واستمرت هذه المدرسة قائمة تتلقى العلم فيها طبقة عن طبقة، ويطول بنا القول لو عددنا مشهوري العلماء من كل طبقة وترجمة حياتهم، غير أنا نذكر هنا أنه كان من مشهوري الطبقة الخامسة سفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد الزنجي، وكلاهما كان من الموالي، وعليهما أخذ الإمام الشافعي القرشي علمه - في نشأته الأولى - فقد ولد بغزة، ثم حملته أمه صغيرا إلى مكة فتعلم الأدب في باديتها، يحفظ الأشعار ويتعلم اللغة، ثم نشأ في مدرستها يأخذ الحديث والفقه عمن ذكرنا من علمائها، ولما قارب العشرين من عمره تحول إلى المدينة يتم فيها دراسته.
مدرسة المدينة:
قلت: إن مدرسة المدينة كانت أكثرها علما وأوفرها شهرة، وأبنت السبب في ذلك، وقد اشتهر فيها كثير من الصحابة العلماء كعمر وعلي؛ ولكن أشهر من امتاز بالعلم فيها وتخصص للحياة العلمية وكثر بها أصحابه وتلاميذه زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ولكن كلاهما يختلف في منحاه العلمي عن الآخر؛ فزيد بن ثابت أنصاري صحب النبي
صلى الله عليه وسلم
منذ صباه، وتعلم السريانية والعبرية، ولكن لا ندري إلى أي حد كان مثقفا بثقافتهما، فهم يحدثوننا أنه تعلم اليهودية في نصف شهر والسريانية في سبعة عشر يوما، وهي أيام قليلة لا تكفي لحذق لغة والقدرة على تفهم آدابها؛ فهل استمر يتعلم حتى نال قسطا من آداب اللغتين؟ ذلك ما لا ندري، كان ضليعا في فهم تعاليم الإسلام، وله القدرة الفائقة على استخراج الأحكام من الكتاب والسنة، ومن الرأي - إذا لم يكن كتاب ولا سنة - حتى قال سليمان بن يسار: «ما كان عمر ولا عثمان يقدمان على زيد بن ثابت أحدا في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة»، وقال القاسم: «كان عمر يستخلف زيد بن ثابت في كل سفر يسافره، وكان يفرق الناس في البلدان ... ويطلب إليه الرجال المسمون (النابهون) فيقال له زيد بن ثابت، فيقول: لم يسقط على مكان زيد، ولكن أهل البلد يحتاجون إلى زيد فيما يجدون عنده فيما يحدث لهم ما لا يجدون عند غيره»؛ وقال قبيصة: «كان زيد بن ثابت مترئسا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض في عهد عمر وعثمان وعلي في مقامه بالمدينة وبعد ذلك خمس سنين حتى ولي معاوية سنة 40ه، فكان كذلك أيضا حتى توفي زيد سنة 45»، وكان ابن عباس يأخذ بركابه ويقول: «هكذا يفعل بالعلماء والكبراء» وكان ذا عقل رياضي فكان أعلم الناس بالفرائض (المواريث وتقسيمها)، وولي قسمة الغنائم في اليرموك، وعلى الجملة فكان عالما وفقيها معا، أعني واسع الاطلاع، قادرا على استنباط المعاني، ذا رأي فيما لم يرد فيه أثر، ويروى أن حسان بن ثابت رثاه فقال:
فمن للقوافي بعد حسان وابنه
ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت
وهذه «المعاني» التي وردت في هذا البيت هي الميزة التي امتاز بها عن عبد الله بن عمر، فقد كان عبد الله عالما فقط؛ يجمع الأحاديث ويرويها ويكتبها ويتحرج من الفتوى وإبداء الرأي، وهما نزعتان ظلتا تسيران جنبا إلى جنب عهدا طويلا كما سيأتي بيانه.
على هؤلاء العلماء من الصحابة في المدينة تخرج كثير من علماء التابعين، من أشهرهم سعيد بن المسيب - وكان من تلاميذ زيد بن ثابت يحفظ قضاياه وفتاويه، ويفضل قوله على قول غيره - وعروة بن الزبير بن العوام وكان من أعلم أهل المدينة وأورعهم وعن هذه الطبقة أخذ ابن شهاب الزهري القرشي، وقد حفظ فقه علماء المدينة وحديثهم، وكان من أسبق العلماء إلى تدوين العلم، واتصل بكثير من خلفاء بني أمية، وكان موضع احترامهم، كعبد الله بن مروان وهشام، واستقضاه يزيد بن عبد الملك، وقال فيه عمر بن عبد العزيز: «إنكم لا تجدون أعلم بالسنة الماضية منه».
وأخيرا أنجبت هذه المدرسة مالك بن أنس إمام دار الهجرة. •••
Shafi da ba'a sani ba