) أو العضويون (الطلاب، المعلمون، المراتب الدنيا والوسطى من المهن الحرة).»
36
ونفس الشيء ينطبق أيضا على شيعة إيران.
وتذهب كذلك إلى أن حركة حماس لقيت دعما في سنوات الثمانينيات من طرف إسرائيل حيث تقول: «في سنوات الثمانينيات دعمت إسرائيل حركة حماس كبديل لحركة فتح المكافحة والعلمانية، كما دعمت أمريكا أسامة بن لادن والمجاهدين ضد الفدائيين الأكثر علمانية واشتراكية في أفغانستان.» ورغم ذلك ففي الحالتين معا «خرج الشيطان من قمقمه»،
37
مما أدى إلى حصار إسرائيل بولاءات حماس المتغيرة لحزب الله في مجال العمل الاجتماعي الإسلامي.
وفي حقيقة الأمر فالعلاقات القائمة بين هذه الحركات تدعو إلى التساؤل، ولا نزعم أنها خالية من الصراعات الهامشية أو الرئيسية، إلا أنه من المؤكد أن الحركات الإسلاموية قادرة على التأقلم مع الأوضاع في تغيراتها وتحولاتها الجارية، وتستطيع الخروج من عنق الزجاجة. وتظل حنكة هذه الحركات في ممارسة السياسة موضع سؤال بالنسبة لقسط لا بأس به من اليسار، حيث ظهرت أطروحة تقول بإمكانية التحالف مع هذه الحركات من أجل تحقيق التغيير في هذه المنطقة. ورغم ذلك فإن سيلا بن حبيب لا تؤيد هذا الرأي من منطلق أن تلك الحركات لا يمكنها أن تكون البديل المنشود، ولا يمكنها أن تحقق الديمقراطية، بل هي حاملة لمشروع رجعي يتناقض والقيم الكونية الكبرى للإنسانية، بل هي عدوة الديمقراطية ما دامت تستغل الديمقراطية كشعار لنقضها، وبناء عليه سيبقى الالتزام ب «المساواة والتضامن وتقرير مصير الشعوب مبدأ نقديا، ولا يقبل التضحية عبر الانخراط الأعمى في هذه المجموعة أو أية مجموعة أخرى»،
38
و«لا شيء يعطي الأمل للتقدميين واليساريين في هذا التحالف». وكأنها هنا ترد على أنصار الوحدة مع القوى الظلامية والرجعية. (ب) أمن إسرائيل في عالم ما بعد ويستفاليا
اقتنعت الفيلسوفة سيلا بن حبيب أن دولة إسرائيل قد أخطأت الطريق بخصوص التسوية مع السلطة الوطنية الفلسطينية، فلا إسرائيل قادرة على تلبية مطالب المقاومة الفلسطينية لما يزيد على نصف قرن من الحرب المستنزفة لكلا الطرفين، ولا المعارضة الإسلاموية الجديدة قادرة على الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وضمان السلام بين الشعبين؛ فإسرائيل قريبة من «صراع من أجل أمن ويستفالي في عالم ما بعد ويستفاليا»، حيث أصبحت الحدود سهلة الاختراق، وتقدم مثالا على ذلك بالأنفاق بين قطاع غزة ومصر التي حفرت «لتمرير الأسلحة المهربة والمشتراة بأموال إيرانية»، مبينة أن «أموال البترول الهائلة وضعت في أيدي الدعاة المتجولين وأشباه الأولياء من طرف المشايخ وممالك الخليج الفاسدة التي تحمي سلالاتها الهشة ...» كما وقعت «أنظمة أسلحة منتهية الصلاحية قادمة من روسيا ومن الجمهورية السوفياتية القديمة من قبيل كازخستان، أذريبدجان ... في أيدي إخوانهم المسلمين». ولا تستثني من تحليلها تجار الصين «الكلبيين»
39
ورجال الأعمال الروس الفرحين جدا بفتح تجارتهم في المنطقة.
وترفض بن حبيب ما تسميه إسرائيل ب «الصدمة»: الصدمة من كون صواريخ حماس قادرة على ضرب تل أبيب! معتبرة ذلك «مجرد نفاق: وسواء كان هذا استراتيجيا أو معنويا، فهو لا يفسر أبدا، ولا يبرر الانتقام الواسع». فلماذا تدعي إسرائيل قدرتها على محو حركة حماس من الخريطة الفلسطينية في الوقت الذي تعرف إسرائيل جيدا «أن قوتها العسكرية المفترضة تم اختراقها منذ زمن بأجيال جديدة من الأسلحة؟»
40
وتعتبر بن حبيب أنه «لا يوجد أمن كامل ولا يقهر مطلقا في العالم الجديد، وعلى الأقل منذ 11 سبتمبر 2001، كما لم يكن هناك استقرار كامل في الميدان السياسي»، فحتى القنبلة النووية لا تضمن الأمن والاستقرار لإسرائيل. ليس لأن إيران يمكن أن تملك بدورها قنبلة نووية، وإنما لأن استخدامها ضد أهداف في لبنان أو سوريا وعلى قطاع غزة وعلى الضفة الغربية والأردن، بإطلاق سحابة من الأشعة على كل المنطقة يمكن أن يلوث المياه والغطاء النباتي، وهو ما يجعل إسرائيل بدورها غير صالحة للاستيطان. هكذا يتضح أن خوف إسرائيل أشبه ما يكون بفوبيا ملازمة لسياسييها ومواطنيها وجنودها. (ج) في نقد الرؤى السياسية الإسرائيلية
تسود في إسرائيل اليوم بحسب بن حبيب أربعة خطابات سياسية تساير الوضع ولا تقدم أي رؤية سياسية جديدة، تلخصها فيما يلي: (1) «منظور/رؤية الحرب الدائمة»: رغم أنه لا يدافع عنه أي سياسي يحترم نفسه، فالأمر يتعلق بنفسية داخل كل الإسرائيليين البسطاء؛ حيث يعتقد الغالبية العظمى أن الحرب نمط عيش، لأنه لا يمكن أن يتحقق السلام بين إسرائيل وفلسطين. (2) «منظور الدولتين»: (أو ما يعرف بحل إقامة الدولتين) الليبراليين والتقدميين من كل الأصناف يدافعون عن حل الدولتين (دولة إسرائيل ودولة فلسطين)، لأنهم يؤمنون بمبدأ المساواة في حق تقرير مصير الشعوب. ويقبل البعض هذا الحل لأنهم قلقون مما يمكن أن نسميه «الانفجار السكاني الذي بدأ بالفعل»، وتسارع معدل الولادة بفلسطين، ويخشون العيش كأقلية في دولة فلسطينية كبيرة، ديمقراطية كانت أم غير ديمقراطية. (3) «المنظور الديني لإسرائيل الكبرى»: هناك أيضا منظور إسرائيل الكبرى المبنية على المعتقد الديني، حيث يسود الاعتقاد أن الأراضي القديمة ليهودا هي في الواقع للشعب اليهودي بلا رجعة. (4) «المنظور العلماني لإسرائيل الكبرى»: وهو منظور يختلف عن المنظور الثالث ويؤكد على أن إسرائيل الكبرى يمكن أن تضم أراضي فلسطينية وتحكمها اتفاقات اقتصادية من الطرفين بموجب مناطق التبادل الحر والنمو الاقتصادي. على الأقل منذ مبادرة السلام التي أطلقها إسحاق رابين واتفاقات كامب ديفيد، ويمثل حل «الدولتين» السياسة الرسمية للحكومة الإسرائيلية والأمريكية، إلا أنه حل هو مجرد حل/نواة متناقض، يخفي في كثير من الأحيان دلالات في الوعي العام.
41
تكرس الخطابات أعلاه منظورا تقليديا لبناء الدولة داخل حدود وطنية ضيقة. وهو الأمر المتجاوز من وجهة نظر كوسموبوليتية؛ ففي عالم اليوم حيث التغيرات على أشدها لم يعد مقبولا حصر القضية الفلسطينية في مجرد التسوية المؤقتة لتدبير الصراع في اتجاه تكريس الهيمنة الصهيونية على الأراضي المحتلة، من خلال المقاربة الأمنية، كمعول وحيد وأوحد لشرعنة العنف والحرب على كل تحرك فلسطيني مشروع للدفاع عن عدالة قضيته. فإذا كان المنتظم الدولي يتجه نحو الضغط على اللوبي الصهيوني من أجل الاعتراف الكامل بالسيادة الفلسطينية، فإن بعض مواقف القوى الإمبريالية، تتجه عكس ذلك نحو تكريس نفس الوضع خدمة لمصالحها الاستراتيجية. وحتى مفهوم السيادة كما يتصوره الكيان الصهيوني لم يعد مقبولا، في نظر بن حبيب، ما دامت إسرائيل ترى أن فلسطين ستظل دوما مراقبة .
لا يتعلق الأمر وفقط بفشل الرؤى السياسية التي تحملها القوى السياسية الفاعلة في الدولة الصهيونية، وإنما بفشل المنتظم الدولي أيضا في حل قضية عمرت ما يزيد على نصف قرن. وهو فشل ذريع لا يزكيه إلا لغة المصالح الاستراتيجية. فكم من مرة تخرق إسرائيل الاتفاقات الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي! (د) رفض غزو غزة
تدافع سيلا بن حبيب عما يسمى حل الدولتين؛ لأنه يضمن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ولكنه في نفس الوقت يعد بوضع حد للنمو الديموغرافي المرتفع في فلسطين، وهو ما يؤدي إلى الاعتقاد بأن ارتفاع معدلات الولادة لدى الفلسطينيين يهدد الطبيعة اليهودية لدولة إسرائيل، وبناء عليه يتم الدفاع عن «استمرار إسرائيل في احتلال غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية»؛ لأنه «سيضمن التحكم العسكري في 5 ملايين من الفلسطينيين العرب، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون داخل حدود إسرائيل منذ 1967».
42
كما تعتبر أن «العملية العسكرية الحالية على غزة (تتحدث طبعا عن سنة 2008)، تحمل عناصر الخطابات السياسية الأربعة - الحرب الدائمة، حل الدولتين، إسرائيل دينية كبرى، إسرائيل علمانية كبرى - ولهذا السبب لم تكن متناسقة في أهدافها: هل تريد إسرائيل احتلال غزة من جديد وبناء مزارع بلاستيكية لتدميرها من جديد؟ هل تريد إسرائيل تدمير حماس ومؤسساتها المدنية والعسكرية بالمرة وتغادر غزة آملة حل الدولتين الذي لا يمكن احتمالا تحقيقه؟ هل تريد إسرائيل احتلال غزة وتعرض فيالقها العسكرية لمخاطر كبرى، وارتكاب جرائم حرب محتملة ضد الشعب الفلسطيني؟ شخصيا - تقول بن حبيب - لست واثقة من أي شيء.»
43 (ه) أي بديل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؟
هل هناك بدائل سياسية حقيقية في ظل الوضع الحالي غير الاستراتيجيات العسكرية التي تتخذ كرؤى سياسية؟
جوابا على هذا السؤال تدافع بن حبيب عن الحركة النشيطة في إسرائيل والتي تسعى إلى فصل المواطنة الإسرائيلية عن الهوية اليهودية الدينية-الإثنية»، معتبرة أن هذا الفصل هو من سيسمح بأن تصبح إسرائيل «أرضا لكل المواطنين. وهذا من شأنه أن يتنصل جزئيا أو كليا من قانون حق العودة، الذي يعطي الحق في المواطنة الإسرائيلية لكل يهودي تعترف به السلطة الحاخامية كيفما كانت». وتندد في الوقت نفسه بعدم إصلاح قانون المواطنة الإسرائيلي؛ لأن «العديد من العمال المهاجرين وأبنائهم فضلا عن الشركاء غير اليهود وزوجاتهم لا يستطيعون الحصول على الجنسية الإسرائيلية»، ومؤكدة أنه «صار، من سخرية القدر في العقد الأخير، من السهل بالنسبة للروس الذين يدعون أنهم يهود؛ الحصول على الجنسية، على عكس عربي-فلسطيني ولد ونشأ في القدس الشرقية، لأنه يعتبر (أو تعتبر) خطرا على الأمن، ولأن وضعية القدس الشرقية تعتبر لغزا وفق مصطلحات الاتفاقات الدولية».
لذلك فإن «أي نقاش سياسي جدي يتعلق بإسرائيل وفلسطين، ينبغي أن يتأسس على قاعدة أن القوة العسكرية ليست إلا ردعا، ردع مشكوك فيه يوما عن يوم على وجه اليقين، وأنه ليس الأسلحة هي من يصنع السلام وإنما البشر. فالسلام هو الصالح العام. وإسرائيل قريبة من النموذج الويستفالي للسيادة، المنقرض، الذي يفترض أن الدول قادرة على مراقبة كل حي أو ميت داخل حدودها».
وانطلاقا من وجهة النظر الكوسموبوليتية فإن «معظم الديمقراطيات المتقدمة تعرف أن النموذج الويستفالي متجاوز أخلاقيا وواقعيا». وهو ما يفيد في نظرها أن «السيادة هي مجرد حصة، مجموعة من امتيازات وصلاحيات موكولة للدولة، ويمكن تقاسمها وتفويضها والتعاقد عليها مع مجموعات أخرى وسلط أخرى».
وتقدم بن حبيب حالات صراع مماثلة وشبيهة
44
للحالة الفلسطينية حيث ترفض إسرائيل الاعتراف ب «سيادة كاملة» للفلسطينيين على مجالهم الجوي، سواء في غزة أو على الضفة الغربية، ولا على التنقل الحر للبضائع في الموانئ أو خارجها، ولا على احتياطات المياه الجوفية الممتدة على جانبي الحدود، فلماذا إذن ندعي أن دولة فلسطينية سيادية وستصبح سيادية بالمعنى الذي تحب اسرائيل أن تراها سيادية؟
وجوابا عن هذا السؤال، ترى بن حبيب أن الحقيقة البسيطة والمحزنة هي «أن دولة فلسطينية من هذا النوع ستظل على الدوام مراقبة ومتحكما فيها، وستضرب بين الفينة والأخرى من طرف إسرائيل. إنه واقع الحال تحديدا.» (و) الحل الكونفدرالي
تدافع بن حبيب، فيما يشبه الحلم، عن حل كونفدرالي يضمن لكلا الشعبين العيش معا وفق منظور مغاير للرؤية السائدة اليوم، لدى كلا الطرفين، يتأسس على وجهة نظر كوسموبوليتية، معتبرة أن هذا الحل هو وحده يضمن للأجيال القادمة أن تعيش في سلام وأمن وبدون عنصرية وعنف. حيث تقول: «لنحلم للحظة. لنفترض أن هناك بين إسرائيل وفلسطين كونفدرالية. لنفترض أن تحييد جماعات من مثل حماس وحزب الله التي لا تعترف بوجود إسرائيل، هو هدف مشترك للفلسطينيين وللدول العربية الأخرى، ولكن لو أن حماس اعترفت بحق وجود إسرائيل، فسيكون لها مقعد على «الطاولة»
45
لنفترض أن هناك رقابة مشتركة على الأجواء، وعلى الطرقات البحرية والمياه والتي تمارسها سلطات إسرائيل وفلسطين، لنفترض أن هناك عملة مشتركة، وحقوق الاستقرار القانونية لكل مجموعة إثنية داخل مناطق من الأراضي المشتركة.
فإسرائيل لن تلجأ إلى حرب مدنية ضد المستوطنين المتعصبين في الخليل وفي الضفة الغربية؛ الذين سيجبرون على العيش تحت سلطة فلسطينية بلدية جهوية أو الدخول إلى إسرائيل.»
46
إلا أن الحل الكونفدرالي الذي تقترحه بن حبيب لا يعني «اختفاء السلطة الوطنية المشتركة وهوية كل شعب. وفي بعض نسخ الحدود قبل سنة 1967 (الخط الأخضر)، ظلت إسرائيل دولة يهودية، ولغتها الخاصة، وعطلها، وانتخاباتها، ولكنها تقتسم السلطة مع الدولة الفلسطينية في مجالات: الجيش والأمن والاستخبارات، والمال، والتبادلات. وبالمثل للفلسطينيين لغتهم الخاصة، وعطلهم وانتخاباتهم، إلا أن الشعبين معا طورا مناهج مدرسية مشتركة وتحديدا حول تدريس التاريخ الذي ينصف الحقائق التاريخية ومعاناة الشعبين».
47
وبموجب هذا الحل: «سيتعلم أطفال الجيل الجديد التفاهم والتعاطف بدل الكراهية والحقد بعضهم على بعض، كما سيكون هناك تكافؤ في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في هذه الكونفدرالية، في حالة ما إذا لم يرغب البعض في الاستقرار في بعض المناطق الإسرائيلية الغنية؛ التعددية الدينية والحقوق المدنية الليبرالية ستحترم من طرف الجميع: اليهود، المسلمين، المسيحيين، وكل مواطني المعتقدات الأخرى. وبالنسبة للمتدينين الذين يريدون إدارة شئونهم الدينية الخاصة ستمنح لهم السلطات الدينية رخصا بذلك، كما أن هناك محاكم خاصة، ولكن أيضا هناك إعلان للحقوق لكل القاطنين يضمن لهم المساواة في الحقوق المدنية والسياسية.»
48
وتنظر إلى الحل الكونفدرالي ك «نواة ومركز اتحاد في الشرق الأوسط وشعوبه، حيث تركيا ومصر والعربية السعودية والعديد من الدول الأخرى يمكنها الانضمام إليه على غرار نموذج الاتحاد الأوروبي»
49
ورغم ما يمكن قوله عن هذا الحل، فإن أسسه الواقعية والسياسية ظاهرة للعيان: فهل يمكن فعلا أن يجد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي طريقه إلى الحل ذات يوم؟ (3-2) موقف سيلا بن حبيب من الربيع العربي
ما هو موقف سيلا بن حبيب من الربيع العربي؟ كيف نظرت إلى انتفاضات الربيع العربي؟ هل كانت تعتقد أن تمرد الشباب في مصر وتونس والبحرين وليبيا يمثل موجة جديدة من النضالات؟ ما موقفها من الإخوان المسلمين؟ وهل كانت متخوفة من صعود الأصولية الإسلامية إلى هرم السلطة؟ ما هي قراءتها للحركات الإسلامية التي تجتاح العالم العربي والإسلامي على حد سواء؟ هل كانت تقف إلى جانب تخوفات الغرب من الحركات الجماهيرية المتفجرة؟
خصصت سيلا بن حبيب لثورات الربيع العربي مقالا تحليليا
50
لانتفاضات مصر وتونس وللموجة التي اجتاحت البلدان العربية بمجرد الانتصارات الأولى للثوار الشباب، وتحديدا يوم 24 فبراير 2011، وترجم بعد أسبوعين إلى الفرنسية،
51
وهو مقال جدير بالاهتمام لأنه:
أولا:
مقال ينصف الشباب المتمرد بهذه البلدان.
وثانيا:
مقال يعيد النظر في الموقف الغربي، وتحديدا النخب المسخرة والمعلقين المتخصصين في شئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذين يكرسون العداء لهذه الشعوب بدعوى أن موجة التمرد تلك تحمل نسيم الحركات الإسلاموية بكل أطيافها؛ وذلك لتوجيه الرأي العام الغربي نحو اتخاذ المسافات من هذه التمردات.
وثالثا:
مقال ثاقب النظر يضع الأصبع على الجراح، ويحاول أن يؤطر الربيع العربي في سياقه التاريخي والسياسي. (أ) الربيع العربي: الدين والثورة والفضاء العمومي
تفتتح بن حبيب مقالها بعبارة دالة للكاتب والمعتقل التونسي السابق فتحي بن الحاج يحيى، والتي يقول فيها: «الحرية عظيمة، مغامرة كبيرة، ولكنها لا تخلو من مخاطر ... فالمخاطر مفتوحة على اللامتوقع.»
52
معتبرة أن الشباب الثائر في العالم العربي «يناضل، من أجل الحريات الديمقراطية، ومن أجل فضاء عمومي مفتوح، ومن أجل الانخراط في العالم المعاصر بعد عقود من العزلة والكذب والخداع. ومع ذلك، وفي الحالتين ، بزغت الآمال في الانتقال؛ فالأنظمة السياسية والاقتصادية صارت هشة، وقابلة للتغيير!»
53
تعي بن حبيب أن الأنظمة العربية تسير نحو الزوال، وهو الأمر الذي تحقق في تونس ومصر معا في وقت قياسي غير منظور، حيث المقاومة الجماهيرية شرسة. كما تعي أن الميدان العمومي وحده قادر على تحقيق المطالب المشروعة والسير نحو التحرر من الأنظمة المستبدة التي عمرت كراسي السلطة السياسية، فصدى التحركات العربية تجاوز الحدود القومية والوطنية، ووجد استجابة كبيرة في قلب قلاع الرأسمالية العالمية - الولايات المتحدة الأمريكية - حيث ولدت حركة احتلوا وول ستريت؛ لذلك تقول: «أسرت الحشود الشجاعة في العالم العربي، من تونس إلى ميدان التحرير، في اليمن والبحرين وحاليا ببنغازي وطرابلس؛ قلوبنا وفكرنا (...) ورغم ذلك فبذور جديدة من المقاومة تنامت في هذه التربة المجمدة، وحتى في بعض الولايات الأمريكية؛ ففي ماديسون في ولاية ويسكونسن يناضل الأجراء كي لا يفقدوا حقوقهم الجماعية في التفاوض، ودخلت مقاومتهم في الأسبوع الثاني، كما تجري نفس الجهود في إنديانا وأوهيو، وولايات أخرى. يحمل متظاهر مصري لافتة كتب عليها: «مصر تدعم عمال ويسكونسن: عالم واحد، نفس المعاناة» وأحد مواطني ولاية ويسكونسن يجيب: «إننا نحبكم. شكرا على دعمكم وهنيئا لكم على نصركم!»»
يناضل المتظاهرون ب «ويسكونسن
Wisconsin » والثوار التونسيون والمصريون بطبيعة الحال لأهداف مختلفة: في المقام الأول ضد إذلال المواطنين وتحويلهم إلى أفراد خصوصيين منصاعين ويائسين من ويلات الرأسمالية المالية الأمريكية والعالمية خلال العقدين الأخيرين. وتستلهم بن حبيب في هذا السياق روح هيجل في فينمومينولوجيا الروح لوصف المرحلة القادمة بعد الفوران الشعبي حيث تقول: «نعلم أن ربيع الثورات، ستعقبه غضبات الصيف وانهيار ثلوج الشتاء. فعلى الأقل منذ تحليل هيجل لتمرد الجماهير الفرنسية في كتابه فينومينولوجيا الروح سنة 1807، بات شائعا الاعتقاد بأن الثورة ستلتهم أبناءها. بحيث أعلنت هيلاري كلينتون تحذيرات منذ الأيام الأولى من الانتفاضة المصرية، كما عبر بعض المحللين عن غياب ثقتهم في قدرة الشعوب العربية على ممارسة الديمقراطية، مبتهجين حاليا عند رؤيتهم للعلامات الأولى للصراع بين المجموعات الدينية والعلمانية في مصر وتونس». هكذا ترى بن حبيب أن المحللين الغربيين لم يكونوا يتوقعون هذا الزحف الجماهيري نحو الميادين العمومية؛ فمعظم الخيارات السياسية التي كان ينتظرها الغرب ليس في العالم العربي فقط وإنما في العالم الإسلامي ككل هي ثلاثة: (1)
الأنظمة الاستبدادية الفاسدة التي ترسيها الانقلابات العسكرية، كما هو الحال في مصر وليبيا، أو السلالات الملكية التي تشتري ولاءها بثروتها، كما هو الحال في العربية السعودية والأردن. (2) «الأصولية الإسلامية» التي تخفي عمدا الخلافات التاريخية والسياسية بين المجموعات المختلفة، في ظل الأنظمة أو فيما بينها. (3) «إرهاب» القاعدة، والذي يوضع في نفس سلة «الأصولية الإسلامية/السلفية الرجعية».
كانت الغاية من تسييد فوبيا الإرهاب بعد 11 سبتمبر 2001، هو ذر الرماد في العيون، من خلال النظر إلى شعوب هذه المناطق كشعوب همجية لا تعرف غير العنف كوسيلة للتعبير. في حين أن الإرهاب الذي تمارسه الإمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية يتجاوز كل التوقعات: ألم تكن سياسات التقشف المفروضة على تلك البلدان منذ بداية الثمانينيات إلى اليوم هي السبب في التفقير والتهميش الذي صار عنوانا عريضا مكتوبا على جباههم في عبارة «لا إله إلا الله»؟
ترى بن حبيب أن أصول القاعدة - زعيمة الإرهاب - «تعود بطبيعة الحال تاريخيا إلى العربية السعودية، حيث ولد أسامة بن لادن، وعدد كبير من مفكري الإخوان المسلمين الموالين للقاعدة بمصر كسيد قطب مثلا، فمن المعروف أن الزعيم الثاني للقاعدة هو الطبيب المصري أيمن الظواهري». لقد كانت القاعدة الوصفة السحرية لأمريكا لمواجهة الشيوعية؛ فهي التي احتضنتها ومولتها قبل أن ينقلب السحر على الساحر. وتذهب بعيدا في تحليلها لتؤكد أن «لا أحد من المعلقين والمتتبعين، ترقب بروز حركة المقاومة الشعبية الديمقراطية، والحديث في عمقها بالمعنى السياسي، والتي أحيانا «تقية/ورعة»، ولكنها ليست متعصبة، وهو تمييز هام يتم تجاهله باستمرار. فكما تلقى أتباع مارتين لوثر تربيتهم في كنائس السود بأمريكا الجنوبية وأطلقوا قوتهم الروحية في هذه المجتمعات، فإن حشود تونس ومصر وخارجهما، تربوا على التقاليد الإسلامية من قبيل الشهادة؛ فأن تصير شهيدا فهذا قدر إلهي!» وهو ما يعني في نظرها أنه «ليس هناك من تناقض ضروري بين الإيمان الديني لعدد كبير من المتظاهرين في الحركات الثائرة في تونس ومصر وبين تطلعاتها الحديثة»، فبأي معنى يمكن اعتبار هذه الحركات حديثة؟ هل فعلا يمكن وصف حركات التمرد بالعالم العربي على أنها حركات حديثة؟ هل تحمل برنامجا للتحديث؟ قد يثير موقف بن حبيب هذا نقاشا واسعا في صفوف الثوار العلمانيين الذين يذهبون إلى أن حركات الإسلام السياسي قد اغتالت روح ونفس الربيع العربي، ولكن قبل الحكم على موقفها هذا لنر الحجج التي تدعم بها رأيها.
تقول بن حبيب إجابة عن هذا السؤال: «إنها كذلك أولا وقبل كل شيء؛ لأنها تسعى وراء إصلاح دستوري، وضمان حقوق الإنسان، ضمان المزيد من الشفافية والمسئولية تجاه المسئولين السياسيين، وضع حد ل «رأسمالية المحاسيب
capitalisme de connivence »
54
للنخب الفاسدة - كعائلة القذافي القاتلة في ليبيا - التي نهبت بلدانها بتواطؤ مع شركات البترول الأجنبية، وخوصصت مواردها الثمينة كما هو الحال في مصر» هكذا إذن؛ فمن مبررات بن حبيب لوصف هذه الحركات بأنها حديثة نجد ما يلي:
أنها حركات تسعى وراء إصلاح دستوري.
وتسعى إلى ضمان حقوق الإنسان.
وإلى ضمان المزيد من الشفافية والمسئولية تجاه المسئولين السياسيين.
وإلى وضع حد «لرأسمالية المحاسيب».
ومن وجهة نظر تاريخية، فإن وضع حد لرأسمالية «المحسوبية» أو «الريعية» يمكن أن يعتبر ثورة حديثة، ولكن واقع الأمر أن الطبيعة الطبقية لأهم الحركات الفاعلة في هذه الثورات سواء في مصر أو تونس أو ليبيا، ويتعلق الأمر بحركة النهضة وحركة الإخوان المسلمين والحركة السلفية، يصعب الحسم ما إذا كانت هذه الحركات تسعى إلى وضع حد للرأسمالية السائدة في هذه البلدان؛ لأنها بدورها جزء من التحالف الطبقي المسيطر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذه الحركات لا تؤمن بحقوق الإنسان ولا يمكنها أن تخدم القيم الكونية الكبرى التي كرستها الحداثة الغربية، ناهيك عن إخضاع المسئولين السياسيين للمحاسبة: فهل خضع رأسماليو الإخوان للمحاسبة يوما: الشاطر وأذنابه؟
تعرج بن حبيب على الدور الرئيسي الذي لعبته وسائل الإعلام الجديدة العابرة للحدود، والتي تمنح للأفراد هامشا من الحرية وسرعة في التواصل والتنسيق والتعبئة: الفايسبوك والتويتر. وهي لا تشك في أنها وسائل توجيهية من القوى الغربية، وإنما وسائل لعب شباب ثائر بدوره دورا هاما في الحراك باعتباره مساهما من جهته في تلك التمردات، وتقدم نموذجا بوائل غنيم الذي يجسد «حالة خاصة في هذا الانفتاح العالمي حينما صرح: «سوف أصافح مارك زوكربورج حينما ألتقي به!» وكان يعلم دون مواربة أن مارك زوكربورج يهودي! وماذا بعد؟»
هل تمثل إيران نموذجا لمصر وتونس بالمقارنة مع النموذج التركي والماليزي؟
تصرح بن حبيب أن: «لا أحد على ما يبدو قادر على تقليد النموذج الإيراني، ونظرا للاختلافات بين دور اللاهوتي-السياسي للدين الشيعي وبين الدور اللاهوتي-السياسي للدين السني، فليس يمكن أن تتبع مصر أو تونس النموذج الإيراني. ولكن يمكن أن تشكل ماليزيا (مجتمع مسلم استبدادي ومنغلق، حيث تجد المرأة والفضاء العمومي متحكما فيه) وتركيا (مجتمع متعدد ويتبنى ديمقراطية حية من طرف أحزاب سياسية متعددة، وغالبية مسلمة وتاريخها الخاص من استبداد الدولة) نموذجا لهذه البلدان»؛ ف «الروابط التاريخية بين تركيا وبلدان من قبيل تونس ومصر (وليبيا أيضا) تعود إلى الحقبة العثمانية؛ حيث نجد أسماء النخب والمدن التركية حاضرة بعمق وعلى نطاق واسع. ولقد أشاد الشباب المصري كثيرا بالنموذج التركي».
تختم بن حبيب مقالها الثاقب النظر باستلهامها لروح هيجل من جديد معلنة أنها ستحذو حذوه، وسترفع كأس شرف الشباب الثائر كل يوم 11 فبراير، كما فعل هيجل حينما قرر أن يرفع كأسه للاحتفال بثوار فرنسا كل 14 يوليوز يوم اقتحام سجن الباستيل. (3-3) موقف بن حبيب من تركيا وأوروبا
تتميز تحليلات الفيلسوفة سيلا بن حبيب بمواقفها النقدية الجريئة من القضايا المعاصرة التي تهم ملايين الشعوب، وباعتبارها من أصول تركية فلم تتوان عن تحليل الوضع العام بتركيا محاولة تقديم عناصر حلول لمجمل المشاكل التي تهم الشعب التركي. فرغم عيشها في أمريكا كواحدة من أبرز فلاسفة العصر فإن تركيا بلدها الأصل تظل في قلبها حاضرة دوما. هكذا قدمت رأيها كاشتراكية ديمقراطية تؤمن بإمكانية التغيير والإصلاح في بلدها عكس ما تروج له بعض الأقلام النسوية المسخرة في خدمة السياسة الخارجية الأمريكية. ولا ينبغي أن يفاجئنا موقفها من حزب العدالة والتنمية الحاكم اليوم في تركيا، حيث أكدت أن تجربة هذا الحزب جديدة ويمكنه أن يقدم نموذجا جديدا مستفيدا من التركيبة التعددية للمجتمع التركي. ورغم ذلك تتوجس بالحذر الكبير تجاه هذا الحزب، الذي ينبغي في نظرها مراقبته عن قرب وتقدير المسافات بعدا عنه، فهي لا تؤمن أن الحزب الحاكم قادر على إرساء نظام أوثوقراطي في تركيا؛ لأن ذلك غير ممكن، ولكنها لا تستبعد أن قاعدة هذا الحزب تؤمن بإمكانية قيام الدولة الدينية، وتحاج على ذلك بكون الاشتراكيين الديمقراطيين لا يمكنهم بحكم تاريخهم مع القمع والاضطهاد الذي مارسه الجيش في حقهم، لا يمكنهم أن يقبلوا عودة الجيش والمؤسسة العسكرية إلى معترك السياسة. (أ) تركيا والإسلام وساركوزي وأوروبا
55
في حوارها مع دانييل كاستيلاني بيريللي
Daniele Castellani Perelli
ترى سيلا بن حبيب، أن حضور الإسلام في الفضاء العام لا يتعلق بالضرورة بزيادة التدين في صفوف الساكنة - ولو تغير مستوى الرؤية - وأن ما نشاهده هو ظاهرة عالمية حولت الإسلام، ف «الإسلام الذي واجهه أتاتورك هو إسلام الخلافة»، أما السلطان في إمارة عثمان، فكان خليفة لجماعة مسلمة سنية (فيما يشبه البابا عند الكاثوليكيين). ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية، فقد السلاطين هذه الوظيفة وهذه الصفة، والتي تحولت في مصر مع «شيخ الإسلام»، الزعيم الديني الرئيسي للمسلمين السنيين. ويمثل هذا النوع من الإسلام خليطا من المذاهب الدينية والتسيير السياسي.
تقرب أتاتورك من المؤسسات التعليمية غير العلمانية؛ بحيث كانت كل تلك المؤسسات - أو على الأقل معظمها - في ظل النظام الإمبراطوري في قبضة التنظيمات الدينية، كما كانت هناك «خلايا» تنظيمات سرية داخل أجهزة الدولة. ويجب التمييز بين هذا النوع من دين الدولة وبين الدين التقليدي لعامة الناس؛ فالفلاحون على سبيل المثال لهم أشكالهم الخاصة في التدين، وما كان يواجه أتاتورك هو هذا الزواج بين الدين والإمبراطورية. أما ما يحدث اليوم فهو عودة/يقظة الإسلام عالميا والتي ساهمت فيها آثار العولمة وأزمة الدولة-الأمة.
يعاب على تركيا كما هو الحال في معظم الدول الإسلامية ، غياب العديد من القضايا الهامة في النقاش العمومي؛ فالجنين لا يعتبر شخصا من وجهة نظر الإسلام كما هو الشأن بالنسبة لليهودية، وهذا ما يدفع بالدول الإسلامية إلى تغييب النقاش العمومي حول الإجهاض؛ لأن صحة الأم توضع في المقام الأول. في حين أن مسالة صورة المرأة في الفضاء العمومي، تثير النقاش أكثر وعلى الأخص «حجاب المرأة»، بل وتستغل هذه الصورة في الفعل السياسي (ظهور زوجة رجب أردوغان مرتدية الحجاب بعد توليه رئاسة تركيا). (ب) الفعل السياسي في تركيا
تحلل بن حبيب بنية الفعل السياسي التركي لما يقارب نصف قرن، معتبرة أن حزب الشعب الجمهوري (CHP)
هو الحزب القديم لكمال أتاتورك ويمثل مصالح الجيش، والموظفين العموميين، وموظفي القضاء والمدرسين، أي مجموع القوى العلمانية التي بنت الجمهورية التركية. ويمثل أسلوبهم السياسي نوعا من اليعقوبية؛ ليس لأنهم ثوريون، وإنما لأنهم يؤمنون أن الدولة هي كل شيء، أن الجمهورية هي كل شيء، وأن الفرد لا يعني شيئا. ويشعرون اليوم أنهم مهددون جدا، وبأنهم سيصيرون مهمشين. في أواخر الخمسينيات، بدأت الهوة الأولى بين ممثلي حزب الشعب الجمهوري بظهور فئات متوسطة صناعية ومالية انتهت بولادة الحزب الديمقراطي؛ لذلك تنافست هذه النخبة البيروقراطية العسكرية والمدنية مع البرجوازية الأصلية - طبقة رأسمالية - والتي ولجت بعض السلط خلال الازدهار الاقتصادي بعد الحرب، دون الاعتماد على الدولة.
أما حزب العدالة والتنمية (AKP)
فتشكل بظهور طبقة متوسطة جديدة أصلية من أصول شعبية في الأناضول، متمثلة في مالكي محلات السيارات، ومديري الأسواق الممتازة، ومالكي الفنادق ومستثمرين في السياحة ... إنها طبقة برجوازية صغيرة شكلت قاعدة هذا الحزب (ح ع ت
AKP ). لا يتعلق الأمر ببرجوازية صناعية أو مالية، وإنما بفئة تجارية (ميركانتيلية) تحمل قيم طبقة متوسطة معادية لليسار، ومناهضة جدا للشيوعية، أشخاص يؤمنون بالملكية الخاصة.
كانت هذه البرجوازية الجديدة الأناضولية إلى حدود الأمس القريب مبعدة تماما من السياسة التركية، وتميل إلى تفويض تمثيليتها للنخب، أي إلى البرجوازية الكبيرة الصناعية بإسطنبول أو إلى الجيش، إلا أنها اليوم صارت تمتلك صوتا سياسيا؛ فمع التطور العام لتركيا رفضت أن تكون مجرد ديكور خلفي وشرعت في الاندماج الاقتصادي. إنها أساس وقاعدة حزب العدالة والتنمية.
وفي ردها على أيان هيرسي علي
Ayaan Hirsi Ali
56
التي تتحدث عن إمكانية صعود نظام أوثوقراطي (دولة دينية) أو فاشي في تركيا، تؤكد بن حبيب أنه «لا يوجد أي خطر في تركيا لصعود الأوثوقراطية الإسلامية. وأستطيع أن أؤكد لكم أنه ستكون هناك حرب أهلية قبل صعود الأوثوقراطية. وفي جميع الحالات، لا أظن أن حزب العدالة والتنمية يأمل في إرساء الدولة الدينية. وهم الآن في الطريق نحو تعزيز تجربة جديدة غير مسبوقة، ومما لا شك فيه أنه لم يترقب أي اشتراكي ديمقراطي مثلي - بحذر كبير - دعم ومراقبة تجربة حزب مثل حزب العدالة والتنمية.» ورغم ثقتها في هذا الحزب الذي تأمل أن يدشن تجربة سياسية جديدة فإنها تدعو إلى «مراقبته بحذر كبير».
وتعتبر بن حبيب أن خطاب أيان علي هو خطاب صدامي «يستند على النظر إلى الإسلام باعتباره في مجموعه خطابا أرثوذوكسيا متجانسا يرفض إمكانية إنجاز أي إصلاح أو تغيير؛ خطابا يروج من الخارج لرؤية ديمقراطية ليبرالية مثالية لا تقبل النقد».
57 (ج) ساركوزي وانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي
أعلن ساركوزي في وقت سابق أن تركيا غير مؤهلة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو الإعلان الذي أثار اهتمام الفيلسوفة رافضة إياه بكون العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي ليست جديدة، بل تعود إلى 1957-1958 خلال التوقيع على اتفاقيات أنقرة. ومعتبرة أن ساركوزي يحاول تقديم حجج ثقافية لا تبرر قط الموقف السياسي، وتطالبه باحترام معايير كوبنهاغن. أما مسألة الإسلام فإن تركيا لا تعني فرنسا قط؛ لذلك يعتبر خطابه رسالة موجهة لبلدان المغرب الكبير وليست إلى تركيا؛ لأن عدد العمال المهاجرين الترك إلى فرنسا لا يتجاوز 800 ألف (وهم أكثر عددا في كل من ألمانيا وهولندا). ورغم ذلك ترى بن حبيب أن تركيا ليست مثالية البتة بل إن لها مشاكلها الخاصة التي يجب أن تعالجها من قبيل الاغتيال (مثل اغتيال الصحفي الأرميني هرانت دينك
Hrant Dink
واضطهاد الروائي أورهان باموك
Orhan Pamuk ) وعيوب القانون الجنائي وخاصة المادة 301 التي تعتبر أن إهانة تركيا، أو الهوية الوطنية التركية جريمة؛ فهذه المادة يجب أن تختفي في نظرها.
لذلك فإن المشروع الأوروبي «من وجهة نظر طوباوية - وجهة نظر تروق لي كمفكرة سياسية وأحيانا كفيلسوفة سياسية - يمكن أن ينظر إليه كنموذج فيدرالي كوسموبوليتي/كوني، كبنية حكم فيدرالية ناشئة. ومن وجهة النظر هاته، يمكن النظر إلى الاتحاد الأوروبي كنواة يمكن أن تتبعه دول أخرى أو تقلده. يتعلق الأمر بما في الكلمة من معنى، بمشروع طوباوي، ذي طموح مثالي ... وسيكون موضوع تفكيرنا. ولكن على المستوى المؤسساتي والإداري، فإن لامتداد الاتحاد الأوروبي حدودا مرتبطة بسلسلة من المعايير. وأنا مقتنعة من وجهة نظر تاريخية واقتصادية وبنيوية أن تركيا استجابت لهذه المعايير الأوروبية منذ زمن طويل وبشكل جوهري أكثر من المغرب على سبيل المثال».
58
المراجع والمصادر
(1)
Quelle solution pour Israël?
vendredi 10 avril 2009,
Seyla Benhabib
Traduit de l’anglais par Joseph MONTCHAMP-Lyon, voir le lien suivante:
http://www.pressefederaliste.eu/Quelle-solution-pour-Israel . (2)
Romain Felli: “Démo-a-cratie participative, territoire et autonomie”, in:
entpe.francelink.net/sites/default/files/Documents/.../Felli_Romain.doc . (3)
The Rights of Others. Aliens, Residents and Citizens (Cambridge University Press, 2004) . (4)
Another Cosmopolitanism (
Oxford University Press 2006 ) . (5)
Critique, Norm and Utopia. A Study of the Normative Foundations of Critical Theory (1986) . (6)
The Claims of Culture: Equality and Diversity in the Global Era . (7)
Nancy Fraser: qu’est-ce que la justice sociale? traduction: Estelle Ferrarese, la découverte, Paris, 2011 . (8)
N. Fraser: le féminisme on mouvements: des années 1960 à l’ère néolibérale, traduction: Estelle Ferrarese, la découverte, Paris, 2012. (le cas de Habermas et du genre) . (1)
موقع سيلا بن حبيب بجامعة يال، انظر الرابط:
http://philosophy.yale.edu/benhabib . (2)
سيلا بن حبيب: «من كانط إلى هابرماس هل يمكن الجمع بين الكوسموبوليتية والديمقراطية ...» ترجمة: رشيد بوطيب، حقوق النشر: معهد جوته فكر وفن، يونيو (حزيران) 2012. (3) «في التعددية والديمقراطية الكونية»، حوار أجراه مريانو كروز مع سيلا بن حبيب، ترجمة نبيل محمد صغير، منشور ضمن الكتاب الجماعي الصادر عن الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة: «مدرسة فرانكفورت النقدية: جدل التحرر والتواصل والاعتراف»، ابن الندين ودار الروافد، الطبعة الأولى. (4)
جلبير الأشقر: «الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية»، ترجمة، عمر الشافعي، دار الساقي، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية 2014. (5)
حوار مشترك مع الفيلسوف أرشيبيكي والفيلسوفة سيلا بن حبيب، ترجمة نور الدين علوش، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرباط. انظر موقع المؤسسة:
http://www.mominoun.com . (6)
الحوار بين سيلا بن حبيب وكارين واهل جورجنسون
Karin Wahl-Jorgensen
حول الفضاء العمومي، التداول، الصحافة والكرامة، بتاريخ 4 غشت 2008. المصدر:
http://www.resetdoc.org/story/00000000965 . (7)
سيلا بن حبيب: «الربيع العربي: الدين، الثورة والفضاء العمومي»، تم نشر النسخة الأصلية من هذا النص باللغة الإنجليزية في 24 فبراير 2011 على الموقع:
Transformations of the Public Sphere.
http://publicsphere.ssrc.org/ .
رابط المقال النسخة الانجليزية:
http://publicsphere.ssrc.org/benhabib-the-arab-spring-religion- revolution-and-the-public-square/ . الترجمة الفرنسية بقلم: شارل جيرار
Charles Girard . (8)
حوار سيلا بن حبيب على موقع مجلة الحركات بتاريخ 7 سبتمبر 2007.
http://www.mouvements.info/ .
رابط المقال:
http://www.mouvements.info/La-Turquie-l-islam-Sarkozy-et-l.html .
الباحثة سيلا بن حبيب وتأملات في الربيع العربي
(1) تقديم للترجمة: موقف سيلا بن حبيب من الربيع العربي
ما هو موقف سيلا بن حبيب من الربيع العربي؟ كيف نظرت إلى انتفاضات الربيع العربي؟ هل كانت تعتقد أن تمرد الشباب في مصر وتونس والبحرين وليبيا يمثل موجة جديدة من النضالات؟ ما موقفها من الإخوان المسلمين؟ وهل كانت متخوفة من صعود الأصولية الإسلامية إلى هرم السلطة؟ ما هي قراءتها للحركات الإسلامية التي تجتاح العالم العربي والإسلامي على حد سواء؟ هل كانت تقف إلى جانب تخوفات الغرب من الحركات الجماهيرية المتفجرة؟
خصصت سيلا بن حبيب لثورات الربيع العربي مقالا تحليليا لانتفاضات مصر وتونس وللموجة التي اجتاحت البلدان العربية بمجرد الانتصارات الأولى للثوار الشباب، وتحديدا يوم 24 فبراير 2011، وترجمها بعد أسبوعين شارل جيرار إلى الفرنسية، وهو مقال جدير بالاهتمام؛ فهو أولا: مقال ينصف الشباب المتمرد بهذه البلدان، وثانيا: هو مقال يعيد النظر في الموقف الغربي وتحديدا موقف النخب والمعلقين والمتخصصين في شئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أي أولئك الذين يكرسون العداء لهذه الشعوب بدعوى أن موجة التمرد تلك تحمل نسيم الحركات الإسلاموية بكل أطيافها، في سبيل توجيه الرأي العام الغربي نحو اتخاذ مسافة من هذه التمردات، وثالثا: فالمقال ثاقب النظر، يضع الأصبع على الجراح، ويحاول أن يضع الربيع العربي في سياقه التاريخي والسياسي.
وجوابا عن التساؤلات المطروحة في هذه المقدمة، نقدم هنا ترجمة للنص الإنكليزي إلى اللغة العربية. (2) النص المترجم - الربيع العربي: الدين والثورة والفضاء العمومي
1 (الحرية عظيمة، مغامرة كبيرة، ولكنها لا تخلو من مخاطر ... فالمخاطر مفتوحة على اللامتوقع).
فتحي بن الحاج يحيى، كاتب تونسي ومعتقل سياسي سابق، نيويورك تايمز، 21 فبراير (شباط) 2011.
لقد أسرت الحشود الشجاعة في العالم العربي من تونس إلى ميدان التحرير، في اليمن والبحرين، وحاليا ببنغازي وطرابلس؛ قلوبنا وفكرنا. لم ينته بعد شتاء الاستياء والسخط في أمريكا وأوروبا، ولم يقتنص الربيع العربي الرياح الباردة التي أتت بها هجمات السياسيين المحافظين في الولايات المتحدة ضد الفقراء، كما يقتنص استمرار صعود المحافظين من القوميين الجدد في ألمانيا وفي فرنسا، حيث تفرض هذه الدول سياسات تقشف على كل أجراء الاتحاد الأوروبي.
ورغم ذلك فبذور جديدة من المقاومة تنامت في هذه التربة المجمدة، وحتى في بعض الولايات الأمريكية؛ ففي ماديسون في ولاية ويسكنسون يناضل الأجراء كي لا يفقدوا حقوقهم الجماعية في التفاوض، وقد دخلت مقاومتهم في الأسبوع الثاني، كما تجري نفس الجهود في إنديانا وأوهايو وفي ولايات أخرى، يحمل متظاهر مصري لافتة كتب عليها: «مصر تدعم عمال ويسكنسون: عالم واحد، نفس المعاناة». وأحد مواطني ولاية ويسكنسون يجيب: «إننا نحبكم. شكرا على دعمكم وهنيئا لكم نصركم!»
يناضل المتظاهرون في ويسكنسون والثوار التونسيون والمصريون، بطبيعة الحال، لأهداف مختلفة؛ في المقام الأول ضد إذلال المواطنين وتحويلهم إلى أفراد خصوصيين منصاعين ويائسين من ويلات الرأسمالية المالية الأمريكية والعالمية خلال العقدين الأخيرين، كما يناضل الثوار العرب، من أجل الحريات الديمقراطية، ومن أجل فضاء عمومي مفتوح، ومن أجل الانخراط في العالم المعاصر بعد عقود من العزلة والكذب والخداع. ومع ذلك وفي الحالتين، تبزغ الآمال في الانتقال؛ فالأنظمة السياسية والاقتصادية صارت هشة، وقابلة للتغيير!
نعلم أن ربيع الثورات، ستعقبه غضبات الصيف وانهيار ثلوج الشتاء؛ فعلى الأقل منذ تحليل هيجل لتمرد الجماهير الفرنسية في كتابه «فينومينولوجيا الروح» عام 1807، بات شائعا الاعتقاد بأن الثورة ستلتهم أبناءها. وهكذا أعلنت هيلاري كلينتون تحذيرات منذ الأيام الأولى من الانتفاضة المصرية، كما عبر بعض المحللين عن غياب ثقتهم في قدرة الشعوب العربية على ممارسة الديمقراطية، مبتهجين حاليا عند رؤيتهم للعلامات الأولى للصراع بين المجموعات الدينية والعلمانية في مصر وتونس.
وإلى عهد قريب جدا، كثيرا ما سمعت أن الخيارات السياسية، ليس في العالم العربي فقط، وإنما في العالم الإسلامي ككل، هي ثلاث: (1)
الأنظمة الاستبدادية الفاسدة التي ترسيها الانقلابات العسكرية: كما هو الحال في مصر وليبيا، أو السلالات الملكية التي تشتري ولاءها بثروتها، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية. (2) «الأصولية الإسلامية»: التي تخفي عمدا الخلافات التاريخية والسياسية بين المجموعات المختلفة، في ظل الأنظمة أو فيما بينها. (3)
إرهاب «القاعدة»: الذي يوضع في نفس سلة «الأصولية الإسلامية».
تعود بطبيعة الحال أصول «القاعدة» تاريخيا إلى المملكة العربية السعودية، حيث ولد أسامة بن لادن، وعدد كبير من مفكري الإخوان المسلمين الموالين للقاعدة بمصر، كسيد قطب مثلا؛ فمن المعروف أن الزعيم الثاني للقاعدة هو الطبيب المصري أيمن الظواهري.
لا أحد من المعلقين والمتتبعين ترقب بروز حركة المقاومة الشعبية الديمقراطية، ولا أحد تحدث في عمقها بالمعنى السياسي؛ فمع أن هذه الحركة قد تبدو أحيانا على شكل تقوى/ورع، ولكنها ليست بحركة متعصبة، وهو تمييز هام يتم تجاهله باستمرار. فكما تلقى أتباع مارتين لوثر تربيتهم في كنائس السود بأمريكا الجنوبية، وأطلقوا قوتهم الروحية في هذه المجتمعات، فإن حشود تونس ومصر وخارجهما، تربوا على التقاليد الإسلامية من قبيل الشهادة؛ فأن تصير شهيدا فهذا قدر إلهي! وليس هناك من تناقض ضروري بين الإيمان الديني لعدد كبير من المتظاهرين في الحركات الثائرة في تونس ومصر وبين تطلعاتها الحديثة!
بأي معنى يمكن اعتبار هذه الحركات حديثة؟ إنها كذلك أولا وقبل كل شيء لأنها تسعى وراء إصلاح دستوري، وضمان حقوق الإنسان، وضمان المزيد من الشفافية والمسئولية من قبل المسئولين السياسيين، ووضع حد لرأسمالية المحاسيب،
2
وللنخب الفاسدة - كعائلة القذافي القاتلة في ليبيا - التي نهبت بلدانها بتواطؤ مع شركات البترول الأجنبية، وخصخصت مواردها الثمينة كما هو الحال في مصر. فشباب هذه البلدان درسوا وعملوا في أوروبا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث أبناء عمومتهم وآباؤهم يعملون كمهاجرين في هذه البلدان، ويعرفون ماذا يقع خارج بلدان الخليج الغنية، وقد تمردوا لمواكبة العالم المعاصر ولا يريدون السكوت على وضعهم.
كشفت وسائل الإعلام العابرة للحدود الأكاذيب التي تبثها وسائل الإعلام الرسمية لسنوات، وقد دار الحديث كثيرا عن المساهمة الكبيرة التي لعبتها وسائل الإعلام الجديدة مثل «فيسبوك» و«تويتر» في هذه الثورات. وهذا صحيح بالتأكيد؛ فوائل غنيم الذي يدير «جوجل» بمصر، يمثل حالة خاصة في هذا الانفتاح العالمي حينما صرح: (سوف أصافح مارك زوكربورج حينما ألتقي به!) وكان يعلم دون مواربة أن مارك زوكربورج يهودي! وماذا بعد؟
ما هي إذن الإمكانات المؤسسية: ماليزيا، أم تركيا، أم إيران؟ لا أحد على ما يبدو قادر على تقليد النموذج الإيراني؛ ونظرا للاختلافات بين دور اللاهوتي/السياسي المذهبي الشيعي أو السني، فلا يمكن أن تتبع مصر أو تونس النموذج الإيراني. ويمكن أن تشكل ماليزيا مجتمعا مسلما استبداديا ومنغلقا، حيث يتم التحكم في المرأة والفضاء العمومي.
أما تركيا فمجتمع متعدد ويتبنى ديمقراطية حية من طرف أحزاب سياسية متعددة، وغالبية مسلمة، فضلا عن تاريخها الخاص من استبداد الدولة؛ فالروابط التاريخية بين تركيا وبلدان من قبيل تونس ومصر وليبيا أيضا، تعود الى الحقبة العثمانية، حيث نجد أسماء النخب والمدن التركية حاضرة بعمق وعلى نطاق واسع. ولقد أشاد الشباب المصري كثيرا بالنموذج التركي.
من الممكن جدا أن يفاجئ الشبان الثائرون العالم بفضل براعتهم وانضباطهم ومثابرتهم وشجاعتهم، ويمكن في المستقبل أن نستفيد من دروسهم حول الدين والفضاء العمومي، الديمقراطية والإيمان، وكذلك حول دور الجيش.
أخيرا، رغم تشاؤمه من الثورة الفرنسية، لم يتوان هيجل في رفع كأسه للاحتفال بثوار فرنسا كل 14 يوليو (تموز)، يوم اقتحام سجن الباستيل. وها نحن نحذو حذوه برفع كأس على شرف الشباب الثائر كل 11 فبراير (شباط)، مبروك، وهنيئا. (3) تركيا والإسلام وساركوزي وأوروبا
بقلم سيلا بن حبيب.
حاورها دانييل كاستيلاني بيريللي
Daniele Castellani Perelli . (3-1) توطئة
تتميز تحليلات الفيلسوفة سيلا بن حبيب بمواقفها النقدية الجريئة من القضايا المعاصرة التي تهم ملايين الشعوب، وباعتبارها من أصول تركية فلم تتوان عن تحليل الوضع العام بتركيا، محاولة تقديم عناصر حلول لمجمل المشاكل التي تهم الشعب التركي. فرغم عيشها في أمريكا كواحدة من أبرز فلاسفة العصر فإن تركيا بلدها الأصل تظل حاضرة في قلبها دوما. هكذا قدمت رأيها كاشتراكية ديمقراطية تؤمن بإمكانية التغيير والإصلاح في بلدها، عكس ما تروج له بعض الأقلام النسوية المسخرة في خدمة السياسة الخارجية الأمريكية. ولا ينبغي أن يفاجئنا موقفها من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، حيث أكدت أن تجربة هذا الحزب جديدة، ويمكنه أن يقدم نموذجا جديدا، مستفيدا من التركيبة التعددية للمجتمع التركي. ورغم ذلك تتوجس بالحذر الكبير تجاه هذا الحزب، الذي ينبغي في نظرها مراقبته عن قرب، وتقدير المسافات بعدا عنه؛ فهي لا تؤمن أن الحزب الحاكم قادر على إرساء نظام أثوقراطي في تركيا؛ لأن ذلك غير ممكن، ولكنها لا تستبعد أن قاعدة هذا الحزب تؤمن بإمكانية قيام الدولة الدينية. وتحاج على ذلك بكون الاشتراكيين الديمقراطيين لا يمكنهم بحكم تاريخهم مع القمع والاضطهاد الذي مارسه الجيش في حقهم، لا يمكن أن يقبلوا عودة الجيش والمؤسسة العسكرية إلى معترك السياسة.
ننشر هنا مقابلة مع الجامعية سيلا بن حبيب 7 سبتمبر 2007: لا يلعب الدين في تركيا أي دور هام جدا كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية. بمناسبة انضمام عبد الله كول إلى رئاسة تركيا.
3 (3-2) نص الحوار
حاورها دانييل كاستيلاني بيريللي
Daniele Castellani Perelli .
دانييل ك. ب :
كانت تركيا في الأشهر الأخيرة مسرحا لاحتجاجات قوية ضد ترشح وزير الشئون الخارجية ذي الأصول الإسلامية عبد الله كول للانتخابات الرئاسية. هل ترين أن المخاوف التي حركت هذه الاحتجاجات مبررة؟
س ب :
لا أعتقد أن عبد الله كول قادر على تغيير شكل الدولة التركية، ولا على التخلي عن علمانية الدولة. قلق الناس من جراء ارتداء زوجته للحجاب الإسلامي، مما يشير على الأقل إلى تحول رمزي، على جسر عبور من العلمانية (النسخة التركية للفصل الصارم بين الدين والدولة)، نحو شكل من قانون إسلامي. لا أعتقد شخصيا، أن عبد الله كول ليس شيئا آخر غير شخص معتدل، كما لا أعتقد أن حزب العدالة والتنمية
AKP
قادر على تحويل تركيا إلى بلد إسلامي.
ومن المرجح أن بعض أعضاء هذا الحزب يزرعون هذا النوع من الوهم والأهداف، ولكن هذه المخاوف تجاه كول غير مبررة. ومنذ سنوات عديدة تكثف الصراع بين علمانيي الحزب الديمقراطي الشعبي
CHP
وإسلامويي حزب العدالة والتنمية. إنها توترات خيمت على قضية انتخابات رئيس الجمهورية، القمة الرمزية للدولة. ومن نواح عديدة، أجد أنه من الإيجابي مجابهة هذه القضية علنا: إلى أي حد يمكن للمشروع الإسلامي أن يذهب بعيدا في تركيا؟
د. ك. ب :
هل تركيا اليوم متدينة أكثر من سنوات الستينيات لما كنت صغيرة؟
س. ب :
لا أعتقد ذلك. ما حصل في الواقع هو أن التدين بان أكثر في الفضاء العمومي ويعبر عنه بشكل منفتح. النموذج الذي كبرت فيه - بحسب النموذج الذي وضعه أتاتورك - يعتبر الدين شأنا خاصا، أي إن الدين مقصي من النظام التعليمي ومن الفضاء العمومي، ومن السياسة أولا وبطبيعة الحال. لقد تغيرت هذه الوضعية بشكل جذري، وخاصة مع بداية الثمانينيات؛ حيث بدأت الأمور تتغير شيئا فشيئا. ومما لا شك فيه أن هناك انتعاشة عالمية للتعبدات الإسلامية. ولا أعتقد شخصيا أن حضور الإسلام في الفضاء العام يتعلق بالضرورة بزيادة التدين في صفوف الساكنة؛ إن ما تغير هو مستوى الرؤية.
د. ك. ب :
ألا تشكل سرعة وعنف سياسات أتاتورك تجاه الدين سببا غير بعيد في عودة الإسلام إلى الفضاء العمومي؟
س. ب :
جيد، تحدث هربرت ماركيوز عن «عودة المكبوت». ليس بعيدا تفسير عودة الإسلام في تركيا بعودة المكبوت. ولكن لا أظن أن هذا ينطبق على الموضوع؛ لأن ما نشاهده هو ظاهرة عالمية حولت الإسلام. فالإسلام الذي واجهه أتاتورك هو إسلام الخلافة؛ فالسلطان في إمارة عثمان، كان خليفة لجماعة مسلمة سنية (فيما يشبه البابا عند الكاثوليكيين). ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية، فقد السلاطين هذه الوظيفة وهذه الصفة، والتي تحولت فيما أعتقد في مصر إلى «شيخ الإسلام»، الزعيم الديني الرئيسي للمسلمين السنيين.
يمثل هذا النوع من الإسلام خليطا من المذاهب الدينية والتسيير السياسي. تقرب أتاتورك من المؤسسات التعليمية غير العلمانية. بحيث كانت كل تلك المؤسسات - أو على الأقل معظمها - في ظل النظام الإمبراطوري في قبضة التنظيمات الدينية، كما كانت هناك خلايا تنظيمات سرية داخل أجهزة الدولة.
ويجب التمييز بين هذا النوع من دين الدولة وبين الدين التقليدي لعامة الناس. فالفلاحون على سبيل المثال لهم أشكالهم الخاصة في التدين، وما كان يواجه أتاتورك هو هذا الزواج بين الدين والإمبراطورية. أما ما يحدث اليوم فهو عودة/يقظة الإسلام عالميا، التي ساهمت فيها آثار العولمة وأزمة الدولة-الأمة.
د. ك. ب :
هل يمكننا أيضا الحديث عن عودة الدين في العالم الغربي؟ اهتجس المعلقون الغربيون بنوع التدين المؤثر في السياسة التركية، ولكن هل يلعب الدين حقا دورا هاما جدا في تركيا بالمقارنة مع إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية؟
س. ب :
لا أعتقد ذلك؛ فإذا ذهبنا إلى عمق الأشياء، فالسياسة الأمريكية تعمق التدين الرمزي أكثر من أي بلد آخر في العالم. فلنأخذ الإجهاض كمثال هام جدا. فليس هناك أي نقاش في تركيا حول الإجهاض
l’IVG ، يرجع هذا الأمر ببساطة إلى الموقف اللاهوتي المختلف تماما؛ فالإسلام، كما هو الحال بالنسبة لليهودية، على عكس الكاثوليكية، لا يعتبر الجنين شخصا. ولا أعرف الشيء الكثير عن الأديان الأخرى، ولكن في الإسلام واليهودية، تأتي قضية الإجهاض في المقام الأخير بعد الحفاظ على صحة الأم، وهو السبب في غياب أي نقاش حول هذا الموضوع في تركيا.
وما يثير النقاش أكثر هو مسألة صورة المرأة في الفضاء العمومي؛ حيث الجدل هو حجاب المرأة، الذي يعتبر موضوعا هاما. كما أن هناك نقاشا حول تكوين رجال الدين ومسئولية هذا التكوين؛ ففي تركيا يوجد وزير للشئون الدينية، يعتبر مسئولا عن المدارس التي تكون رجال الدين المسلمين. وهكذا يمكننا القول بمعنى آخر إن الدين لا ينفصل عن الدولة إذا كانت تركيا تتبع النموذج العلماني الفرنسي، أو على الأقل يمكن القول إن الدين الإسلامي لا ينفصل عن الدولة.
للأقليات الدينية - اليهود والنصارى - مؤسساتهم التعليمية الخاصة، أما المسلمون الذين يمثلون الأغلبية فلديهم النظام التعليمي الرسمي. في أمريكا أو في أوروبا تجد قضايا الإجهاض والأبحاث حول الخلايا الجذعية مكانها في الفضاء العمومي. وفي فرنسا بطبيعة الحال، نجد جدلا دائرا حول الحجاب الإسلامي.
إذا كان موضوع ارتداء الحجاب في بعض الأماكن العامة قد أثار النقاش في تركيا، فهناك قضايا أخرى لا تثير المشاكل قدر ما يثيرها التدين. وضمن هذا المعنى، فمن الصعوبة لكاثوليكي أو بروتستانتي أن يفهم أن الإسلام لا يقدم دوما حلولا أخلاقية أو سياسية محددة لمواجهة هذه القضايا أو تلك المثيرة للجدل.
لا يوجد نقاش إسلامي بخصوص الأبحاث حول الخلايا الجذعية.
د. ك. ب :
وفقا لكم، هل يمثل الصراع بين الحزبين الكبيرين في تركيا صراعا ثقافيا بين العلمانيين والمتدينين، أم أنه مجرد صراع حول السلطة بين نخب سياسية هرمة ونخب ناشئة جديدة؟
س. ب :
هما معا في حزب الشعب الجمهوري (CHP)
هو الحزب القديم لكمال أتاتورك ويمثل مصالح الجيش، والموظفين العموميين، وموظفي القضاء والمدرسين، أي مجموع القوى العلمانية التي بنت الجمهورية التركية. ويمثل أسلوبهم السياسي نوعا من اليعقوبية؛ ليس لأنهم ثوريون، وإنما لأنهم يؤمنون أن الدولة هي كل شيء، أن الجمهورية هي كل شيء، وأن الفرد لا يعني شيئا. ويشعرون اليوم أنهم مهددون جدا، وبأنهم سيصيرون مهمشين. في أواخر الخمسينيات، بدأت الهوة الأولى بين ممثلي حزب الشعب الجمهوري بظهور فئات متوسطة صناعية ومالية انتهت بولادة الحزب الديمقراطي؛ لذلك تنافست هذه النخبة البيروقراطية العسكرية والمدنية مع البرجوازية الأصلية - طبقة رأسمالية - والتي ولجت بعض السلط خلال الازدهار الاقتصادي بعد الحرب، دون الاعتماد على الدولة.
لقد كان هذا التوجه السائد في سنوات الستينيات، أما اليوم فنحن نشاهد ظهور طبقة متوسطة جديدة أصلية من أصول شعبية في الأناضول. ولكن من هم هؤلاء الأشخاص؟ مالكو محلات السيارات على سبيل المثال، أو مديرو الأسواق الممتازة، مالكو الفنادق ومستثمرون في السياحة ... إنها الطبقة البرجوازية الصغيرة التي تشكل قاعدة حزب العدالة والتنمية (AKP) . لا يتعلق الأمر ببرجوازية صناعية أو مالية، وإنما بفئة تجارية (ميركانتيلية) تحمل قيم طبقة متوسطة معادية لليسار، ومناهضة جدا للشيوعية، أشخاص يؤمنون بالملكية الخاصة، تملك بقعة أرضية ومنزل وسيارة. كانت هذه البرجوازية الجديدة الأناضولية إلى حدود الآن مبعدة تماما من السياسة التركية وتميل إلى تفويض تمثيليتها للنخب، أي إلى البرجوازية الكبيرة الصناعية بإسطنبول أو إلى الجيش. إلا أنها اليوم صارت تمتلك صوتا سياسيا. فمع التطور العام لتركيا رفضت أن تكون مجرد ديكور خلفي وشرعت في الاندماج الاقتصادي. إنها أساس وقاعدة حزب العدالة والتنمية.
أعلنت المناضلة النسوية الهولندية أيان هيرسي علي
Ayaan Hirsi Ali (صومالية الأصل ومهاجرة اليوم بأمريكا) المناهضة للإسلامويين في تعليق حول الأزمة التركية نشرته بجريدة لوس أنجلس تايمز
Los Angeles Times : «يستغل أنصار الإسلام السياسي من مثل الوزير الأول رجب طيب أردوغان
Recep Tayyip Erdogan
ووزير الشئون الخارجية عبد الله كول وحزبه (حزب العدالة والتنمية)، يستغلون الوسائل الديمقراطية لتقويضها. فبعد فشلهم في ثورتهم الإسلامية 1997 حيث قام الجيش ب «انقلاب قانوني»
putsch légal
ضد الإسلاميين المترشحين، فهم أردوغان وحزبه أن نزعة إصلاحية متطورة يمكن أن تخدم أهدافهم على المدى الطويل. لقد كانوا بالتأكيد على وعي بأن أسلمة كاملة لتركيا ستتم من خلال السيطرة على الجيش وعلى المحكمة الدستورية.
د. ك. ب :
يعرف الإسلاميون كيفية التلاعب
manipuler
ببعض القادة الأوروبيين ذوي النية الحسنة، ولكن من السذاجة الاعتقاد أن الجيش التركي سيخضع للرقابة المدنية، كما هو الحال بالنسبة لجيوش الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. إلا أن الجيش والمحكمة الدستورية يمكن أن تحمي الديمقراطية بتركيا». ماذا تقولين حول هذا الكلام؟
سيلا بن حبيب (تضحك) :
هذا ليس سؤالا صعبا للغاية. فأيان هيرسي علي
Ayaan Hirsi Ali
تعرف كيف تلعب دورا عموميا مبنيا على النظر إلى الإسلام باعتباره شكلا فاشيا أو أوثوقراطيا.
في الحالة التركية لا تعرف أيان هيرسي ببساطة عماذا تتحدث؟ ولا يمكن أخذ أية ديمقراطية على محمل الجد. ففي المقام الأول، لا يوجد أي خطر في تركيا لصعود الأوثوقراطية الإسلامية. وأستطيع أن أؤكد لكم أنه ستكون هناك حرب أهلية قبل صعود الأوثوقراطية. وفي جميع الحالات، لا أظن أن حزب العدالة والتنمية يأمل في إرساء الدولة الدينية. وهم الآن في الطريق نحو تعزيز تجربة جديدة غير مسبوقة، ومما لا شك فيه أنه لم يترقب أي اشتراكي ديمقراطي مثلي - بحذر كبير - دعم ومراقبة تجربة حزب مثل حزب العدالة والتنمية، إلا أننا مدعوون إلى مراقبتها بحذر كبير؛ لأن حزب العدالة والتنمية يمثل شكلا من تعددية المجتمع المدني الذي تحتاج إليه تركيا. وبالتالي، لست خائفة من الثيولوجية الإسلامية. وأعتقد أنه لا الشعب التركي ولا حزب العدالة والتنمية يأملان في إقامة الثيولوجيا الإسلامية. كما لا أنكر أن أعضاء من هذا الحزب يحلمون بدولة من هذا النوع، ولكنني لا أظن أن تحقيقها ممكن. منذ خمسين سنة والجيش في تركيا فاعل سياسي، وأن أي شخص اشتراكي ديمقراطي لا يرغب في عودة الجيش إلى الحكم ، إلا أذا أنكرنا أو نسينا القمع الذي قام به الجيش التركي؛ فالجيش في تركيا مسئول عن انقلابين: انقلاب 1971، وانقلاب 1980. وقد قمع اليسار واضطهده ومهد الطريق لليمين، كما حاول القضاء على الحركة النقابية.
خطاب أيان علي هو خطاب صدامي يستند على النظر إلى الإسلام باعتباره في مجموعه أرثوذوكسية متجانسة ترفض إمكانية إنجاز أي إصلاح أو تغيير، خطاب يروج من الخارج لرؤية ديمقراطية ليبرالية مثالية لا تقبل النقد، وكأنها ليس لديها مشاكلها الخاصة.
قررت أيان علي العمل لصالح معهد الشركة الأمريكية، موالية لواشنطون، وتتدخل سياسيا بواسطتها. وأنا أحترم معاناتها كفرد وكامرأة، ولكن من المؤسف أنها اختارت هذا الطريق للتدخل في هذه القضايا التي تهمنا جيدا نحن. وأتمنى أن تغير آراءها بعد سنوات من العيش في أمريكا.
د. ك. ب :
بحسب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ليس هناك من مكان لتركيا في الاتحاد الأوروبي. ما رأيك؟
س. ب :
حسنا، آمل أن يمتثل ساركوزي ويحترم معايير كوبنهاغن؛ فالعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي ليست جديدة، بل تعود إلى 1957-1958 خلال التوقيع على اتفاقيات أنقرة. يحاول ساركوزي تقديم بعض الحجج الثقافية، أرفضها بموجب الالتزامات المؤسسية لكلا الطرفين؛ نشرت تقارير حول تطور تركيا من خلال احترامها لمعايير كوبنهاغن. فهناك مفاوضات، وقد قصرت تركيا في تسعة معايير، وأملي الكبير هو أن يتم معالجة المسألة التركية داخل الاتحاد الأوروبي على أساس معايير وتحليلات مؤسساتية، وليس على أساس تعميمات «ثقافية» مبهمة. إلا أن هذا ليس كل شيء؛ فالعلاقات بين تركيا وفرنسا هامة جدا ولا سيما فيما يتعلق بقضية الهجرة، التي شكلت المحور الحقيقي لخطاب ساركوزي. وإذا تذكرت جيدا فهناك ما بين 700000 و800000 عامل مهاجر تركي في فرنسا. ولكنهم أكثر عددا في ألمانيا وهولندا.
يوظف ساركوزي تركيا كاستعارة للتعبير عن مشاكله الحقيقية مع المهاجرين المسلمين بفرنسا - الجزائريين والتونسيين والمغاربة - لتبرير خطابه حول العلاقات بين أوروبا والإسلام.
د. ك. ب :
هل تريدين القول إنه لم يكن يتحدث في الواقع عن العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي وإنما عن العلاقة بين فرنسا والمهاجرين العرب؟
س. ب :
إطلاقا، ليس هذا غير ما نسميه في التحليل النفسي ميكانيزم التحويل. ما هي الانتقادات الموجهة تحديدا لتركيا؟
هناك على نطاق واسع ما يمكن انتقاده، مثل اغتيال الصحفي الأرميني هرانت دينك
Hrant Dink
واضطهاد الروائي أورهان باموك
Orhan Pamuk
وواقع أن هناك اختراقا للقضاء التركي من طرف عناصر من اليمين المتطرف الذين يوجهون القانون وفق تصورهم الخاص للدولة.
إذن هناك الكثير مما يمكن انتقاده في تركيا، ولكن ليس هذا ما يمكن انتقاده في تركيا، رغم أن هذه المشاكل تتوافق ومعايير كوبنهاغن؛ لأنه لو أرادت تركيا حقا الدخول الى الاتحاد الأوروبي، فعليها أن تقوم بعمل جاد في إصلاح القضاء. فلنأخذ المادة 301 من القانون الجنائي مثلا، التي تعتبر أن إهانة تركيا، أو الهوية الوطنية التركية جريمة. فهذه المادة يجب أن تختفي ... ساركوزي لا يفعل شيئا، وكل ما يحاول فعله هو زرع الخوف بطريقته الخاصة؛ فهو محرض.
د. ك. ب :
هل يمكن أن تكون تركيا نموذجا لدول مسلمة أخرى معتدلة كالمغرب والأردن ومصر؟ وإذا انضمت تركيا إذا إلى الاتحاد الأوروبي، فلماذا لا ينضم المغرب بعد غد؟
س. ب :
في الواقع، إنهما سؤالان مختلفان: فلنبدأ بالسؤال الثاني الذي يخص حدود أوروبا. إنه سؤال جوهري: هل هي حدود جغرافية، حضارية، أم تاريخية؟ إذا تم تحديدها على أساس التفاعلات التاريخية، فإنه من الواضح أن كل بلدان البحر المتوسط لها علاقات عميقة مع شمال أفريقيا.
يبدو لي بديهيا أن المشروع الأوروبي من وجهة نظر طوباوية - وجهة نظر تروق لي كمفكرة سياسية وأحيانا كفيلسوفة سياسية - يمكن أن ينظر إليه كنموذج فيدرالي كوسموبوليتي/كوني، كبنية حكم فيدرالية ناشئة. ومن وجهة النظر هاته، يمكن النظر إلى الاتحاد الأوروبي كنواة يمكن أن تتبعه دول أخرى أو تقلده. يتعلق الأمر بما في الكلمة من معنى، بمشروع طوباوي، ذي طموح مثالي ... وسيكون موضوع تفكيرنا. ولكن على المستوى المؤسساتي والإداري، فإن لامتداد الاتحاد الأوروبي حدودا مرتبطة بسلسلة من المعايير. وأنا مقتنعة من وجهة نظر تاريخية واقتصادية وبنيوية أن تركيا استجابت لهذه المعايير الأوروبية
ces critères d’européanité
منذ زمن طويل وبشكل جوهري أكثر من المغرب على سبيل المثال.
ولهذا السبب اقترحت أنجيلا ميركل نموذج «علاقة خاصة» مع تركيا؛ لأن الجميع يدرك أن علاقتها مع الاتحاد الأوروبي تختلف عن علاقاتها مع دول أخرى خارج الاتحاد الأوروبي. وأقترح أن يكون النقاش حول هذه المسألة مبنيا على معايير كوبنهاغن، وسنذهب بعيدا على هذا الطريق. السؤال الآخر المتعلق بهل يمكن أن تقدم تركيا نموذجا؟
كانت تركيا فيما مضى، بعد إعلان الجمهورية سنة 1923، نموذجا يحتذى في بلدان مثل تونس. فالحبيب بورقيبة كان بمثابة كمال أتاتورك، كما يجب ملاحظة أن تركيا كانت نموذجا لإيران، إلى حدود لحظة انقلاب الاستخبارات المركزية الأمريكية على الوطني مصدق، وكذلك الأمر بالنسبة لمصر. ويبدو لي أن ما يحدث اليوم هو أن النموذج العلماني للتنمية الذي أرسته نخب الدولة مثل جمال عبد الناصر بمصر وأتاتورك بتركيا استنفد دوره؛ فهو نموذج لم يعد صالحا. وكان مرتبطا بطبيعة الحال بانهيار اشتراكية الدولة في العالم العربي، انهيار الناصرية على سبيل المثال.
يفرض تفسير هذا الفشل بدون شك تنمية طويلة، إلا أن صعود الإسلام في العالم العربي يمكنه بدون شك تفسير الإحباط المتولد كما يجب أيضا أن نتذكر الهزيمة العسكرية عام 1967 التي ساهمت إلى حد كبير في فشل ذلك النموذج التنموي. إنه مشكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ فحالة الأردن وحدها دون شك مختلفة، وفيما يتعلق بمصر، أرى بعض العراقيل وعدم قدرة على التقدم. تركيا هامة جدا؛ لأن لديها اقتصادا ديناميا، وبلد شاب جدا. وإذا أرادت أن تبني نموذجا، فأنا على يقين أنها ستكون كذلك على مستوى التنمية الاقتصادية. ففي الحقيقة إن اقتصاد تركيا اليوم متقدم جدا بالمقارنة مع اقتصاد مصر. وكل هذه الجوانب يجب أخذها بعين الاعتبار، وأنا متأكدة من أن عددا من البلدان يتابعون تركيا عن قرب، وكذلك الأمر بالنسبة لسوريا، فلتركيا حدود واسعة جدا مع سوريا، وهذه مسألة نادرا ما نتحدث عنها. ولن يفاجئني كثيرا تقوية العلاقات مع سوريا مستقبلا، وقد أعلن الأسد عن بذل مجهودات تغيير وانفتاح، وهذا يبدو لي معقولا جدا.
Seyla Benhabib : La Turquie, l’islam, Sarkozy et l’Europe, Publié sur le site de
Mouvements
le 7 septembre 2007 . (4) أي حل لإسرائيل؟
4
بقلم سيلا بن حبيب، الجمعة 10 أبريل 2009.
انطلق هجوم إسرائيل على قطاع غزة الذي يئوي حوالي مليون ونصف المليون نسمة من الفلسطينيين، يوم 28 دجنبر 2008، أي في اليوم الأخير من احتفالات حنوكة
Hanouka «عيد الأنوار».
تحكي حنوكة قصة العبرانيين القدامى، الذي قادهم يهوذا المكابي، في القرن الثاني قبل الميلاد ضد أنطيوخس الرابع إبيفان
Antiochus IV Epiphane . وتحكي الأسطورة أن المكابيين تمكنوا من التحرر، ووجدوا زيتا لإشعال الشمعدان ليلة واحدة، ومع ذلك أشعلت لمدة ثماني ليال.
فقدت إسرائيل رؤيتها السياسية وقوتها العسكرية، ولا معنى سياسيا واضحا يوجه أفعالها/ممارساتها. القوة العسكرية حرة ووحشية وعمياء من أجل الوصول إلى أهدافها السياسية. ولا أحد من المسئولين الإسرائيليين يمتلك رؤية سياسية، ولا أقصد استراتيجية ذات أهداف طويلة المدى محددة بين ولايتين انتخابيتين ويمكن مراجعتها حسب الظروف، وإنما أقصد رؤية سياسية يستطيع مؤسسو الجمهوريات تملكها. كيف يمكن لهذه الجمهورية ضمان الاستمرارية والبقاء؟ ما هي المؤسسات المستدامة التي يمكنهم أن يتركوها لأبنائهم وأحفادهم، والتي ستضمن لهم الازدهار كأفراد وكمواطنين؟
أتذكر أيضا المقال الحيوي لإدوارد سعيد بمجلة نيويورك تايمز في خريف 1992، والذي أعلن فيه نهاية أيديولوجية منظمة فتح؛ فالفراغ الذي أحدثه انهيار الأيديولوجيات البيروقراطية والعسكرية الحديثة والغربية، في مجمل العالم العربي، فتح المجال للأيديولوجيات الإسلامية التي مثلها حزب الله، وحركة حماس؛ فالإسلاموية الجديدة تمثل رؤية أخلاقية خالصة، تأديبية، تمتح من ثورة آيات الله الخميني ضد الغرب التي لقيت صدى في الأراضي الفلسطينية بفضل خطابها الشرس والداعي إلى تدمير الدولة اليهودية، ولقد نجح في ذلك من خلال البرامج الخيرية في إعادة التوزيع والتضامن الإسلامي.
تقدم حماس، كما هو الشأن بالنسبة لحركات أخرى في تركيا وفي الشرق الأوسط، منظورا للمساواة و«إعادة التوزيع» والتضامن الإسلامي، الذي يعمق أيضا التسلط ومعاداة الليبرالية. ففي سنوات الثمانينيات دعمت إسرائيل حركة حماس كبديل لحركة فتح المكافحة والعلمانية، كما دعمت أمريكا أسامة بن لادن والمجاهدين ضد الفدائيين الأكثر علمانية واشتراكية في أفغانستان. وفي الحالتين معا، يخرج الشيطان من قمقمه.
وإسرائيل الآن كما هو حال أمريكا، محاصرة بولاءات حماس (حراس السنة) المتغيرة في مجال العمل الاجتماعي الإسلامي للعسكرية الإسلامية لحزب الله، كما هو شأن العربية السعودية تجاه أيديولوجيات السنة في إيران.
لا شيء يعطي الأمل للتقدميين واليساريين في هذا التحالف، التزامنا بالمساواة والتضامن وتقرير مصير الشعوب سيظل مبدأ نقديا ولا يقبل التضحية عبر الانخراط الأعمى في هذه المجموعة أو أية مجموعة أخرى. (4-1) أمن إسرائيل في عالم ما بعد ويستفاليا
ما هو الغرض السياسي من لعبة إسرائيل؟ نجد إسرائيل قريبة من صراع من أجل أمن ويستفالي في عالم ما بعد ويستفالي؛ حيث أصبحت الحدود سهلة الاختراق، كما تفعل الميكروبات، الأخبار/المستجدات، السلع، الأموال، كل شيء - باستثناء أجساد البشر - يسافر بسرعة كبيرة وبكميات هائلة تزداد يوما عن يوم. حفرت الأنفاق بين مصر وقطاع غزة لتمرير الأسلحة المهربة المشتراة بأموال إيرانية، وضعت أموال البترول الهائلة في أيدي الدعاة المتجولين وأشباه الأولياء من طرف المشايخ وممالك الخليج الفاسدة التي تحمي سلالاتها الهشة ...
كما وقعت أنظمة أسلحة منتهية الصلاحية قادمة من روسيا ومن الجمهورية السوفياتية القديمة من قبيل كازخستان، أذربيدجان ... في أيدي إخوانهم المسلمين. كما أن تجار الصين الكلبيين ورجال أعمال روسا فرحون جدا بفتح تجارتهم في المنطقة.
وإسرائيل تتظاهر بالصدمة! الصدمة من كون الصواريخ القادرة على ضرب تل أبيب مخزونة الآن بقطاع غزة وبجنوب لبنان. الصدمة لكون مجموعات صغيرة من مقاتلي حماس اختبأت وسط السكان المدنيين البؤساء، وأطلقت صواريخ على أدوات محمولة. إلا أن هذا مجرد نفاق. سواء كان هذا استراتيجيا أو معنويا، فهو لا يفسر ولا يبرر الانتقام الواسع. وحتى صدام حسين قد أطلق صواريخ سكود على تل أبيب خلال حرب الخليج الأولى، وهرع الأطفال والراشدون معا للبحث عن أقنعة الغاز مختبئين في شققهم ينتظرون الصواريخ تقع. تعرف إسرائيل أن قوتها العسكرية المفترضة تم اختراقها منذ زمن بأجيال جديدة من الأسلحة.
لا يوجد أمن كامل ولا يقهر مطلقا في العالم الجديد، على الأقل منذ 11 سبتمبر 2001 كما لم يكن هناك استقرار كامل في الميدان السياسي.
وحتى القنبلة النووية لا تضمن الأمن والاستقرار، ليس لأن إيران يمكنها أن تملك بدورها قنبلة نووية، وإنما لأن استخدامها ضد أهداف في لبنان أو سوريا وعلى قطاع غزة على الضفة الغربية والأردن بإطلاق سحابة من الأشعة على كل المنطقة يمكن أن يلوث المياه والغطاء النباتي، وهو ما يجعل إسرائيل بدورها غير صالحة للاستيطان. (4-2) أربع رؤى سياسية
تسود في إسرائيل اليوم خطابات سياسية تساير الوضع ولا تقدم أية رؤية سياسية جديدة: (أ) منظور/رؤية الحرب الدائمة
رغم أنه لا يدافع عنه أي سياسي يحترم نفسه، فالأمر يتعلق بنفسية داخل كل الإسرائيليين البسطاء، حيث يعتقد الغالبية العظمى أن الحرب نمط عيش؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق السلام بين إسرائيل وفلسطين. (ب) منظور الدولتين
الليبراليون والتقدميون من كل الأصناف يدافعون عن حل الدولتين (دولة إسرائيل ودولة فلسطين)؛ لأنهم يؤمنون بمبدأ المساواة في حق تقرير مصير الشعوب، ويقبل البعض هذا الحل؛ لأنهم قلقون مما يمكن أن نسميه «الانفجار السكاني الذي بدأ بالفعل»، وتسارع معدل الولادة بفلسطين، ويخشون العيش كأقلية في دولة فلسطينية كبيرة، ديمقراطية كانت أم غير ديمقراطية. (ج) منظور إسرائيل الكبرى
هناك أيضا منظور إسرائيل الكبرى المبنية على المعتقد الديني، حيث يسود الاعتقاد أن الأراضي القديمة ليهودا هي في الواقع للشعب اليهودي بلا رجعة. (د) المنظور العلماني لإسرائيل الكبرى
وهو منظور يختلف عن المنظور الثالث، ويؤكد على أن إسرائيل الكبرى يمكن أن تضم أراضي فلسطينية وتحكمها اتفاقات اقتصادية من الطرفين بموجب مناطق التبادل الحر والنمو الاقتصادي. على الأقل منذ مبادرة السلام التي أطلقها إسحاق رابين واتفاقات كامب ديفيد، ويمثل حل «الدولتين» السياسة الرسمية للحكومة الإسرائيلية والأمريكية. رغم أنه مجرد حل متناقض، يخفي في كثير من الأحيان دلالات في الوعي العام.
حل الدولتين مقبول على نطاق واسع، ليس لأنه يضمن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وحسب، وإنما لأنه يعد ب «فك الارتباط الديموغرافي». فجأة يقدم الديموغرافيون، السياسيون المزيفون، الذين يخفون تفكيرهم العنصري، حججا ترى أن استمرار إسرائيل في احتلال غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، سيضمن التحكم العسكري في 5 ملايين من الفلسطينيين العرب، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون داخل حدود إسرائيل منذ 1967. ونظرا لارتفاع معدل الولادات في صفوف الفلسطينيين، ساد الشعور بأن الطبيعة اليهودية لإسرائيل مهددة إذا انسحبت من قطاع غزة، خاصة إذا لم تسير حماس بعضا من أراضيها. في الواقع ثمة كوابيس من أن يصبح اليهود أقلية داخل دولة إسرائيل التي أسسوها بأنفسهم خوفا من ألا يصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية، محتقرين، مستغلين، ومفترى عليهم، ويمكن قتلهم بالجملة. وفجأة عادت إلى الظهور في اللاشعور اليهودي أشباح مذبحة اليهود القوزاق في معسكرات الإبادة النازية؛ لذلك فأن يشكل اليهود أغلبية من سكان إسرائيل بموجب اتفاق كامب ديفيد «دولتان جنبا إلى جنب» يبعد عنهم هذا الكابوس.
لذلك لم يقبل العديد من خبراء إسرائيل والعديد من المواطنين الإسرائيليين هذه الرؤية منذ 1967.
العملية العسكرية الحالية على غزة تحمل عناصر الخطابات السياسية الأربعة - الحرب الدائمة، حل الدولتين، إسرائيل دينية كبرى، إسرائيل علمانية كبرى - ولهذا السبب لم تكن متناسقة في أهدافها: هل تريد إسرائيل احتلال غزة من جديد وبناء مزارع بلاستيكية لتدميرها من جديد؟ هل تريد إسرائيل تدمير حماس ومؤسساتها المدنية والعسكرية بالمرة وتغادر غزة آملة حل الدولتين الذي لا يمكن احتمالا تحقيقه؟ هل تريد إسرائيل احتلال غزة وتعرض فيالقها العسكرية لمخاطر كبرى، وارتكاب جرائم حرب محتملة ضد الشعب الفلسطيني؟ شخصيا لست واثقة من أي شيء. (4-3) على شاكلة الصين والتبت؟
هل هناك بدائل سياسية حقيقية في ظل الوضع الحالي غير الاستراتيجيات العسكرية التي تتخذ كرؤى سياسية؟ هناك داخل إسرائيل حركة لفصل المواطنة الإسرائيلية عن الهوية اليهودية الدينية-الإثنية، يسمح بأن تصبح إسرائيل أرضا لكل المواطنين. وهذا من شأنه أن يتنصل جزئيا أو كليا من قانون حق العودة، الذي يعطي الحق في المواطنة الإسرائيلية لكل يهودي تعترف به السلطة الحاخامية كيفما كانت. وإلى عهد قريب لم يتم إصلاح قانون المواطنة الإسرائيلي والعديد من العمال المهاجرين وأبنائهم، فضلا عن أن الشركاء غير اليهود وزوجاتهم لا يستطيعون الحصول على الجنسية الإسرائيلية.
صار من سخرية القدر في العقد الأخير من السهل بالنسبة للروس، الذين يدعون أنهم يهود، الحصول على الجنسية، على عكس عربي-فلسطيني ولد ونشأ في القدس الشرقية؛ لأنه يعتبر (أو تعتبر) خطرا على الأمن، ولأن وضعية القدس الشرقية تعتبر لغزا وفق مصطلحات الاتفاقات الدولية.
ينبغي أن يتأسس كل نقاش سياسي جدي يتعلق بإسرائيل وفلسطين، على مبدأ أن القوة العسكرية ليست إلا ردعا، ردعا مشكوكا فيه يوما عن يوم على وجه اليقين، وأن ليس الأسلحة هي من يصنع السلام وإنما البشر؛ فالسلام هو الصالح العام، وإسرائيل قريبة من النموذج الويستفالي للسيادة المنقرض، الذي يفترض أن الدول قادرة على مراقبة كل حي أو ميت داخل حدودها. ومعظم الديمقراطيات المتقدمة تعرف أنه نموذج متجاوز أخلاقيا وتجريبيا؛ فالسيادة هي مجرد حصة، مجموعة من امتيازات وصلاحيات موكولة للدولة ويمكن تقاسمها، وتفويضها، والتعاقد عليها مع مجموعات أخرى وسلط أخرى.
العديد من المسئولين الإسرائيليين يعرفون بأنهم لن يسمحوا أبدا بسيادة كاملة للفلسطينيين على مجالهم الجوي، سواء في غزة أو في الضفة الغربية، ولا على التنقل الحر للبضائع في الموانئ أو خارجها، ولا على احتياطات المياه الجوفية الممتدة على جانبي الحدود، فلماذا إذن ندعي أن الدولة الفلسطينية سيادية وستصبح سيادية بالمعنى الذي تحب إسرائيل أن تراها سيادية؟ الحقيقة البسيطة والمحزنة هي أن دولة فلسطينية من هذا النوع ستظل على الدوام مراقبة ومتحكما فيها، وستضربها إسرائيل بين الفينة والأخرى. إنه واقع الحال تحديدا؛ لأن العديد من أنصار حل الدولتين يعرفون بأن العلاقات المستقبلية مع الدولة الفلسطينية ستكون شبيهة ليس بالعلاقات القائمة بين إيطاليا والنمسا، ولكنها أكثر شبها بعلاقات الصين مع التبت وبعلاقات الهند مع كشمير. (4-4) لنتخيل كونفدرالية
لنحلم للحظة، لنفترض أن هناك بين إسرائيل وفلسطين كونفدرالية، لنفترض أن تحييد جماعات من مثل حماس وحزب الله التي لا تعترف بوجود إسرائيل، هو هدف مشترك للفلسطينيين وللدول العربية الأخرى، ولكن لو أن حماس اعترفت بحق وجود إسرائيل، فسيكون لها مقعد على الطاولة، لنفترض أن هناك رقابة مشتركة على الأجواء، وعلى الطرقات البحرية والمياه التي تمارسها سلطات إسرائيل وفلسطين، لنفترض أن هناك عملة مشتركة وحقوق الاستقرار القانونية لكل مجموعة إثنية داخل مناطق من الأراضي المشتركة.
فإسرائيل لن تلجأ إلى حرب مدنية ضد المستوطنين المتعصبين في الخليل وفي الضفة الغربية، الذين سيجبرون على العيش تحت سلطة فلسطينية بلدية جهوية أو الدخول إلى إسرائيل.
لا تعني الكونفدرالية اختفاء السلطة الوطنية المشتركة وهوية كل شعب. وفي بعض نسخ الحدود قبل سنة 1967 (الخط الأخضر)، ظلت إسرائيل دولة يهودية، لها لغتها الخاصة، وعطلها، وانتخاباتها، ولكنها تقتسم السلطة مع الدولة الفلسطينية في مجالات الجيش والأمن والاستخبارات والمال والتبادلات، وبالمثل للفلسطينيين لغتهم الخاصة وعطلهم وانتخاباتهم، إلا أن الشعبين معا طورا مناهج مدرسية مشتركة وتحديدا حول تدريس التاريخ الذي ينصف الحقائق التاريخية ومعاناة الشعبين.
سيتعلم أطفال الجيل الجديد التفاهم والتعاطف بدل الكراهية والحقد بعضهم تجاه بعض. كما سيكون هناك تكافؤ في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في هذه الكونفدرالية، في حالة ما إذا لم يرغب البعض في الاستقرار في بعض المناطق الإسرائيلية الغنية؛ التعددية الدينية والحقوق المدنية الليبرالية ستحترم من طرف الجميع: اليهود، والمسلمين، والمسيحيين، وكل مواطني المعتقدات الأخرى. وبالنسبة للمتدينين الذين يريدون إدارة شئونهم الدينية الخاصة ستمنح لهم السلطات الدينية رخصا بذلك، كما أن هناك محاكم خاصة، ولكن أيضا هناك إعلان للحقوق لكل القاطنين يضمن لهم المساواة في الحقوق المدنية والسياسية.
وإذا سمح لي بمتابعة حلمي، أتخيل أن هذه الكونفدرالية يمكنها أن تكون نواة ومركز اتحاد في الشرق الأوسط وشعوبه، حيث تركيا ومصر والعربية السعودية والعديد من الدول الأخرى يمكنها الانضمام إليه على غرار نموذج الاتحاد الأوروبي.
الشرط الإنساني ومشكلة الشر
هل يمكن الحديث عن شر سياسي بالنسبة إلى حنة آرنت؟
الغاية من هذه الورقة النظر في جملة المفارقات التي يطرحها مفهوم الشر
1
في بعديه الأخلاقي والسياسي في فكر حنة آرنت (مع استحضار البعد الميتافيزيقي والطبيعي، على الرغم من أن المستوى الميتافيزيقي الصرف يعالج بشكل خاص في فلسفة الدين، ويطرح أسئلة من قبيل «العدل الإلهي»، و«القدرة الإلهية»، و«العناية الإلهية» ...) مع الإشارة إلى التناقض المتعلق بمجالي الحرية والضرورة. وعلى هذا الأساس استعملنا مصطلح التفاهة
2
الذي بلورته آرنت في كتابها «إيخمان في القدس» الذي كان في أصله عبارة عن تقرير عن تفاهة الشر.
3
إلى جانب مصطلح الشر السياسي الذي يمكن استخلاصه من مجمل تحليلاتها في «أسس التوتاليتارية»
4
و«حياة الروح/الذهن»،
5
وفي كتاباتها الأخرى. وبناء عليه أمكننا أن نتساءل: ما الذي يدعو إلى طرح سؤال الشر في العالم المعاصر؟ كيف تحدد آرنت تفاهة الشر؟ كيف عالجت آرنت مشكلة الشر السياسي؟ وما علاقة الشر السياسي بالأنظمة التوتاليتارية؟
جل التأملات الفلسفية لأوضاع البشر في العالم المعاصر، تنحو منحى تشاؤميا إن لم نقل عدميا، وذلك بفضل التشخيص التراجيدي والمأساوي للموجود، وهو الأمر الذي يفرض علينا تفحص المبررات وجملة الحجج التي يسوقها الفكر المعاصر للاستدلال على تنامي العبثية والعدمية؛ ذلك أن كتاب «الشرط الإنساني» ينظر في نسيان الماهية السياسية للإنسان (آرنت)، بدل نسيان الوجود بمعناه الهيدجيري؛ أي الانتقال من مجال الميتافيزيقا إلى مجال السياسة. إلا أن هذه الخاصية لا تسم الفكر الفلسفي المعاصر بالذات، بل نجد لها جذورا في تاريخية الفكر البشري اعتقادا أن الشر منذ نشأته الأولى (بداية الخلق) عاصر العدمية في كل أبعادها. وهو الأمر الذي يتقاسمه الدين مع الفلسفة، أو إن شئنا القول العقل في تاريخيته.
صحيح أن حنة آرنت قد لعبت دورا كبيرا في تأطير وتأسيس رؤية جديدة لمسألة الشر السياسي، إن لم نقل لمسألة التوتاليتارية والتحكم الكلياني المطلق في الشرط السياسي للإنسان الحديث، وهو الأمر الذي يستوجب منا الوقوف على بعض أفكار الفيلسوفة المشاغبة في القرن العشرين، التي وقفت في تحليلها لظاهرة الشمولية على كل الجوانب الأيديولوجية والسياسية التي أوصلت الإنسان الحديث إلى وضعيته التراجيدية. ذلك أن رفض آرنت للفكر الشمولي الذي وقف أمام التعددية
6 (أي تعددية العالم وتنوعه) هو السبب في إعادة التفكير في وضع/حال الإنسان الحديث.
7 (1) أولا: آرنت ومسألة الشر
ستعمل الفيلسوفة حنة آرنت على التأصيل لمشكلة الشر انطلاقا من منظور الفكر السياسي وليس من الفلسفة السياسية أو الأخلاقية فقط، الذي شكل محور اهتمامها طوال حياتها؛ ذلك أن معظم مؤلفاتها تتمحور بالأساس حول مشكلة التوتاليتارية والتحكم السياسي المطلق (النظام الشمولي) الذي تعاظم في العالم المعاصر، وفي، أو كما تسميه «حال/وضع الإنسان الحديث الشرط الإنساني
La condition de l’homme mode
الذي تلخصه في مفهومي: حياة-الفعل
Vita Activa
8 (ليست حياة الفعل بل الحياة النشيطة) وحياة التأمل.
اهتمت آرنت بمشكلة الشر نتيجة ما تعرض له اليهود من اضطهاد وقمع وإبادة في أوروبا (النمسا وهنغاريا وألمانيا أيام النازية)، وفي جنوب روسيا ... وهو القمع الذي نالت منه نصيبها
9
كما هو الأمر بالنسبة لمختلف المثقفين والفلاسفة والساسة اليهود، حيث عاشت اغترابا سياسيا من جهة، وهوياتيا من جهة أخرى، وهو الأمر الذي دفعها إلى بناء أطروحتها الأساس التي شكلت عصب فكرها السياسي والفلسفي: «أصول التوتاليتاريا».
10
يرتبط الشر السياسي أول الأمر بأزمة العالم الحديث التي تجسدها الأنظمة التوتاليتارية، أي التصحر الذي اجتاح الوضع البشري في القرن العشرين كقرن الحروب والثورات بامتياز، أي قرن العنف؛ لأن هذا الأخير هو وليد الثورات والحروب. هكذا يتحول تفسير الشر من التبرير الأخلاقي والميتافيزيقي والطبيعي، إلى التبرير السياسي، فإذا كانت الأديان قادرة على إقناع الناس بأن الشر محايث وملازم للبشرية كشر متوارث عن الخطيئة الأولى، وإذا كانت الفلسفة مع ليبنتز قادرة على اعتبار الشر ملازما لأفضل العوالم الممكنة، وإذا كانت الفلسفة الأخلاقية الكانطية قادرة على تبرير الشر بإرجاعه إلى أصل الطبيعة البشرية كشر متجذر في الوجود البشري، وكميل مخالفة للقانون الأخلاقي
11
فإن آرنت لا تجد حرجا في تفسير الشر تفسيرا سياسيا، باعتباره عملا تافها/عاديا
Banale
تتحمل مسئوليته الأنظمة الكليانية من جهة، والفرد نتيجة عوز الفكر من جهة أخرى؛ لأن فعل الشر الذي يجسده إيخمان
Eichmann
12 - نموذجا - هو مجرد فعل تافه وعادي جدا، وهو الأمر الذي سنحاول مقاربته ها هنا بالوقوف على مفهومي: الشر السياسي، أو تفاهة الشر. (2) ثانيا: الشر كفعل تافه
صاغت آرنت مفهوم التفاهة
la banalité
أول الأمر في كتابها إيخمان في القدس، وطورته بشكل خاص في كتابها الأخير حياة الروح
la vie de l’esprit .
13
حيث تعترف أن محاكمة إيخمان قادتها من التغطية الصحفية لحدث عادي جدا لا يستدعي كل الضجة التي أثيرت حوله - ناهيك عن الأهداف السياسية للمحاكمة حيث تسعى اللوبيات الصهيونية إلى التمويل من ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية - إلى التحليل الفلسفي لمسألة الشر، وتعاظمه في عالم اليوم.
14
نقول تحليلا فلسفيا (يدمج المقاربة السياسية مع المقاربة الأخلاقية الكانطية). وترى في مقدمة «حياة الروح» أنه من الضرورة العودة إلى مسألة الشر لصياغة فكرة فلسفية واضحة حول هذا الموضوع، ولتطوير بعض الأفكار التي لم يكن الغرض منها في تقرير إيخمان صياغة مذهب أو نظرية في الشر، مما يعني أنه في الكتاب الأخير
la vie de l’esprit
صار من الضروري وضع هذه النظرية. من خلال رصدها لثلاثة مفاهيم فلسفية متصلة بهذه المشكلة وهي: الفكر، والإرادة والحكم؛ فالشر لم يكن ناتجا عن البلادة (الغباء
la stupidité ) وإنما هو تعبير عن غياب الفكر - عوز في الفكر
un manque de pensée ،
15
وتقصد بالغباء أو البلادة عدم القدرة على الفهم (أو غياب القدرة على الفهم)،
16
وهو الفهم الذي لا يتحقق في حال غياب/عوز الفكر الذي يسم الشرط السياسي للإنسان الحديث. فسمة العصر الحديث كما ترى آرنت هي الأزمة التي امتدت مع المد الشمولي-التوتاليتاري الذي تعتبره في كتابها: ما هي السياسة؟
17
أفولا لمعنى السياسة، أي الأزمة التي اختلط فيها العنف بالفعل السياسي، وتلاشت فيه الحدود بين المجال العام
18
والمجال الخاص، مما أدى إلى نتائج كارثية على مجال التربية وتكوين الناشئة، وكذا على تصورنا لفعل الحرية والسلطة، وكل المفاهيم التي تؤطر وعينا السياسي؛ فالعنف صار أمرا عاديا جدا في المجتمع إن لم نقل مع ب. بورديو
إنه محايث لنمط العيش والوجود الإنساني في القرن العشرين، بل غدا مقبولا إلى حد لا يطاق. وهو الأمر الذي تعمقت في فحصه في أزمة الثقافة
la crise de la culture (وتحديدا في الفصل الثالث)،
19
الذي تحدد فيه معنى السلطة
l’autorité ، معتبرة أن هذه الأزمة ليست قدرا وجوديا محتوما، وإنما هي نتيجة لنسيان الاختلاف الأنطولوجي بين الوجود والموجود، إلا أنها على عكس هايديجر
Heidegger
تحاول أن تبرر البعد السياسي المأزوم للعصر الحديث بانعدام (غياب) التفكير أو العوز في الفكر الذي يسم هذا العصر، وهو ما يمكن تجاوزه بالتفكير في «ما فعله الإنسان» أي في نشاطه وفعله
Vita Activa . فإذا تميز القرن الأخير بالعنف نتيجة التحكم الكلياني في المجتمع بفعل صعود الأنظمة التوتاليتارية واستيلاء الأيديولوجيات الأحادية على العقول فإن ذلك سيعمق من أزمة الفكر.
لم تسائل آرنت تاريخ الغرب كتاريخ لنسيان الوجود كما فعل هايديجر ولا باعتباره تاريخ قلب الأفلاطونية، بل باعتباره تاريخا تبلور فيه نسيان الماهية السياسية للإنسان؛ لأن صعود الأنظمة التوتاليتارية شكل بالنسبة لها ظاهرة جديدة غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية حيث تقول: «إن هذه الأزمة التي اتضحت معالمها منذ بداية القرن، إنما هي أزمة ذات أصل وطبيعة سياسية. فتصاعد الحركات السياسية الرامية إلى الحلول محل نظام الأحزاب، وتطور شكل توتاليتاري جديد لممارسة الحكم، إنما يقف خلفه انهيار، تختلف درجة عموميته ومأساويته لكل السلطات التقليدية.»
20
تنطلق آرنت في مقدمة كتابها «حياة الروح» من سؤال في غاية الأهمية لمقاربة نقدها للشر الجذري، ويتعلق الأمر بما إذا كانت مشكلة الشر والخير أو ملكة تمييز ما هو خير مما هو سيئ متصلة (أو ذات علاقة) بملكة تفكيرنا.
21
بغية بيان أن ملكة الحكم لا تنفصل بتاتا عن ملكة التفكير، وهو الأمر الذي يتعارض وتحليل كانط في «نقد ملكة الحكم» وفي «نقد العقل العملي»، حيث الإرادة سابقة لكل تفكير، مما قاده إلى اعتبار الخطيئة تعبيرا عن غياب العقل؛ لأنه لم يتشكل بعد، أي إن الفعل هنا خارج أية مسئولية؛ لأن هذه الأخيرة لا تحضر إلا بحضور ملكة التفكير. وبذلك يظل الحكم كيفما كان نوعه مرتبطا أساسا بالنفعية المبتغاة منه وخاصة في الأحكام الذاتية، وهذا ما نجد فيه تناقضا حول طبيعة الحكم (وتحديدا الحكم الجمالي: فكيف يتحقق مبدأ النفعية في الأحكام الذاتية ويغيب في الأحكام الموضوعية؟) إذا كان الحكم الكانطي (وأساسا الذاتي) مرتبطا بالمنفعة فإن التفكير لا تحكمه أية غائية؛ لأن التفكير بحسب آرنت يتحول إلى شيء في ذاته؛ لذلك تقصد بغياب الفكر، أو غياب التفكير نشاط الفكر في ذاته،
22
أي إن القصد الأول والنهائي ليس هو نسيان الطريقة - الشكل، ولا نوعا من الغباء/البلادة وإنما غياب القدرة على الفهم،
23
ولا نوعا من الاستلاب الأخلاقي، بل هذا النشاط الذاتي للفكر بما هو فكر، أي القدرة على الفحص التي هي وحدها قادرة على أن تجنبنا الشر.
24 (3) ثالثا: الأنظمة التوتاليتارية وسؤال الشر
عملت آرنت في ثلاثيتها الشهيرة على مقاربة مسألة الشر من وجهة نظر الفكر السياسي. فعادة ما تنسب النازية الشر لليهود وتبرر تصفيتهم بنزوعهم الأصيل المتجذر في طبيعتهم البشرية نحو الشر، وهذا ما ترفضه آرنت حيث تقول: «أما تمثيل اليهودي باعتباره تجسيدا للشر فيعزى بعامة إلى بقايا أعمال عدائية وذكريات خرافية تعود إلى القرون الوسطى، والواقع أن لهذا التمثيل صلة وثيقة مع الدور الأحدث والغامض الذي راح يؤديه اليهود في المجتمع الأوروبي، منذ تحررهم ... والواقع أن الجماعات اليهودية القاطنة في أوروبا، عمدت، بعد الحرب العالمية الأولى، إلى التمثل بالشعوب الوطنية، كما فعل اليهود الفرنسيون في بدء الجمهورية الثالثة.»
25
يعود هذا الاتهام إلى الدور الذي بدأ يلعبه اليهود في العالم (وأوروبا تحديدا) بعد الحرب العالمية الأولى، بحيث طرحوا أول الأمر مسألة الهوية والحاجة إلى الانتماء إلى بلد ووطن معين، ففي روسيا بعد انتصار الثورة البلشفية كان النقاش محتدا لسنوات حول ما يعرف بالمسألة اليهودية. وهو ما شجع العديد من المفكرين اليهود على التفكير بجدية في مسألة الهوية وإعادة طرحها من جديد، وهو التفكير الذي أسس لمسألة الهوية اليوم.
تقف آرنت بدقة في هذا المؤلف حول التوتاليتارية على الجذور والأصول التي نجدها في طبيعة العلاقة بين الحركات الأيديولوجية والسياسية التي ولدتها ثورات القرن العشرين وما أدت إليه من تعميم كلي للعنف، حيث صار العالم منظورا إليه، وكأنه حلبة صراع مفتوحة للأبد على كل المآسي التي تسببت فيها الحروب الشاملة.
26
فولادة النازية جاءت من صلب الحركات الجماهيرية الفاقدة لوعيها التاريخي والتي آمنت بأن ممارسة العنف أمر عادي جدا حيث تقول: «لقد كان النازيون على قناعة بأن الشر يمارس في عصرنا قوة جذب مرضية ...»
27 «ونقطة تقاسمهم إياها الدعاية الشيوعية في روسيا وفي الخارج.»
28
فلا يمكن أن نتصور هنا الحركات التوتاليتارية دون جيوش مجندة تنفذ كل ما يأمر به القادة باسم الحزب أو الطبقة، وتلك هي حالة إيخمان: رجل فقد وعيه وكل إحساسه بالآخر، ولا يستطيع أن يفكر حتى في كيف يتألم الغير، حيث تقول: «إن افتتان الدهماء بالشر والجريمة افتتانا أكيدا ليس بالأمر الجديد؛ إذ لطالما تبث أن الرعاع يرحبون «بأعمال العنف قائلين بإعجاب: لئن كان ذلك جميلا، فإنه بالغ القوة بالتأكيد».»
29
أي إن أنصار التوتاليتارية النازية والشيوعية لا يدركون حتى ما يمكن أن يلحق بهم، فقبول العنف لا يكون تجاه العدو المفترض أو الضحية، بل يكون أيضا حتى تجاه الآخرين من نفس الطينة، فالأهم في سيرورة التوتاليتارية تقول آرنت: «هو اللامبالاة الصادقة التي تلازم المنضوين تحت لوائها: لئن كان ممكنا أن يقدر المرء عدم اهتزازات قناعات النازي أو البلشفي حين ترتكب الجرائم في حق أناس لا ينتمون إلى الحركة موضوع التآمر المزعوم، أو يكونون أعداء لها، فإنه لمن المذهل ألا يرف له جفن حين يشرع الغول في افتراس أبنائه، وحين يصير هو نفسه ضحية الاضطهاد، وحتى في حال أدين ظلما، أو طرد من الحزب وسيق إلى الأشغال الشاقة أو إلى معسكر اعتقال. إنما العكس يصح فيه؛ إذ يحدث، إزاء ذهول العالم المتمدن، أن يكون مستعدا لإعانة متهميه ولأن يلفظ بنفسه حكم إعدامه، شرط ألا يمس مركز عضويته في الحركة.»
30
فقد تصرف أنصار التوتاليتارية من عامة الشعب (الرعاع أو الحشود بلغة آرنت) عميانا، يهرعون إلى العنف بكل أشكاله للانتقام من أوضاع لم يصنعوها بأنفسهم، حيث صار الانتقام أمرا لا مفر منه، غذته نزعة رفض الغير، التي أدمجت الأنصار في الجماعة، هذه الأخيرة ولدت لدى أفرادها سيكولوجية خاصة تغذيها الحملات الدعائية الموجهة للمجتمع ككل، وهو الأمر الذي تنبأ به غوستاف لوبون
G. le bon
في سيكولوجية الجماهير وفرويد
Freud ، حيث نقرأ في سيكولوجية الجماهير: «على أية أفكار أساسية سوف تنهض المجتمعات المقبلة التي ستخلف مجتمعاتنا؟ إننا لا نزال نجهل ذلك حتى الآن. ولكننا نستطيع أن نتنبأ منذ الآن بأنه ينبغي عليها أن تحسب الحساب فيما يخص بنيتها وتنظيمها لقوة جديدة تمثل آخر سيادة تظهر في العصر الحديث: إنها قوة الجماهير وجبروتها ... إننا نجد أن نضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع أن يهددها أي شيء. وهي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار. إن العصر الذي ندخل فيه الآن هو بالفعل عصر الجماهير.»
31
لقد كتب لوبون (1841-1931) هذا في سنة 1895، وعاصر طبعا ما كان يتحدث عنه خلال الحرب العالمية الأولى ثم الثورة الروسية والأزمة الاقتصادية.
32
إلا أنه إذا كان لوبون ينهل من سيكولوجيا الجماهير، ومن علم النفس الاجتماعي، فإن آرنت تحاول الوقوف على وجهة نظر الفكر السياسي إلى ظواهر التوتاليتاريا موظفة بذلك تحليلات لوبون وفرويد. (4) رابعا: غياب الفكر (أو عوز التفكير) والأمل في محو الشر
تجعل حنة التفكير هو الأساس الذي بموجبه يمكن مواجهة ومقاومة الشر، فالفعل الذي قام به إيخمان يحتاج إلى تفكير جديد لا يقوم على أحكام القيمة ولا على المعاداة للنازية؛ لأن إيخمان هو مجرد شخص وقد أنجز عملا تافها تعود مسئوليته للنظام النازي. وبدون التفكير لا يمكننا القضاء على الشر. هكذا؛ فالتفكير الذي تدعو إليه آرنت هو تفكير في مجال الحرية والإرادة من زاوية سياسية، وليست أخلاقية كانطية محضة. وتقصد بالبعد السياسي النزوع نحو الانتقام والعنف، الذي يوجد داخل كل واحد منا، والذي تغذيه الأنظمة البيروقراطية والكليانية التي تدفع البشر إلى التصرف دون رحمة ودون شفقة، وهم يحسون أنهم يرتكبون مجرد أفعال بسيطة، ولكنها في الحقيقة إجرامية إلى حد بعيد إنه «الشر التافه والعادي»، ولكنه مخيف بشكل كبير. فالأنظمة التوتاليتارية من وجهة نظر آرنت وتحديدا النظام النازي والستالينية الروسية بشكل أخف، تذكي الاتجاه نحو تكريس النظرية السلوكية في الفعل البشري، بحيث يتصرف أجراء البيروقراطية الإدارية والعسكرية والاقتصادية والسياسية كفئران تجارب. ولقد أدت الحرب النازية على اليهود إلى إبادة ما يناهز المليونين من يهود أوروبا، وفي الآن ذاته عذبت الستالينية المعارضين السياسيين الموالين لصديق ستالين نفسه، هذا وقد كانت محاكمات موسكو 1936 التي تستشهد بها آرنت مثالا ساطعا عن الفظاعات التوتاليتارية، حيث تم إطلاق النار على المعارضين وتم إرسال عشرات الآلاف من بحارة بيتراسبورغ إلى معسكرات الاعتقال في سيبيريا، نفس الفعل قامت به السلطات النازية في ألمانيا على أيدي موظفي الجيش والساسة النازيين. فهل نجد حلا لكل هذه الفظاعات؟ ترى آرنت أن الشر يمارس في الفضاء العام وتحت أعين أشخاص مهيجين ومعدين سلفا تحت التأثير الأيديولوجي الصارخ الذي ترعاه المؤسسات الإعلامية الرسمية. وها هنا تصرخ آرنت في وجه هذه «المأساة الأنطولوجية» التي حلت بعالم اليوم الذي فقد صوابه، وتقول في وجه الملايين الذين اقتيدوا إلى معسكرات الاعتقال والإبادة: كيف لا تستطيعون أن تنتفضوا وأن تثوروا في وجه هذا النظام الهمجي؟ كيف تقبلون، أنتم الملايين، أن يقودكم في القطارات ما لا يتجاوز مائة جندي؟
33
هل بلغت الفظاعة بهذا الإنسان أن يكون خاضعا بشكل كلي لقوانين تتعارض مع إرادته وحريته؟ هنا تقف آرنت على الفهم الكانطي للقانون الأخلاقي، وتعتبر أن هذا القانون لن يجدي في شيء ولا يمكنه أن يحل مسألة الشر المتجذر في السلوك السياسي البشري، وتفتح هنا الآفاق للتفكير في حجم هذه الفظاعة الشرسة التي أدت إلى مجازر في حق البشرية. وأكيد أن شرط الإنسان الحديث يدعو إلى التأمل في كل أبعاده، فهل ثمة تبرير أخلاقي لفعل إيخمان أو بعبارة آرنت: كيف تبنى إيخمان الموقف الكانطي؟
بموجب السلطة التوتاليتارية يتحول الواجب إلى واجب القائد والزعيم (الفوهرر)، ويغدو مبدأ الطاعة متمركزا على الذات القائدة سياسيا، وهكذا يتحول مبدأ الطاعة المفترضة للواجب الأخلاقي الكانطي إلى طاعة الواجبات التي يفرضها ويمليها الزعيم. هنا يتماهى الفرد - كما هو الحال مع إيخمان - مع القائد الذي يقود كل الأفراد الآخرين، وهي الحالة التي يتحول فيها إيخمان إلى رجل عادي ولكنه يفعل الشر إلى أقصى حد.
34
ولكن فعل الشر هنا ليس نابعا من الفرد - من وجهة نظر آرنت - ذاته وإنما من السلطة السياسية والأيديولوجية التي حولت الفرد إلى قطيع يطيع أوامر الزعيم. وهو الأمر الذي وقف عليه فرويد قبل آرنت وغوستاف لوبون فيما يسمونه بسيكولوجية الجماهير، وهي حالة نفسية لم يعد معها الفرد قادرا على التصرف كفرد وكذات وإنما حالة فوران وانفعال تطبع معظم تصرفاته ومواقفه في تلك الأثناء. صحيح أن الأيديولوجيات الكبرى قد فتحت القرن الواحد والعشرين على إمكانات لتخليص الفرد من القيود التسلطية التي فرضت عليه طوال قرون، ولكن لطالما تحولت هذه الأيديولوجيات إلى عذاب أليم بالنسبة لتلك الجماهير التي أسكرتها وسحرتها بعباراتها التحررية. فستالين نفسه الذي يخطب في الناس أيام البلشفية الأولى، وهو في طريقه إلى جبال القوقاز لتجنيد الشباب للنضال ضد القيصر، سرعان ما سيتحول إلى مستبد أكثر من القيصر نفسه، وهو يشرف على مذابح موسكو 1936، وعلى الأخص ذبح زملائه في النضال السياسي. ونقرأ في أسس التوتاليتارية: «إن انجذاب الشعب نحو الشر والجريمة ليس شيئا جديدا. الناس لم يتوانوا عن الترحيب بأعمال العنف، مدركين أن هذه الأعمال قد تكون سيئة لكنها أعمال خلاقة. لكن الأخطر في نجاح التوتاليتارية هو عدم الاكتراث الحقيقي الذي يبديه المنضوون تحت لوائها. من المنطقي ألا يهتز النازي أو البلشفي في قناعاته عندما يشهد أعمال عنف ضد أشخاص لا ينتمون إلى الحركة أو يعادونها، لكن الغريب في الأمر ألا يرف له جفن حتى عندما يبدأ الوحش بالتهام أبنائه، أو حتى عندما يصبح هو نفسه ضحية للاضطهاد، أي إذا ما تمت محاكمته من دون حق، أو جرى طرده من الحزب، أو حكم عليه بالأشغال الشاقة أو أرسل إلى مخيمات الاعتقال» ... هكذا يصبح إيخمان، رجلا عاديا غير مسئول عن فعله لأنه ليس هو منبع الشر، وإنما مجرد أداة تنفيذ لأوامر الزعيم، وهذا ما تسميه آرنت بتفاهة الشر في مقابل الشر الجذري. وبموجب هذا ينبغي الانتباه إلى التحول العميق الذي حدث في فهم بنية الشر، بحيث لم يعد الشر - كما هو الحال عند كانط - القيام بأفعال لا تنسجم والقانون الأخلاقي، وإنما أصبح الشر نابعا من طاعة الأوامر القانونية، وهو الأمر الذي لم ينتبه إليه العديد من المتتبعين لمحاكمة إيخمان. وبمعنى آخر هل يمكن أن نعتبر أن إيخمان يعي جيدا أنه يفعل الشر؟ أو أنه يقوم بفعل الشر بمحض إرادته؟ إيخمان في نظر آرنت هو مجرد موظف ينفذ القرارات التي يمليها القانون؛ فأي مسئولية أخلاقية يتحملها إيخمان ها هنا؟ وهكذا فليس ثمة من شر - بحسب آرنت - في الطبيعة البشرية؛ لأن هذه الفكرة لاهوتية في الأساس (وعلى الأخص المسيحي الذي ينسب فعل الشر إلى غواية الشيطان)، ولكن ثمة شر تافه يجول في العالم كجرثومة قد تنتعش في كل مكان تجد فيه ظروفا ملائمة للسلطة التوتاليتارية؛ ولهذا تقول آرنت: «أعتقد صراحة أن الشر لم يكن راديكاليا أبدا، وإنما فقط شر إلى أقصى حد.»
35
يستوجب قلب المعادلة من الشر الجذري إلى الشر التافه تغيير النية التي تحدث عنها كانط كأساس ذاتي لفعل الخير أو الشر، إلى النية كأساس ذاتي للتفكير؛ لأن غياب التفكير وغياب الفكر الذي لا تؤمن به التوتاليتارية (يمكن أن نسميه مع التفكيكية الاختلاف والإقرار بالتعدد وبالحوار التشاركي)، هو سبب الشر؛ ولهذا يتوجب أن نغير طريقة تفكيرنا نحو الخير دوما.
فالشر في نظر آرنت لا يعود سببه إلى الفاعل الذي تحول إلى مجرد وسيلة - آلة ميكانيكية - لتنفيذ سياسة عنصرية تقوم على الرفض وعلى معارضة الآخر ولا تعترف باقتسام الأرض مع من يستوطنها، إنه حالة غياب للاعتراف بالغير وغياب الإيمان بالتشارك مع الآخر. هذه السياسة التسلطية التي تقوم على القوة والعنف، لا يمكنها أن تؤسس لسلام ولفعل حر مبني على تفكير عقلاني لدوام الخير الأصلح للناس؛ لذا فالعنف لا ينجم عنه إلا عنف مضاد، وكان من المفروض ألا يحاكم إيخمان باعتباره مجرما قام بفعل لا أخلاقي، وإنما يتوجب الاعتراف أنه ليس مذنبا بقدر ذنب النظام السياسي النازي الذي يمثله، وهكذا كان يكفي أن يعترف أنه ارتكب جرما في حق الإنسانية وأنه يتوجب أن يحاكم بقانون آخر غير القانون الذي صار هو نفسه منبع الشر. (5) خامسا: الصفح بما هو حل لمشكلة الشر
تصر آرنت على أهمية الفعل وعلى القدرة التي تميز الإنسان بما هو كائن فاعل ومبدع وسياسي في الآن ذاته، فعلى الرغم من التصحر الذي يميز العصر الحديث بعد أن غزته الأنظمة التوتاليتارية، فإن للسياسة معنى: معنى السياسة هو الحرية،
36
ومهما حاول الفكر الفلسفي القديم والحديث على حد سواء أن يضع حدا فاصلا بين «الحياة التأملية» أو «حياة الفكر»، وبين «حياة الفعل» أو «الحياة النشيطة»، فإن ماهية الإنسان الحديث هو الفعل السياسي، ونحن لا نستطيع أن نحيا إلا بموجب هذه الماهية؛ لأن أزمة العالم الحديث - إلى جانب مسئولية التقنية والعقل الأداتي - تتمثل في انتشار العنف واستعمال القوة في كل مكان، إلى الحد الذي أصبح معه هذا العالم مجرد صحراء تزحف رمالها يوما عن يوم، ولكن رغم ذلك (تقول آرنت) فلا تزال وسط الصحراء واحات تقاوم، وستظل تقاوم شبح التصحر. لا يمكن للوحة القاتمة التي ترسمها آرنت أن تكون عائقا أمام البحث وراء المعاني التي تحددها هنا وهناك، فثمة بين نصوص آرنت العديدة شذرات أمل من أجل الرقي بالوضع البشري نحو الأفضل، فرغم أن العصر الحديث هو عصر العنف (ونحن نحوم في مجال يحيط به العنف من كل الجوانب) الذي عممته الثورات من جهة، والأنظمة الكليانية
37
من جهة أخرى، فإن من سمات الإنسان الحديث أنه يوجد بمعية الآخرين داخل العالم، وهو الأمر الذي جعلها تقترح لمواجهة الشر إمكانية الصفح، «إذ تتيح ملكة الصفح محو أفعال الماضي الذي تعلق أخطاؤه»
38
والحوار والإيمان بالتعدد والمغايرة، فالصفح وحده قادر على معرفة الذات والتقرب إلى الغير، وهي القيم التي لم تعد مقبولة في عالم التوتاليتارية، حيث الانتقام والجشع والانطواء على الذات هي ما يميز إنسان المجتمع التوتاليتاري؛ لذلك تقول: «يعتبر الصفح بحق نقيض الانتقام، الذي يتحدد فعله كرد فعل ضد عثرة أصلية من هنا، وبعيدا عن التمكن من وضع حد للآثار المترتبة على الخطأ الأول، يقوم بربط الناس بالسيرورة وترك رد الفعل المتسلسل، المتسمة أعماله بالضخامة، يواصل سيره بكامل الحرية ... إن الصفح، بعبارة أخرى، هو رد الفعل الوحيد الذي لا يقتصر على إعادة إنتاج الفعل، ولكنه يمارس فعله بطريقة جديدة ولا متوقعة، وغير مشروطة بالفعل الذي أنتجها، وهي التي تحرر بالتالي الصافح والمفصح عنه ...»
39
وتضيف: «لولا صفح الآخرين عنا، الذي به نتخلص من تبعات أعمالنا، لبدت قدرتنا على الفعل كما لو كانت حبيسة فعل واحد يلتصق بنا إلى الأبد، ولبقينا ضحايا عواقبه وآثاره، تماما مثل ساحر مبتدئ عاجز، في غياب الوصفة السحرية، عن إيقاف صنيعه أو التحكم فيه. ولولا التزامنا بالوعود، لكنا عاجزين عن الحفاظ على هوياتنا، ولكتب علينا أن نتوه بلا قوة ولا هدف، كل يهيم في ظلمات قلبه الوحيد، ويفرق في التباسات وتناقضات هذا القلب، ظلمات لا يبددها إلا النور الذي ينشره حضور الآخرين في المجال العمومي، بتأكيدهم هوية الإنسان الذي يعد، والإنسان الذي يفي بوعده.»
40
وها هنا تجد آرنت مدخلا آخر لمحاولة تجنب الشر: إنه الصفح كمقابل للانتقام، فإذا كانت النزعة الانتقامية بكل نتائجها السلبية تدخل في صلب الهوية، فإن الحل الأنسب لتحقيق انسجام بين الضحية والجلاد هو الصفح، كمبدأ يحقق التسامح كأعلى قيمة إنسانية، بدل أن تكون مجرد مبدأ أخلاقي متعال كما هو الحال عند كانط.
نعود من جديد إلى الشرط الإنساني، الذي يتماهى فيه الفعل السياسي بما هو جوهر الماهية الإنسانية، مع مختلف الأنشطة الإنسانية الأخرى داخل الفضاء العمومي؛ لأن الأنا المفكرة لا تعيش بمعزل عن العالم والآخرين، وداخل هذا الفضاء البينذاتي بتعبير هابرماس
Habermas ، هو حقل تجارب الوعي الجمعي. فهل يمكن أن يكون الصفح أداة لتجنب الجرائم التي ننسبها للشر؟ تبدو المقاربة الآرنتية لمسألة الصفح مقاربة مسيحية لا تتجاوز التصور الكانطي في «الدين في حدود مجرد العقل»،
41
فإذا كان المسيح هو النموذج الأعلى الحامل لكل صفات الإنسان الكامل، فإن صفة الصفح كقيمة إنسانية نبيلة لا نجد تأطيرها الفعلي كمبدأ محايث للشرط الإنساني إلا في الدين المسيحي كما تقول آرنت، إلا أن طابعه المسيحي هذا لا يلغي إمكانية علمنته؛ حيث تقول: «لقد كان المسيح وراء اكتشاف الدور الذي يلعبه الصفح في مجال الشئون الإنسانية. ولا يجوز التذرع بكون هذا الاكتشاف قد تم في سياق ديني وجرى التعبير عنه بلغة دينية، لكي لا نعامله بالجدية المطلوبة من منظور علماني صرف.»
42
يبدو أن الحل الآرنتي هنا هو حل قيمي-أخلاقي يتوخى الاستجابة لنداء الفلاسفة منذ سقراط، فلا حل لتناقضات العيش المشترك والتواجد معا في الفضاء العام إلا بالتحلي بالقيم النبيلة التي طالما نادت بها الإنسانية. وعلى الرغم مما يمكن أن يقال عن الصفح كأداة للتسامح والمصالحة، فإنها (أي كأداة وليس كقيمة)، تطرح العديد من المشكلات على المستوى العملي-السياسي: فهل يقبل الضحية بمصافحة الجلاد؟ وهل يقبل من قضى نصف حياته في معسكرات الاعتقال في الصحراء، التي لا معنى فيها للوجود، أن يقبل الصفح، وأن يسامح إيخمان ويتصالح معه؟ وحدهم، أي الضحايا، قادرون على أخذ القرار. نطرح هذا السؤال؛ لأن من أكبر المشكلات المطروحة في الألفية الجديدة هي إشكالية المصالح والتصالح في سبيل مجتمع متضامن ومتعاضد. ولربما تكون صرخة الفاعل السياسي-الحقوقي بجدوى قيمة الصفح شبيهة بصرخة الثيولوجي بالمغفرة.
Shafi da ba'a sani ba