وليس لدينا شك في أن الغرض من تلك المتون الجنازية كلها هو لمصلحة الملك، بل هي بوجه عام تحتوي على معتقدات لا تنطبق إلا عليه وحده، وبخاصة عندما نذكر أنها لم تكتب إلا في المقابر الملكية فقط. فمن الحقائق الهامة التي يجب التنبيه عليها أن رجال أشراف ذلك العصر لم يستعملوا أبدا متون الأهرام في نقوش مقابرهم.
ولما لم يكن في مقدور متون الأهرام زعزعة العقيدة السائدة في وجود الحياة في القبور، فإنها لم تعر هذا الرأي اهتماما كبيرا، بل وجهت جميع همها تقريبا إلى حياة في نعيم تقع في مملكة بعيدة. ومما يستحق الذكر والاهتمام أن تلك المملكة البعيدة لا يراد بها إلا «السماء»، وأن متون الأهرام لا تعرف شيئا تقريبا عن الحياة الأخروية المظلمة التي توجد في العالم السفلي؛ ولذلك فإن عالم الأموات عندهم لا يراد به إلا «العالم السماوي»، ونحن في التعبير عنه بهذه الصيغة لا نعبر عن أي معنى من معاني كلمة السماء اللاهوتية المتكررة في اللغة الإنجليزية . على أنه لا يكاد يوجد عندنا شك في أن فكرة تصور جنة سماية - وهي تلك الفكرة التي شاعت فيما بعد في العهد المسيحي - يرجع أصلها إلى نفس هذا الاعتقاد المصري القديم المتوغل في القدم.
وقد اختلط في تلك الآخرة السماوية المذكورة في متون الأهرام مذهبان قديمان: أولهما يتصور المتوفى في صورة نجم، والثاني يتصور المتوفى حالا في إله الشمس، أو هو إله الشمس نفسه. وبدهي أن هذين المذهبين اللذين يمكن تسميتهما: بالآخرة النجمية والآخرة الشمسية على التوالي كانا في وقت ما مستقلين، ثم دخل كل منهما في شكل «آخرة سماوية» هي التي نجدها في متون الأهرام. ولقد كان من التصورات الطبيعية عند ساكن وادي النيل ذي السماء الصافية أن يرى في سماء مصر ليلا جموع أولئك الذين سبقوه إلى الحياة الأخروية ماثلين أمامه، فقد طاروا إلى السماء كالطيور مرتفعين فوق كل أعداء الهواء، فكانوا عند حلول الظلام في كل ليلة يجتازون أقطار السماء بصفتهم نجوما أبدية. وخص المصري، في تخيله جمهور الموتى، تلك النجوم التي تسمى «غير الفانية»، وكان يعتقد أن تلك النجوم تقع في الجهة الشمالية من السماء، ولذلك لا يكاد يوجد شك في أن النجوم المقصودة بالذكر هي النجوم المحيطة بالقطب التي لا تغرب ولا تغيب. وقد قام جدال كبير بين علماء التاريخ القديم عن سر اتجاه ممر مدخل الهرم المنحدر شطر النجمة القطبية، ثم بينت نقوش متون الأهرام السر في هذا الاتجاه الذي لم يهتد إليه أحد قبل ذلك؛ وهو أن روح الملك عندما تخرج من ذلك الممر يحملها هذا الاتجاه فورا نحو النجوم القطبية.
ومع أن المذهبين المذكورين؛ النجمي والشمسي، يوجدان معا جنبا لجنب في متون الأهرام، فإننا نجد أن المذهب الشمسي هو السائد فيها بدرجة عظيمة حتى يصح لنا بوجه عام أن نصف متون الأهرام بأنها شمسية الأصل. ومن المحتمل أن الاعتقاد بالمصير الشمسي قد نشأ في عقيدة قدماء المصريين عن طريق شروق الشمس ثانية كل يوم بعد غروبها، فكأن الموت إنما يحدث على الأرض ، أما الحياة فتكتسب في السماء فقط، وهو المكان الأعلى الذي يرفع إليه الملك فوق المكان المحتوم الذي يصير إليه عامة البشر، «الناس يفنون وأسماؤهم تمحى، فأمسك أنت بذراع الملك «تيتي» وخذ أنت الملك تيتي إلى السماء حتى لا يموت على الأرض بين الناس.»
وتلك الفكرة القائلة بأن الحياة توجد في السماء هي الرأي السائد، وهي أقدم بكثير من المذهب الأوزيري في متون الأهرام. وقد بلغ هذا الرأي درجة من القوة جعلت نفس «أوزير» يمنح بضرورة الحال آخرة سماوية شمسية، وكان ذلك في المرحلة الثانية التي دخلت فيها أسطورته في متون الأهرام. والموضوع الهام في متون الأهرام هو تطلع المتوفى لحياة أخروية فاخرة في حضرة إله الشمس، حتى إن نفس القبر الملكي قد اتخذ من أقدس شكل يرمز به إلى إله الشمس، كما أوضحنا ذلك فيما سبق.
وقد عمد لاهوت الحكومة الذي جعل الملك الابن المجسم للإله «رع» وممثله على الأرض، إلى تصوير الملك يسبح في السماء عند الموت ليسكن مع والده إلى الأبد، أو ليحل محله ويكون خلفه في السماء كما كان خليفته في الأرض. وعلى ذلك نجد أن الآخرة الشمسية هي في الواقع المصير الملكي، ولا يحظى به إلا فرعون وحده، ثم صار ذلك المصير فيما بعد بالتدريج حقا لسائر البشر يشاركونه فيه. غير أنه لم يكن في الإمكان - كما سنرى - إعطاء ذلك الحق لهم إلا بعد أن يتصف كل مطالب بذلك المصير بالصفة الملكية أيضا.
وبانتقال الفرعون إلى تلك المملكة العتيدة التي مقرها في السماء [بالرغم من عدم انسجام الآراء الخاصة بموقفه هناك] كان يدعى للقيام بعملية تطهير فرضتها وأكدتها المتون بتكرار مملول. وكان ذلك التطهير في العادة بالماء بصبه فوق البدن،
2
أو بالاستحمام في البحيرة المقدسة الواقعة في الحقول المباركة، حتى إن الآلهة كانت تقوم بخدمة الملك في وقت إنجاز ذلك الاستحمام ، فيقدمون إليه المناشف ثم الملابس. ومن المحتمل أن يكون ذلك التطهير ذا مغزى خلقي هام، وخاصة إذا رأينا هذا الاحتفال التطهيري الشرقي العتيق قد استمر معمولا به إلى عصرنا الحالي في الاحتفال التعميدي الموجود إلى الآن عند المسيحيين.
وكانت القبلة التي يتجه إليها الملك في المذهب الشمسي هي الإقليم الواقع شرقي السماء، حيث لم تكن الشمس وحدها هي التي تولد في تلك الجهة، بل كانت كذلك الآلهة الأخرى تولد هناك. وفي تلك الجهة المقدسة توجد أبواب السماء العظيمة التي تقوم أمامها تلك «الجميزة العالية شرقي السماء التي يجلس فوقها الآلهة»، وكذلك نسمع عن الجميزتين اللتين في الجانب الأقصى من السماء، وهما اللتان يمسك بهما الملك عندما «يعبرون به إلى الشاطئ الثاني ويجلسونه في الجانب الشرقي من السماء.» ويجد الملك المتوفى في ذلك المكان المقدس أيضا إله الشمس، أو يجده إله الشمس، ومن ذلك المكان يرتفع إلى السماء، وكذلك يرسو في هذا المكان القارب الذي يعبر به.
Shafi da ba'a sani ba