فابتسم العجوز قائلا: كلا، تلقيت لكمة قاضية ولكنني نهضت مترنحا قبل أن يبلغ الحكم في عده رقم عشرة، وبإرادة من صلب استخلصت الرغبة في النجاح والتفوق من حومة المأساة. كان نضالا هائلا. بين الألم والعمل، وعلى ضوئه تكشف لي جوهر عزيمتي لا يهزم ولا يستسلم. - مرة أخرى، برافو!
ولم أكد أستقر في وظيفتي حتى صممت على الزواج، مؤثرا هذه المرة السبيل التقليدي المعروف، أو الذي كان معروفا على أيامنا، وتم كل شيء بحمد الله وفضله. - ونسيت الحب وأيامه؟! - ليس تماما، ربما بقيت منه رواسب معاندة كرائحة الوردة الذابلة، ولكني عايشت تجربة الزواج بكل أبعادها، وبنجاح أيضا. أأنت متزوج؟ عظيم! حقا يوجد فارق كبير في السن ولكن الزواج هو الزواج، بمودته ونقاره، وأنغامه المنسجمة والنشاز، والرضا والغضب، والذرية ومسراتها ومتاعبها، وعند الحساب الختامي تجد أنه لا غنى لطرف عن الآخر، ماذا تريد أكثر من ذلك تعريفا للزواج الموفق؟! بل من يضمن لي أنني كنت سأوفق مع الأولى كما وفقت مع الأخرى؟!
فضحك الأستاذ قائلا: خفيف الروح بقدر ما أنت حكيم!
وصمت العجوز قليلا ثم واصل: لعلي لم أبرأ تماما حتى اليوم من فقد ابنين، ولكني أثبت صمودي أمام الموت نفسه! أنجبت خمسة أولاد مات منهم اثنان، الأول في وباء الكوليرا والثاني في حمام السباحة. تهدم بنيان زوجتي، وحنقت على صمودي. الصابر المتصبر متهم في هذا البلد. قيل عنى إني غليظ القلب وإني منهمك في عملي للدرجة التي تنسيني ما عداه. هذا خطأ. إني أعرف الحزن والألم، ولكني لا أعاند المقادر. وأرى أن أكبر عار في هذه الدنيا هو عار الهزيمة. - هذا ما نتمناه ونعجز عنه.
وتهلل وجهه الضامر دالا على أنه ما زال محبا للثناء وقال: وكما طعنت أبوتي طعن طموحي. إني رجل مخضرم، لم أكن مهندسا ناجحا فحسب، ولكنني كنت أيضا ذا انتماء سياسي معروف، وآمال وطنية مترامية. وظفرت في انتخابات 1950 بعضوية مجلس النواب، وتنبأ لي كثيرون بالوزارة. وإذا بثورة يوليو تقوم على غير توقع مني، وطويت الأرض التي كنت أقف فوقها مثل المسلة، وقذفت بأحب الرجال إلى قلبي إلى مجاهل النسيان وأعماق السجون. أصابني من الأذى شيء قليل ولكني وجدت نفسي لأول مرة متهما معزولا. وقبعت في كهف الضياع زمنا ولكني لم أستسلم، كما أني لم أنطح الصخر. وتذكرت انتصاراتي السابقة؛ لأستمد منها الشجاعة، وقررت أن أكرس حياتي للعلم والعمل، ففتحت مكتبي الهندسي، وكان من أمري ما تعلم مما أشرت إليه في عمودك اليومي. - بعض رجال الثورة أنفسهم لم يكتموا إعجابهم بك. - ولم تخل حياتي الجديدة من هزائم وانتصارات كالعادة. زوجتي اضمحلت وماتت، وعقب هزيمة 5 يونيو، اجتاح الزلزال أبنائي الثلاثة، ففقدوا انتماءهم وثقتهم في كل شيء ، وهاجروا واحدا في إثر واحد إلى الولايات المتحدة، ووجدت نفسي غريبا كما كنت في البداية! - الهجرة تيار جامح لا ذنب عليك فيه. - ولكن توجد حقيقة مرة لا يجوز أن نغفلها، وهي أننا لم نكن على المستوى المنشود حيال الهزيمة كما كنا حيال النصر، وحاولت أن أغريهم بالرجوع بعد أن تغير المناخ العام كثيرا ولكنهم أبوا ذلك بشدة. - من المحزن أن أفضلنا هم من يهاجرون. - واعتزلت العمل بحكم الشيخوخة؛ لأعاشر وحدتي حتى النهاية.
فقال الأستاذ باسما: إذن فكلمتي لم تخل من حقيقة.
فقال باسما بدوره: ولكنني لم أستسلم للوحدة.
فرفع الأستاذ حاجبيه فوق حافتي نظارته لائذا بالصمت، فواصل الآخر: عقدت العزم على الانتصار حتى النهاية، أن أنتصر على الكآبة كما انتصرت على الموت والثورة، ما زلت قادرا على تذوق الأشياء الجميلة! - مثل ماذا؟ - المشي، الموسيقى، الكرواسان بالحليب، التأمل تأهبا للمغامرة الأخيرة!
فقال الأستاذ مقهقها: إنك صلب عنيد. - أتراني الآن مستحقا للرثاء كما كتبت؟!
فقال الأستاذ بهدوء: اقرأ عمود الغد؛ لتعرف رأيي النهائي فيك.
Shafi da ba'a sani ba