وأما «أوزير» فإنه ظهر بعد ذلك العهد بألف سنة قاضيا خلقيا عظيما في الحياة الآخرة، على إثر اعتباره المدعي المنتصر في محاكمة عين شمس وحامي الأموات الذي تغلب على كل أعدائه. على أن اغتصاب «أوزير» لهذه المكانة يعد دليلا آخر على التطور الذي لم يكن في الإمكان مقاومته في صبغ الديانة المصرية القديمة بالصبغة الأوزيرية، وإلى هذه الأحداث التي جاءت متأخرة، والتي استقى منها العلماء الأحداث آراءهم، يرجع السبب في النتيجة الشائعة القائلة بسيادة «أوزير» الخلقية من عهد بعيد، وعلى أية حال فإن أقدمية المذهب الشمسي واضحة تماما في هذا الموضوع كما هي واضحة في تفاصيل أخرى.
على أن هذه المطامح الخلقية المبكرة كانت لها حدودها؛ إذ لا ننسى أننا نتناول البحث في عصر مضى عليه الآن ما بين 55، 45 قرنا من الزمان. وقد رأينا أن أهم الانتصارات التي قام بها الإنسان في ذلك العصر القديم كانت في منازلة القوى المادية، وقد خرج منها خروج الظافر الغالب، في حين أن الإنسان القديم وهو في وسط طائفة من الارتباكات ذات المؤثرات المضللة قد أخذ يرى قبسا صغيرا من القيم الجديدة التي تسمو فوق الأعمال المادية المجردة.
ولا نزاع في أن سيطرة «ماعت» بقيت في جملتها المثل السامي في نظر الحكماء، ولكن الفساد في الجهات الرسمية جعلت تحقيقه أمرا مستحيلا، شأنه في ذلك شأن الفساد الذي لا يزال للآن العقبة القائمة في وجه العدالة عند الحكومات الشرقية إلى أيامنا هذه.
11
فيجب ألا نتخيل إذن أن الواجبات التي كان يفرضها ذلك التصور الخلقي كانت شاملة عامة، أو أنه كان في مقدوره أن يشمل كل ما ندركه نحن في معناه من الصفات؛ فمثلا نجد أن مستلزمات القاضي العظيم في عالم الآخرة كانت لا تتناقض مع أفظع الملاذ الشهوانية؛ إذ لم تكن تلك اللذات الشهوانية المباحة في عالم الآخرة مقصورة على ما صورته لنا متون الأهرام، بل نص على الطرق الفعلية التي يحصل بها إشباع تلك الشهوات؛ ولذلك كان يؤكد للملك المتوفى حيازته على اللذة البهيمية في أشنع معانيها؛ من ذلك ما جاء في بعض النقوش من: «أنه هو الرجل الذي يغتصب النساء من أزواجهن من أين شاء وحينما يشتهي قلبه.»
ومهما يكن من أمر فإن نشأة الاعتقاد بأن النعيم في جميع صوره يتوقف على ما للإنسان من الصفات الخلقية في الحياة الدنيا، تعد من الخطوات الخطيرة، ولا بد أن يكون الشعور القوي بالوازع الخلقي هو الذي جعل الفرعون نفسه، المقدس المعتبر فوق كل قانون أرضي، معرضا للحضور أمام ذلك القاضي السماوي، ومكلفا بأن يتزود لذلك بالزاد الخلقي. وهذه الخطوة لا يمكن الوصول إليها طفرة واحدة، ومن الممكن أن نرى حتى في مدة القرن ونصف القرن التي شغلتها عصر متون الأهرام بعض أثر التقدم في الشعور الخلقي، وهو يشمل بأحكامه الشديدة حتى الملك نفسه؛ فنجد مثلا في فقرة من متون الأهرام البيان التالي عن الملك: «إن هذا الملك «بيبي» بريء.» وقد حدث أن تلك الفقرة التي وردت بها هذه العبارة قد وجدت بصورة مختلفة في نقوش هرمي «وناس» و«تيتي»، وكانا ملكين حكما قبل «بيبي». ففي كل من النصين المعدلين لا نجد ذكرا لعبارة البراءة، وينتج من ذلك أنه بعد مضي مدة تترواح بين الستين والثمانين سنة رأى كاتبو تلك المتون أن إضافتها من الصواب فأضافوها.
على أنه ليس من السهل أن يقرأ الإنسان تقدم شعب ما ورقيه الروحي والعقلي في آثار هي قبل كل شيء مادية، كما لو كان يقرؤها في الوثائق الأدبية؛ إذ من السهل أن يضل الإنسان ويخطئ في ترجمة تلك الإشارات الضئيلة التي تمدنا بها تلك الآثار المادية المحضة. والواقع أن هذه الآثار تخفي وراءها طائفة من القوى الإنسانية والتفكير البشري لا يمكننا الاهتداء إلى معظمها، ومع ذلك فإنه يكاد يكون مستحيلا على الإنسان أن يتأمل مقابر ملوك الأسرة الرابعة الهائلة المعروفة بأهرام الجيزة، ثم يوازنها بالمقابر الملكية الصغيرة التي أقامها ملوك الأسرتين التاليتين بعدها دون أن يرى وراء هذا التغيير المفاجئ والمدهش معا أسبابا فوق الأسباب السياسية المحضة، فأهرام الجيزة العظيمة - كما قلنا من قبل - تمثل حرب القوى المادية الهائلة بغية الوصول بالعوامل المادية المحضة إلى تخليد جثمان الملك المادي بإحاطته بغطاء هائل من المباني ليس في الإمكان اختراقه حتى يحفظ فيه إلى الأبد مع كل ما كان يربط روح الملك بالحياة المادية قبل الموت. ومع أن أهرامات الجيزة العظيمة تدل بعظمتها على أنها أكبر شاهد باق ينطق بظهور أقدم إنسان منظم، وبانتصار الجهود المتضافرة، فإنها في الوقت نفسه برهان صامت يعبر تعبيرا فصيحا عن محاولة الإنسان الحصول على نعيم مقيم خالد بالقوة المادية المحضة.
ولم يكن من الممكن لمثل ذلك النضال الهائل ضد قوى التحلل والفناء أن يستمر في طريقه إلى غير نهاية، وذلك لأسباب طبيعية محضة انضمت إليها اتجاهات سياسية أيضا، ولكن مع كل هذه الأسباب مجتمعة فإن مجرد إدخال متون الأهرام في المقابر الملكية خلال القرن ونصف القرن الأخير من عصر الأهرام كان على وجه التقريب في حد ذاته تخليا عن ذلك الصراع الهائل المعتمد على القوى المادية والتجاء ظاهرا إلى عوامل أخرى أقل ظهورا من ذلك. كما أن الاعتراف بالحساب في الآخرة وبحاجة الإنسان إلى قيم خلقية يتصف بها في الحياة الآخرة يعد في الواقع أعظم من ذلك أهمية في نفس هذا الاتجاه، فهذه الخطوة تعلم لنا التحول من الارتكان على العوامل الظاهرية الخارجة عن شخصية المتوفى إلى الاعتماد على القيم النفسية الباطنة، وبذلك بزغ فجر عقيدة خلود الروح لأول مرة على عقول البشر، باعتبار الأبدية أمرا يحصل عليه الإنسان بالروح لا بالجثمان.
وقد كان ذلك فاتحة عهد انتقال من المزايا المادية الظاهرة إلى الصفات الروحية الباطنة؛ ولذلك كان أيضا خطوة من الخطوات الهامة التي كنا نترقبها في ذلك المنهج الطويل، وهي ابتداء ظهور الشخصية المستقلة بعد أن كان كل شيء ينسب إلى جملة الشعب؛ أي إن فجر ظهور كفاية الشخصيات الفردية وتفوقها قد طلع على عقول أولئك الناس الذين عاشوا في ذلك العالم القديم، وصارت مثلهم العليا تنتمي إلى أخلاق أكبر الآلهة عندهم، كما اعتبر ملك ذلك الإله عالما خلقيا عظيما يتولى الملك في الأرض إدارته وتدبير أموره نائبا عن الإله لفائدة الأمة المصرية.
بذلك الفوز السامي القويم تم هذا التطور الذي أحرزه عصر ألف السنة التي بدأت مع بداية الاتحاد الثاني وانتهت بعد حلول سنة 2500ق.م بقليل.
Shafi da ba'a sani ba