272

Asubin Lamiri

فجر الضمير

Nau'ikan

ويجب علينا الآن أن نضيف إلى هذه الأدلة المبينة المستقاة من «كتاب العهد القديم» تلك الأدلة التي أسفرت عنها الأبحاث الأثرية الحديثة، فقد أماطت لنا الحفائر الفلسطينية اللثام عن قائمة طويلة من البضائع الأجنبية التي اشتريت هناك ومعها عدد عظيم من الرسوم الزخرفية الأجنبية التي اجتلبت مع تلك البضائع، فضلا عن أدلة أخرى لا حصر لها تنطق بتأثير العوامل الأجنبية، فالأثاث الذي عثر عليه في قصر الملك «إهاب» في «سامرا» كان محلى بقطع من العاج نقشت عليها صور آلهة أجنبية، وبخاصة من آلهة مصر القديمة (انظر شكل

18 ). والواقع أنه يمكن كتابة مجلد بأكمله عن العناصر الثقافية الأجنبية التي انتشرت في فلسطين قبل أن يستوطنها العبرانيون، وظل أثرها يزداد بعد ظهور الملكية العبرانية في عالم الوجود. وربما كان من الواضح أيضا منذ زمن بعيد أن الأدب العبراني، بصفته معبرا عن الحياة العبرانية، لا بد أنه كان بطبيعة الحال، مطعما، مثل تلك الحياة نفسها، بالمؤثرات الثقافية المنحدرة من الخارج، سواء كانت في القانون أم في الأساطير أم في الدين بوجه عام. ولا يقل عن ذلك كله المبادئ الخلقية، وقد رأينا فيما سبق أن العبرانيين أخذوا الكثير من قوانينهم وأساطيرهم عن المدنية البابلية، أما في الأخلاق والدين والتفكير الاجتماعي بوجه عام - الذي هو أول نواحي اهتمامنا في هذا الكتاب - فإننا نجدهم قد بنوا حياتهم على الأسس المصرية القديمة؛ فالإسرائيليون بعد استيطانهم فلسطين كانوا في الواقع يسكنون أرضا من الأملاك المصرية مضت عليها في هذه الحال قرون بأكملها، وقد استمرت بلادا مصرية عدة قرون بعد استيطان العبرانيين لها، وحتى في عهد متأخر كعهد حكم «سليمان» نجد أن الفرعون المصري أهدى إلى الملك العبراني مدينة «جزر»، وهي بلدة حصينة من بلدان فلسطين كانت تقع على وجه التقريب في كنف «بيت المقدس».

هذا إلى أن النتائج الأساسية التي قامت وستقوم عليها دعامة المبادئ الخلقية في الحياة المتحضرة في أيامنا، كانت قد اهتدت إليها الحياة المصرية قبل الوقت الذي ابتدأ فيه العبرانيون تجاريبهم الاجتماعية في فلسطين بزمن طويل، كما كانت تلك المبادئ الخلقية المصرية موجودة فعلا في فلسطين بصورة مدونة منذ قرون عدة حينما استوطنها العبرانيون.

حقا إن التوسع الذي أدخل على تلك التعاليم كثمرة من ثمرات الفكر والحياة العبرانية، يعد ذا قيمة عظيمة للإنسانية لا تقاس بأي مقياس كان، غير أننا عندما نعترف بهذه الحقيقة يجب ألا يفوتنا أن تلك المشاعر الخلقية التي تسود المجتمع المتمدين الآن ترجع في أصلها إلى عصر أقدم بكثير من «عصر النبوات» المعترف به من زمن بعيد، وأنها قد انحدرت إلينا نحن أهل هذا العصر الحاضر من عهد لم تكن فيه الكتابات العبرانية قد وجدت بعد. وعلى ذلك تكون مصادر تراثنا من التقاليد الخلقية بعيدة كل البعد عن انحصارها في فلسطين وحدها، وأنه يجب اعتبارها مشتملة كذلك على الحضارة المصرية. على أن السبيل الذي وصل منه هذا التراث المجيد إلى العالم الغربي هو على وجه خاص ما بقي لنا من الأدب العبراني وحفظه لنا «كتاب العهد القديم».

فإن زوال مدنيات الشرق القديم التي بنيت على أسسها المدنية العبرانية، وما نتج عن ذلك من حرمان العالم الغربي من فهم كل كتابة وكل لغة لتلك المدنيات البائدة حتى ظلت في عالم صمت مدة ألفي سنة، قد ترك الأدب العبراني يضيء لنا وحده كأنه شعلة وحيدة من النور تحيط بها الظلمة الدامسة من جميع جهاتها. وعلى ذلك يكون ما ورد إلينا حديثا بالوسائل العلمية من بعض المعلومات عن المدنيات الشرقية المفقودة بمثابة قبس يضيء تلك الظلمة ويحيط بني إسرائيل بنور يرجع إلى ما قبل عهدهم ببضعة آلاف من السنين. ولو أن العالم الغربي لم يفقد قط كل علم بأصول المدنية وتطورها لما كان يخطر ببال أي باحث قط أن يجعل للعبرانيين أي منزلة في التاريخ فوق أنهم بلغوا ذروة ذلك التطور الطويل السابق في الأخلاق والدين، وأول ما كان يحصل بالتأكيد هو عدم ظهور ذلك المذهب اللاهوتي القائل بانفراد شعب واحد بالتمتع بالوحي الإلهي، وهو المذهب الذي أعمى أبصارنا عدة قرون عن تعرف ذلك التراث الخلقي الجليل الذي ورثناه عن تأملات وإلهامات العالم بأسره، لا عن تاريخ أو تجاريب أي أمة من البشر بعينها.

وعلى ذلك فإن أعظم فائدة إنشائية نجنيها من وراء الاهتداء إلى حقيقة تلك المدنيات الشرقية القديمة المفقودة هي أنها ردت إلينا تراثا عرضه عرض الأفق، وهو التراث الذي قد خلفته لنا حياة بني الإنسان أجمعين؛ ففيه نجد أعظم وحي يخطر لنا، وبه يمكننا الآن أن نستدل على أن انبثاق إدراك الإنسان للمميزات التي تفرق بين السلوك الطيب والخاطئ إنما هو خطوة من خطى التاريخ ونتيجة للخبرة الاجتماعية، وأن قيمة هذا الإدراك فوق كل تقدير؛ لأنه إدراك نام لم تكمل بعد تطوراته التاريخية؛ فإن استردادنا لتلك المدنيات المفقودة هو الذي أمكننا به إقامة البراهين على أننا لم نقطع مرحلة تذكر بعد خروجنا من عهد الظلمة الحالكة السابق لظهور القيم الخلقية، وأن «فجر الضمير» لا يزال خلفنا بالضبط لم نكد نبتعد عنه شيئا، وأننا ما زلنا للآن نقف عند مطلع شمس عصر القيم الخلقية.

وإني أعتقد أن الأستاذ «لويس أجاسيز»

Louis Agassiz

هو الذي (بعد أن فحص التزعزع الدائم في الجبال الثلجية السويسرية، وراقب انحدار كتل الصخر الكبيرة والصغيرة وهي في قبضة الثلج، ثم انفصالها عنه بتأثير شمس الصيف الحارة فتستحيل بذلك إلى سور من الصخور المتراكمة يحف بفوهة الوادي) أدرك في نهاية الأمر أن هذه الحركة الجليدية كانت دائبة على عملها هذا منذ أزمان بعيدة، ثم أشرقت على عقله فجأة تلك الحقيقة الرائعة؛ وهي أن تلك العمليات الجيولوجية التي جرت في أزمنة سحيقة وأفضت إلى تكون الأرض لا تزال دائبة مستمرة في طريقها إلى يومنا هذا، وأنها لم تنقطع ولن تنقطع عن عملها قط. وبعد هذه النظرة القصيرة التي ألقيناها على أدوار التطور الخلقي، قد نكون محقين إذا قررنا من باب الموازنة والقياس أن ما ذكر عن فعل الثلوج ينطبق كل الانطباق على ما نحن بصدده من التطور الخلقي في بني الإنسان.

الخاتمة

Shafi da ba'a sani ba