فقال نوح: لا ... قد ترتد إلى التسول بأسرع مما تتصور.
وقال عثمان المحامي: فلنؤجل ذلك إلى حين.
فقال عصام البقلي: مسألة المرأة غير قابلة للتأجيل، هي أهم من البدلة الجاهزة. - الفرص كثيرة والملاهي أكثر من الهم على القلب. - حاجتي إليكما في هذا الطريق أشد. - ولكنا ودعنا زمن العربدة منذ أجيال. - وكيف أسير وحدي؟ - من ترافقه النقود لا يعرف الوحدة.
وقال السيد نوح: لنا جلسة أخرى فيما بعد للتفكير في استثمار الثروة، فمن الحكمة أن تنفق من الريع لا من رأس المال.
فقال البقلي محتجا: تذكر أنني في السبعين وبلا وريث! - ولو!
فقال المحامي: المهم أن نبدأ.
وعندما اجتمعوا مساء تبدى عصام البقلي في بشرة جديدة وبدلة جديدة، تلاشت القذارة ولكن بقيت تعاسة الكبر والبؤس القديم. وقال المحامي ضاحكا: فالنتينو ورب الكعبة!
ولما كان الأستاذ عثمان القلة على مودة وتعامل مع مدير فندق النيل؛ فقد استأجر له حجرة ممتازة بالفندق، وسرعان ما دعاهما البقلي للعشاء على مائدته، ودارت كئوس قليلة لفتح الشهية، وجلسوا معا بعد العشاء يخططون للقاء الغد، وأوصلهما حتى سيارة السيد نوح، ولكنه لم يرجع إلى الفندق. استقل تاكسي إلى شارع محمد علي، ومضى من توه إلى محل الكوارع المعروف. لم يعترف بذلك العشاء المرهف فاعتبره فاتحا للشهية، وطلب فتة ولحمة راس وأكل حتى استوفى المزاج، وغادر المحل ليرمرم ما بين البسيمة والكنافة والبسبوسة، وكأنما أصابه جنون الطعام، وعاد إلى الفندق قبيل منتصف الليل، وقد سكر بالطعام حتى كاد يفقد الوعي، وأغلق حجرته وثقل غير متوقع يزحف على روحه وأعضائه. خلع الجاكتة بمنتهى العناء ثم عجز عن الإتيان بأي حركة؛ استلقى فوق الفراش بالبنطلون والحذاء وحتى النور لم يطفئه. ماذا يجثم فوق بطنه وصدره وقلبه وروحه؟ ماذا يكتم أنفاسه؟ من يقبض على عنقه؟ يفكر أن يستغيث، أن ينادي أحدا، أن يبحث عن موضع الجرس، أن يستعمل التليفون، ولكنه عاجز تماما عن أي حركة. كبلت يداه وقدماه واختفى صوته. يوجد علاج، يوجد إسعاف، ولكن كيف السبيل إليهما؟ ما هذه الحال الغريبة التي تستل من الإنسان كل إرادة وكل قدرة وتتركه عدما في عدم؟ آه، إنه الموت، الموت يتقدم بلا مدافع ولا مقاوم، ونادى بخواطره المحمومة المدير .. نوح .. عثمان .. الثروة .. العروس .. المرأة .. الحلم .. لا شيء يريد أن يستجيب. لم كانت المعجزة إذن؟ .. غير معقول .. غير معقول يا رب!
النشوة في نوفمبر
لدى خروجه من مملكة النوم الغامضة تلقى وحدته، أمس والآن وربما غدا. بلورة الوعي المتثائب. وطاف حنينه بأجواء غريبة حبيبة، الولد في بلجيكا والبنت في سنغافورة، ورفيقة العمر تحت الثرى. لكنه يستقبل الصباح الباكر بارتياح وبشر. نوفمبر ذو برودة حانية، يغادر الفراش، يتناول الروب من فوق المشجب ويلتف به، ثم يذهب إلى حجرة السفرة؛ ليجد الشاي والجبن والشهد والتوست المحمص في انتظاره على أحسن صورة.
Shafi da ba'a sani ba