وقام رجل وهو يقول: قلبي يحدثني ...
ولم يتم كلامه، وأشار بيده إشارة غامضة ثم ذهب، وشجع ذهابه المترددين فتسللوا واحدا في إثر واحد، وسرت مع صاحبي ونحن من القلق في نهاية. وقال صاحبي: رأسي يدور فبالله حدثني عما حدث؟
فقلت بنفاد صبر: ما حدث قد حدث، ولكن ماذا عما لم يحدث بعد؟!
المرة القادمة
توثبنا للعمل من قبل أن تطلع الشمس. وتألقت الأعين بالنشاط والحماس والأمل. وقلت بحزم ومحبة معا: إنه يوم الامتحان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
وبهمة عالية تناول كل فرد من أسرتنا مكنسته، وراح يكنس حجرته بعناية وأمانة. ومماشي الحديقة الصغيرة كنسناها وغسلناها أيضا، وشذبنا الأشجار فنزعنا منها كل ورقة جافة. وأخذنا المنافض وجعلنا نجلو المقاعد والستائر والأخونة والنوافذ والمصابيح والتحف، حتى لمع كل شيء وابتسم. ورششنا الجو بالنفاثات العطرية فانتشرت روائح الورد والبنفسج والقرنفل في الحجرات. ونظمنا الورد في الأصص، وأعددنا الصواني والآنية؛ فتجلى البيت كأنه متحف قبل أن ينتصف النهار. وهرعنا إلى المطبخ ليقدم كل ما يملك من معونة. اختصت ربة البيت بالطهي، ولكن بقي لنا مجال في غسل الخضر وتقشير البطاطس والبصل ونقع اللحوم وصنع السلطات وغسل الفاكهة. فعلنا كل شيء ونحن من السرور في نهاية، وتناولنا غداء خفيفا في المطبخ. واسترحنا ساعة بين النوم والاسترخاء. وأقبلنا على الحمام تباعا وفي مقدمتنا الإناث. تطهرنا ولبسنا ثيابنا الجديدة، ومشطنا شعورنا وتطيبنا، وصرنا في أحسن تكوين. وكان جو الربيع نقيا لطيفا، فتجمعنا في الحديقة وفتحنا الباب على مصراعيه وانتظرنا. وربما ساور ربة البيت هاجس قلق فتمضي إلى الداخل لتلقي نظرة ناقدة على الأشياء، ولتطمئن إلى كمالها. وأكثر من صوت قال: ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وعلى سبيل الترشيد قلت: عندما تصل السيارة أهرع أنا وأمكم إلى الباب لنكون في شرف الاستقبال، أما أنتم فتصطفون في نظام الجنود وأدب السفراء، ثم نقدمكم واحدة فواحدة وواحدا فواحدا، ولينطق كل بما حفظ عن ظهر قلب في أدب وخشوع وامتثال.
وقالت الأم: سنسير بين يدي سيادته حتى مجلسه في صدر الثوي، نظل واقفين حتى يشير إلينا بالجلوس فيتخذ كل مجلسه، سيلقي أبوكم كلمة موجزة للترحيب، وإذا وجه إلى أحدكم سؤال فليجب بالحياء الواجب وبالقدر الملائم، وإن جاد علينا بملحة؛ فالابتسامة أولى بنا من الضحكة .
وقلت: لن أذكركم بآداب المائدة، ولا تنسوا ما زودنا به أنفسنا من معلومات إن خطر لسيادته أن يختبرنا!
وقالت الأم: وحذار أن تتجاوزوا حدود الأدب إذا شاء أن يتبسط معنا في السمر، أو رأى أن يخص أحدنا بتأنيب أو زجر .. وعلينا أن نصدع بما يأمر دون تردد أو حذر.
Shafi da ba'a sani ba