ابتسمت ابتسامة لا تخلو من عتاب، وتراجعت على مهل حتى تلاشت. ولم أستسلم هذه المرة للحزن كما فعلت في عالمي الأول. وأشفقت من أن يصرفني الحزن عن العمل فضاعفت من اجتهادي وحماسي. ولم آبه لطول الطريق وكثرة مشكلاته. ولم أعد أخاف خيانة الزمن أو زحف الشيخوخة أو تهديد الموت. وإذا ببابي يدق مرة أخرى. توقعت بقلب خافق أن أرى وجهها، ولكن القادم كان رجلا جديدا غير المرشد الذي دلني على بيتي. قدم نفسه قائلا: أنا همزة الوصل بين هذا العالم والعالم القديم.
العالم القديم الذي نسيته تماما. وتطلعت إليه في تساؤل فقال: عطلت عملك، ولكنى أؤدي واجبي.
ثم بنبرة حيادية: ثمة من يناديك من أهل الأرض.
ماذا يريدون؟ وما شأني بهم؟ وكيف لا يدركون خطورة العمل الذي نكرس له حياتنا؟ وسألته: من الذي ينادي؟ - ابنك أحمد.
آه .. الذي غادر الدنيا وهو في بطن أمه. وخفق قلبي على رغمي، غير أني سألته: هل تنصحني بتلبية ندائه؟
فقال بحياد وأدب: لا شأن لي بذلك، اتخذ قرارك بنفسك.
نشب صراع في نفسي، ولكنني سرعان ما ملت إلى جانب مستسلما لهزيمة لم أتصورها من قبل. وهمست وأنا مثقل بشعور آثم: أرى أن ألبي النداء.
وفي الحال وجدتني أطلع على حجرة محكمة الإغلاق تسبح في شبه ظلام، تنبسط أمامي نصف دائرة من المقاعد يجلس فوقها نفر من الرجال بينهم ابني أحمد - عرفته ببصيرة داخلية - يتخذ مجلسه في الطرف الأيمن، على حين استلقى الوسيط على فراش يفصله عن الحاضرين ستارة شفافة. همست بنعومة: أحمد.
فانتفض قائلا: أبي؟! - نعم، أنا أبوك.
فسأل باهتمام ساخن: كيف حالك يا أبي؟ - الحمد لله. - كيف تجري الحياة عندكم؟ - لا لغة مشتركة تقرب واقعنا إليك، ولكن كل شيء حسن.
Shafi da ba'a sani ba