نظر في مذكرته ليراجع رءوس المسائل المطلوب إنجازها؛ هالته كثرتها، كلما ألقى عليها نظرة غبط من يستخدمون السكرتيرين؛ لإنجاز الأعمال. ولكن موارده لا تسمح بهذا الترف. ارتدى بدلته ليزور ابنته بعد انقطاع طال في غمرة شواغله، ولما اقترب من باب الخروج رن الجرس، فعجب للطارق على غير موعد في هذه الساعة من الغروب. خاف أن يشغله عن زيارة ابنته التي تنتظره للعشاء، فمضى بخفة نحو العين السحرية ونظر فرأى وجهه واضحا تحت ضوء السلم. انقبض صدره انقباضا ثقيلا، فتراجع إلى الصالة بنفس الخفة التي جاءه بها، عاقد العزم على إهماله، حتى يعتقد أن الشقة خالية فيذهب إلى حال سبيله. آخر من يود أن يلقاه وهو يعلم أن لقياه يعني اختلال المواعيد وانقلاب الموازين. الجرس يرن، ينقطع وقتا ثم يعود إلى الرنين، متى يسلم بأن الشقة خالية؟ سيسأل البواب، سيقول البواب إنه في الداخل، أو إنه خرج دون أن ينتبه إليه. الجرس مستمر معلنا تصميم صاحبه وعناده. ولكنه سيصمت عاجلا أو آجلا. وانتقل إلى حجرة المكتب المطلة على مدخل العمارة، وقف في الظلام وراء خصاص نافذة؛ ليراه عند ذهابه يائسا. لاذ بالصبر حتى سكت الرنين تماما. لم يشهد خروجه ولكن يحتمل أنه غاب في زحمة الطريق. ذهب على أطراف أصابعه إلى العين السحرية ونظر، وخنقه الغيظ أن يراه واقفا في هدوء. ماذا ينتظر؟! ولم كف عن دق الجرس؟ هل شك فيه فتلفع بالصمت ليوقعه؟ ورجع إلى حجرة المكتب وهو من الحنق في نهاية. وطلب ابنته بالتليفون. - آلو. - أنا والدك. - ما زلت في البيت؟! - صاحبنا واقف أمام الباب. - أعوذ بالله! - سأتركه حتى ييأس، ربما تأخرت قليلا. - أنا منتظراك ومعي الأولاد. - إلى اللقاء يا حبيبتي.
وقف وراء الخصاص يراقب الطريق. ولم يطل انتظاره هذه المرة. رآه يغادر العمارة ويتوارى في الشارع الجانبي. تلقى دفقة منعشة من الارتياح والسرور، وتريث دقائق ليطمئن إلى ابتعاده تماما عن مجال تحركه، ومضى إلى الباب ففتحه، وإذا به يجده واقفا ينتظر في صبر وتصميم. ذهل! أدرك من فوره أنه خدعه وغلبه، وتمالك نفسه متظاهرا بالدهشة. وتمتم: أهلا.
تساءل الآخر وهو يدخل قبل أن يؤذن له: ألم تسمع الجرس؟ - أبدا، قمت من النوم متأخرا فهرعت إلى الحمام، ثم ارتديت ملابسي بسرعة لموعد مهم. آسف!
قال القادم: أزف الوقت، حسن أن أصادفك مستعدا. ولكن عليك أن تغير رباط الرقبة.
فقال باهتمام: ابنتي تنتظرني الآن. - مهمتنا لا تقبل التأجيل.
ارتبك، في الوقت نفسه تنبه إلى وقوفهما في المدخل، فقال: لا مؤاخذة .. تفضل بالجلوس في الداخل. - لا وقت لذلك يا عزيزي. - لكنها مفاجأة غير مسبوقة بميعاد. - من المتفق عليه أن أحضر في الوقت المناسب دون ميعاد. - يوجد أكثر من وسيلة لتنبيهي. - أنت أول من يعلم بشواغلي التي لا تترك لي فراغا.
فتساءل برجاء: ألا يمكن أن نؤجل المشوار للصباح؟ - حقا إني أبدو فظا، ولكن الأمر ليس بيدي كما تعلم. - البنت كبيرة الرجاء في أن ينهي محضري الحل المناسب لمشكلة طارئة. - يا سيدي، الفرص لا تنقطع وما أكثر المشكلات التي تحل بلا حلال.
فقال برجاء أخير: لا شك أنك تعلم بمدى احترامي لك. - علم الله أنها عاطفة متبادلة ولكن العمل لا يرحم، فضلا عن أنه ينجز لصالح الجميع. - طيب، جاري أنت تعرفه طبعا، مشكلتنا واحدة، يمكن أن يحل محلي اليوم. - لا .. لا .. لا .. دوره أبعد مما تتصور. - هل يتغير نظام الكون إن لم نذهب هذا المساء؟ - بل في هذه الساعة أيضا! - إنك تحب النظام لحد الإدمان، ولكن الحياة تتطلب المرونة أحيانا. - إني أعرف واجبي تماما. - ألا ترى أنها مفاجأة لم أستعد لها؟ - مفاجأة! حسبتك تتوقعها في أي لحظة.
هموم الحياة تنسي: مثلك في الضغوط، ولكنني بفضل الله لا أنسى. - كل شيء يتغير إلاك. - أحمد الله على ذلك.
رد قائلا: يا لها من مأساة! - إنها أطيب فرصة تسنح. - أتسخر مني؟ - السخرية لا تتفق مع عملي! وفضلا عن ذلك، فأنا أعرف أنك مقتنع بما نفعل.
Shafi da ba'a sani ba