ثم نرى أنه في أنحاء جميع شمالي أفريقيا أخذت تلك الحلقة الخضراء المترامية الأطراف تذوي وتنقبض ببطء في خلال مائة ألف سنة أو تزيد، حتى صرنا نرى تلك الخمائل والغابات البرية تتلاشى وتختفي تدريجا، كما كانت المياه التي تنخفض في بحيرة صحراوية ما، على امتداد وادي النيل، كالرمل المتناقص في ساعة رملية زجاجية، تقيس لنا مدى تلك الأزمان الطويلة التي كان يتناقص في خلالها سقوط الأمطار في شمالي أفريقيا فيحيل تلك الصحراء الشاسعة تدريجا إلى بيداء ماحلة لا تشتمل إلا على صخور ورمال جامدة، وعندما اضطر أولئك الصيادون المتوحشون إلى هجر هضبة تلك الصحراء بهذه الصورة والنزول إلى وادي النيل، ألم يعودوا جزءا من ذلك الكون المتطور؟
وحينما قاموا على أثر ذلك بحبس حيواناتهم المتوحشة في الحظائر العظيمة ليتخذوا منها ماشية أنيسة كالبقر والغنم والمعز والحمير، وحينما أصبحوا لا يكتفون بأكل بذور الحشائش البرية، وصاروا يزرعونها ويتعهدونها كالشعير والقمح، ثم خلعوا عن أنفسهم حياة الصيادين المتجولين واستوطنوا قرى صغيرة رعاة وزراعا. ألم يعودوا جزءا غير منفصم من ذلك الكون المستمر في الارتقاء؟
وبعد بناء تلك القرى التي من عصر ما قبل التاريخ - وهي التي كان يقطنها أولئك الرعاة والحراثون - والتي كانت مبعثرة فيما يبلغ 700 أو 800 ميل على طول وادي النيل، وبعد تحولها بتأثير عدة آلاف من السنين من التطورات الاجتماعية إلى أقدم دولة معروفة في غضون التاريخ يتألف سكانها من عدة ملايين من النسمات، تعرف المعادن والكتابة وتسيطر عليها حكومة منظمة تنظيما ساميا، وتقوم ببناء أضخم المباني التي لم يبن مثلها قط في ذلك العالم القديم، دالة بذلك على قوة تغلبها الهائل على العوامل المادية. ألم يعودوا بعد كل ذلك بأية حال جزءا من ذلك الكون المتطور؟
وحينما بدأ تخمر تلك العوامل الاجتماعية عند فجر ما يسمى عصر التاريخ؛ أي قبل عام 3000ق.م ببضعة قرون، وظهر تأثير أقدم عصر عرف فيه الاحتكاك الاجتماعي، الذي استمر نحو ألف سنة ثم ظهر أخيرا قبل عام 2000ق.م في صورة أقدم حرب مقدسة في سبيل العدالة الاجتماعية وابتغاء إيجاد عهد جديد قوامه الشفقة الأخوية؛ أي حكم المصادقة. فهل يجب بعد ذلك أن نفصم أولئك النفر الذين هم أقدم دعاة للمثل العليا في الاجتماع عن تلك المراحل السابقة في ذلك الكون المتطور؟
وهنا نجد القيمة الأساسية لنتائج الكشوف التي كشفتها لنا الطبقات الجيولوجية ومدائن الشرق القديمة وجباناته، فإن هذه الكشوف تميط لنا اللثام عن مجموعة من الصور الرائعة نرى فيها المرحلة تلو المرحلة في طريق تقدم البشر وارتقائه. ففي بداية الطريق نرى الإنسان يبدو بشكل واضح خارجا من العصور الجيولوجية، وبعد مضي عدة مئات من آلاف السنين ينهض من ذلك الفتح المادي المحض إلى المستوى الذي يدرك فيه معنى الشفقة الأخوية: فهنالك نرى ظهور الإنسان الطبيعي في وحشيته الحيوانية التي ترجع إلى العصور الجيولوجية، وهنا نجد دنيا رحيمة رفيقة تستعمل كلمة «مصادقة» التي هي موضوع السؤال الثاقب الذي أراد الأستاذ «هيكل» أن يوجهه إلى الكون! وبين هاتين المرحلتين نرى ذلك التقدم الذي يربط بعضهما ببعض، وهو تقدم لم نجد للآن ما يبرهن عليه من الشواهد والأدلة غير الحياة الإنسانية المبكرة فوق ضفاف النيل، حيث رأينا ذلك التقدم وكأنه معمل اجتماعي عظيم، بما كان يحويه من الحياة البشرية التي ترجع بدايتها إلى تلك التقلبات السحيقة في القدم التي كونت سطح الكرة الأرضية في شكله الحالي. وبذلك نجد أن وادي النيل هو الميدان الفريد الذي نستطيع أن نرقب فيه صراع الإنسان وهو يخطو بحياته في سبيل الرقي، من أول ظهور الإنسان الطبيعي، إلى ما تلا ذلك من جميع انتصاراته على ما اعترض حياته الناهضة، إلى أن رأيناه في آخر المطاف يصل إلى إدراك ما تشمله الإنسانية من الإخاء والمصادقة. (2) الانتقال العظيم وبطء التقدم البشري
مما تقدم يتضح أن الاعتراض الذي نفترض إبداءه من الأستاذ هيكل (وربما كنا غير منصفين في ذلك الافتراض) وهو أن الخبرة الإنسانية ليست مرحلة من مراحل تقدم الكون، قد فند لأول مرة تفنيدا تاريخيا في قصة مصر القديمة، وقد فحصنا فيما سبق، على عجل، بعض الإشارات والمعالم الموضحة لذلك الطريق الطويل الذي اجتازه الإنسان منذ فتوحه في عالم المادة إلى أن وصل إلى تلك الكشوف المدهشة للقيم النفسية الباطنة؛ أي إلى ذلك الانتصار الذي أحرزه على ذاته وإدراكه للمسئوليات الاجتماعية. فبفضل هذه الوثائق الاجتماعية صرنا نعرف أننا كنا نقتفي منها حركة لا تتصل بتاريخ الكون فحسب، بل ما يعد فوق ذلك أروع انتقال في ذلك التاريخ، على قدر ما وصلت إليه معلوماتنا.
والحقيقة أن ذلك الانتقال هو موضوع هذا الكتاب، ويضاف إليه أيضا تلك الحقيقة العظمى؛ وهي أن «الانتقال العظيم» - كما سنسميه هنا - لا يزال ناقصا؛ أي إنه لا يزال سائرا في طريقه نحو الرقي. وقد حاولنا فيما تقدم الكشف عن تكوينه واقتفاء تاريخه المبكر، فرأينا أنه أوجد لأول مرة - لا في الحياة الإنسانية وحدها بل في الكون نفسه كما هو معروف للإنسان - معاني جديدة وكلمات جديدة للدلالة عليها، وهي معان لقوى تسمو على تقلبات المادة وتنتقل بنا إلى عالم البواعث والاحتمالات النفسية، الفردية منها والشعبية، مما بدأ بنو البشر يشعرون به الآن فقط شعورا مبهما.
وبداية «الانتقال العظيم» هي التي تتميز على وجه خاص بظهور كلمات جديدة خطيرة الشأن، فإن كلمة الأستاذ هيكل «مصادق» ليست إلا كلمة من مجموع كلمات من هذا القبيل ظهرت لأول مرة، وكانت أشبه شيء بصور إشارات الأصبع إلى طريق جديد، فصارت بذلك عندنا بمثابة آثار تاريخية مؤذنة بحلول «العصر الأخلاقي» أو «عصر الخلق».
وقد سبق أن أشرنا فيما تقدم إلى ما ذكر في مقال عن الجراحة والتشريح عند قدماء المصريين كتب في باكورة الألف الثالثة ق.م، ويحتوي على أقدم استعمال لكلمة «مخ». ولما لم تكن هناك - بطبيعة الحال - في ذلك الوقت كلمة شائعة الاستعمال للدلالة على المخ يمكن لمؤلف ذلك المقال استعمالها، فإنه أخذ كلمة معتادة تعني «لين» أو «شبه سائل ثخين» يشبه النخاع. ولكي يتجنب التباس المعنى بغيره أضاف إليها كلمة «الجمجمة»، فصار التعبير الجديد بذلك «عجينة الجمجمة» أو «نخاع الجمجمة»، وأطلق التعبير حتى صار علما على «المخ»، وذلك في أقدم بحث تناول هذا الموضوع. وهذا الطبيب المختص في التشريح الجراحي الذي يرجع عهده إلى نحو 5000 سنة مضت، كان يعرف فعلا أن المخ هو المركز الحساس للشعور والسيطرة على أعضاء الجسم الإنساني، غير أن معرفته العلمية كانت حديثة العهد في زمنه لدرجة أنها لم تستطع أن تحل محل الاعتقاد القديم القائل بأن القلب هو مكان الفهم.
وعلى ذلك لما صار أولئك القوم المبكرون يشعرون بوظيفة الفهم الإنساني الذي يميز بين السلوك المستقيم الصائب وبين ضده من السلوك المعوج الخاطئ، استعملوا له - كرها لا طوعا - تلك الكلمة القديمة «قلب»، يريدون بها الإدراك الخلقي الذي يقوم به القلب، وبذلك صار المعنى الجديد وهو قدرة الإنسان على إدراك المميزات الخلقية (أي ضميره) يسمى في نهاية الأمر كذلك بكلمة «قلب». وبهذا الاسم «القلب» لم يبدأ هذا المعنى الجديد (الضمير) تاريخه كقوة اجتماعية فحسب، بل استمر يحمل هذا الاسم كذلك آلافا من السنين، كما رأينا، إلى يومنا هذا.
Shafi da ba'a sani ba