الكتاب: فهرسة ابن خير الإشبيلي
المؤلف: ابن خير الإشبيلي (٥٠٢ - ٥٧٥ هـ)
حققه وضبط نصه وعلق عليه: بشار عواد معروف - محمود بشار عواد
الناشر: دار الغرب الاسلامي - تونس
الطبعة: الأولى، ٢٠٠٩ م
عدد الأجزاء: ١
أعده للشاملة: محمود الجيزي - عفا الله عنه -
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
Shafi da ba'a sani ba
[مقدمة التحقيق]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها صمدا، وأشهد أنّ سيّدنا وإمامنا وقدوتنا وأسوتنا وشفيعنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون.
يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) [آل عمران]
يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً وَاِتَّقُوا اَللهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَاَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١) [النساء]
يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اَللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١) [الأحزاب]
أما بعد:
فيسعدني أن أقدّم للباحثين المعنيين بتاريخ الفردوس المفقود الأندلس كتاب «فهرسة ابن خير الإشبيلي»، وهو الإصدار الرابع من «سلسلة التراجم الأندلسية» التي رغب إليّ فيها صديقي الفاضل الخبير بالمؤلّفات الأصيلة الأستاذ حبيب اللّمسي صاحب دار الغرب الإسلامي المتفجر عليّ بنفحات معروفه، والفائض الخير الغامر البرّ، الناصب للتراث الأصيل أعلاما لا تشتبه، والباني له منارا لا ينهدم باختياره الجيد الحقيق بالنشر منه، مادة وفائدة وتحقيقا.
1 / 5
ابن خير الإشبيلي:
هو أبو بكر محمد (١) بن خير بن عمر بن خليفة، مولى إبراهيم بن محمد بن يغمور اللّمتوني، وكان يكتب في نسبه الأموي - بفتح الهمزة - نسبة إلى أمة جبل بالمغرب (٢).
وذكر تلميذه أبو القاسم عبد الرحيم بن عيسى بن يوسف الأزدي الزّهراني الفاسي المعروف بابن الملجوم (٥٢٤ - ٦٠٤) (٣) أنّه سأله عن مولده فقال: ولدت بفاس ليلة الأحد الثامن والعشرين من رمضان سنة اثنتين وخمس مئة (٤). وهذا يظهر خطأ كوديرا الذي ذكر أنه ولد بإشبيلية (٥)، فهو فاسي الأصل.
_________
(١) ترجمه الضبي في بغية الملتمس (١١٢)، وابن الأبار في التكملة ٢/ ٤٩، ومنصور بن سليم في ذيل إكمال الإكمال ١/ ٢٥٢، وابن عبد الملك في الذيل ٨/ ٢٩٩ وهي أوسع التراجم وأدقها، والذهبي في تاريخ الإسلام ١٢/ ٥٥٩، وسير أعلام النبلاء ٢١/ ٨٥، ومعرفة القراء الكبار ٢/ ٥٥٨، والعبر ٣/ ٦٩، وتذكرة الحفاظ ٤/ ١٣٦٦، والمستملح ٧٥، والصفدي في الوافي ٣/ ٥١، واليافعي في مرآة الجنان ٣/ ٤٠٢، وابن الجزري في غاية النهاية ٢/ ١٣٩، وابن ناصر الدين في توضيح المشتبه ١/ ٢٧٠ و٣/ ٢٦٩، وابن حجر في تبصير المنتبه ١/ ٥٠، والسيوطي في بغية الوعاة ١/ ١٠٢، وطبقات الحفاظ ٤٨٣، وابن العماد في الشذرات ٤/ ٢٥٢، والزبيدي في «خير» من تاج العروس، والكتاني في فهرس الفهارس ١/ ٣٨٤، وله ذكر في نفح الطيب ٢/ ١٥٦، ٥١٢، ٥١٤، ٥٩٨ و٣/ ٦٤.
(٢) تبصير المنتبه ١/ ٥٠، ونقله الزبيدي في «خير» من التاج. وكذا نسبه ابن ناصر الدين إلى بلد «أمو» (توضيح ١/ ٢٧٠). أما تعليق محقق التوضيح بأن الصحيح في اسم أمو هو «آمو» بالمد، ويقال: «أمّوية» بفتح الهمزة وتشديد الميم وسكون الواو وياء مفتوحة وهاء، وقوله: ونسبة ابن خير إلى هذا البلد خطأ، فهو تعليق فيه نظر، ذلك أن بلد «أمو» غير «آمو» أو «أمّوية» فتلك من بلاد التركستان، وما أظن ابن ناصر الدين قصد ذلك، وهو يعلم أن ابن خير فاسي الأصل إشبيلي الدار.
(٣) ترجمه ابن الأبار في التكملة ٣/ ٦٣، وابن الزبير في صلة الصلة ٣ / الترجمة ٣٨٨، والذهبي في تاريخ الإسلام ١٣/ ٩٧، والمستملح ٢٦١، وابن القاضي في جذوة الاقتباس ٢/ ٤١٥، والمراكشي في الإعلام ٨/ ١٥٥.
(٤) الذيل لابن عبد الملك ٨/ ٣٠٣. وقال ابن الأبار: «ومولده فيما نقل من خطه ليلة الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة اثنتين وخمس مئة» (التكملة ٢/ ٥٠).
(٥) مقدمة طبعته للفهرسة.
1 / 6
بدأ ابن خير بطلب العلم منذ مدة مبكرة من حياته حيث يذكر سماعه من شيخه الأديب أبي عبد الله محمد بن سليمان بن أحمد النّفزي المتوفى سنة (٥٢٥) هـ في منزله بإشبيلية سنة (٥١٨) هـ (١) عند قدومه إلى إشبيلية (٢)، وسمع بجامع إشبيلية في رمضان من سنة (٥٢٠) هـ من شيخه أبي الحسن عبّاد بن سرحان بن مسلم المتوفى نحو سنة (٥٤٣) هـ (٣). واتصل آنذاك اتصالا قويا بشيخه المقرئ أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح الرّعيني المتوفى سنة (٥٣٩) هـ حيث لازمه طيلة حياته وأخذ عنه علما جما، كما يظهر واضحا من هذا الكتاب.
ثم بدأ ابن خير بالتجوال في مدن الأندلس يقرأ على الشيوخ ويستجيزهم، ولا أراني بحاجة إلى ذكر شيوخه الكثر فقد ذكرهم هو في آخر هذا الكتاب حيث زادوا على المئة. كما أخذ عنه العديد من التلاميذ لما كان يتمتع به من الدقة والأمانة وسعة الرّواية، وكتب التراجم التي تناولت المئة السابعة تزخر بالعديد من تلامذته.
وحين ذاعت شهرته ومنزلته في العلم طلبه والي قرطبة أبو عليّ الحسن ابن عبد المؤمن (٤) ليتولّى الصلاة بجامع قرطبة الأعظم سنة (٥٧٣) هـ، وهي من الوظائف الخطيرة، فبقي يتولاها إلى أن توفي سحر ليلة الأربعاء الرابع من ربيع الأول سنة (٥٧٥) هـ، ودفن بإزاء الدار التي أنزل فيها، وكانت جنازته مشهودة لم يتخلف عنها كبير أحد، وحضرها الوالي أبو علي الحسن بن عبد المؤمن، ثم نقل رفاته بعد ذلك إلى إشبيلية ليدفن في مقبرة مشكة (٥).
_________
(١) فهرسة ابن خير ٦٠.
(٢) المصدر نفسه ٤١٥.
(٣) المصدر نفسه ١٥٧.
(٤) امتدت ولايته على قرطبة من سنة ٢٧٢ - ٢٧٥ (البيان المغرب ١١٠ - ١١٣) والظاهر أن أبا علي هذا كان على معرفة وثيقة به، فقد كان أخوه التوأم الحسين بن عبد المؤمن واليا على إشبيلية.
(٥) الذيل لابن عبد الملك ٨/ ٢٠٢.
1 / 7
منزلته العلمية:
نال ابن خير شهرة واسعة لما عرف عنه من سعة الرّواية والعناية المستديمة في طلب العلم، فضلا عن الدّقة والضبط والإتقان، فوصفه ابن عميرة الضّبّي بأنه «محدث من أهل الإتقان وجودة الضبط، مقرئ مجود» (١).
وقبل ذلك أثنى عليه من أساتذته أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث القرطبي المتوفى سنة (٥٣٢) هـ وهو لمّا يزل شابّا يقرأ عليه، قال ابن الأبّار: «سمعت شيخنا أبا الخطاب بن واجب، وهو أحد المكثرين عنه، يقول: سمعت أبا عبد الله بن حميد يقول: سمعت أبا الحسن بن مغيث يقول: أبو بكر ابن خير خير ابن خير، وذلك وقت قراءته عليه في حداثته، قال أبو الخطاب: فكيف لو رآه حين رأيناه» (٢).
وعني ابن خير عناية بالغة بضبط كتبه وأصوله ومقابلتها بالأصول الصحيحة حتى نوّه بذلك أكابر العلماء، قال ابن الأبار: «وكانت كتبه في غاية الصّحة والإتقان لكثرة ما عاناها وعالج تصحيحها بحسن خطه وجودة تقييده وضبطه، وفي ذلك قطع دهره وأنفق حياته، فلحق بالمتقدمين وأربى على المتأخرين، وأدّى ذلك إلى المغالاة فيها بعد وفاته حتى بلغت أثمانها الغاية، ولم يكن له نظير في هذا الشأن مع الحظّ الأوفر من علوم اللّسان» (٣).
وقال ابن عبد الملك المراكشي: «وكانت كتبه وأصوله في غاية الصّحة ونهاية الإتقان لتهمّمه بمقابلتها وعكوفه على تصحيحها مؤيّدا على ذلك بحسن الخطّ وإتقان التّقييد والضّبط اللذين برز فيهما على متقدّمي الأكابر من مشاهير أهلهما، دأب على ذلك دهره وأنفد فيه عمره. وكتب بخطه الكثير
_________
(١) بغية الملتمس، الترجمة ١١٢.
(٢) التكملة ٢/ ٥٠، والذيل لابن عبد الملك ٨/ ٣٠٢.
(٣) التكملة ٢/ ٥٠.
1 / 8
ومتّع بصحة بصره، فقد وقفت في بعض ما كتب، وهو قد جاوز السبعين من عمره بسنتين أو نحوهما على ما يقضى منه العجب؛ دقة خط وإدماج حروف مع البيان، فكان في ذلك وحيدا، وأثمر المغالاة فيها بعد وفاته حتى تجووزت في أثمانها الغاية التي لا عهد بها، وتمادت رغبة الناس في اقتناء ما يوجد بخطه أو بتصحيحه ومنافستهم فيه إلى الآن» (١).
وذكر العلاّمة الكتّاني أنّ بمكتبة القرويين بفاس إلى الآن نسخته من «صحيح مسلم» التي قابلها مرارًا وسمع فيها وأسمع بحيث يعد أعظم أصل موجود من «صحيح مسلم» في إفريقية، وهو بخط الشيخ الأديب الكاتب أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر الأموي الإشبيلي المالكي، فرغ منه سنة (٥٧٣)، وعليه بخط المترجم (ابن خير) أنه عارضه بأصول ثلاثة معارضة بنسخة الحافظ أبي علي الجيّاني شيخ عياض وغيره من الأعلام، وكتب المترجم بهامشه كثيرا من الطّرر والفوائد والشّرح لغريب ألفاظه وشروح بعض معانيه وفرغ من ذلك سنة (٥٧٣) أيضا (٢).
وأشار ابن الأبّار إلى توسعه بالرّواية وإتقانه لها فقال: «وكان من الإكثار في تقييد الآثار والعناية بتحصيل الرّواية بحيث يأخذ من أصحابه الذين شركهم في السّماع من شيوخه»، ثم قال: «وكان مقرئا مجودا ضابطا، محدثا جليلا متقنا، أديبا نحويا لغويا، واسع المعرفة، رضى مأمونا، كريم العشرة، خيّرا فاضلا، ما صحب أحدا ولا صحبه أحد إلا أثنى عليه» (٣).
وقال ابن الزبير: «أحد المقرئين المحدّثين المشهورين بحسن الضّبط وإتقان التقييد، مع معرفته بالعربية واللّغة والأدب والغريب أغنى النّاس بإكثار الرّواية حتى أخذ عن كثير من نظرائه» (٤).
_________
(١) الذيل ٨/ ٣٠٢.
(٢) فهرس الفهارس ١/ ٣٨٥.
(٣) التكملة ٢/ ٥٠.
(٤) نقله السيوطي في بغية الوعاة عنه ١/ ١٠٢ وهو في القسم المفقود من كتابه.
1 / 9
وقال ابن عبد الملك: «وكان من أئمة المقرئين المجوّدين، وجلة المحدّثين المسندين ثقة فيما يرويه، رضى مأمونا، متسع الرّواية، أخذ عن النّظير والكبير والصغير، حتى اجتمع له في القراءات ما لم يجتمع لغيره من نظرائه. وكان متفنّنا في علوم اللّسان، متقدّما في النحو واللغة منها» (١).
ووصفه الإمام الذهبي في «السير» بالشيخ الإمام البارع الحافظ المجّود المقرئ الأستاذ عالم الأندلس (٢)، وقال في موضع آخر: «وكان مكثرا إلى الغاية تصدّر بإشبيلية للإقراء والتسميع وكان قائما على الصّناعتين، مبرزا فيهما، نحويا لغويا، ثقة رضى، إليه المنتهى في التحرير وإتقان الأصول» (٣)، وأثنى عليه كل من ترجم له.
على أنني لاحظت من المقدمة التي كتبها لفهرسته عدم تمرسه بالحديث الشريف مع سعة روايته، فإنه يكثر من إيراد الأحاديث الموضوعة والتالفة من غير أن ينبّه عليها، وهي آفة استشرت بين العلماء المتأخرين. كما أشار ابن عبد الملك إلى بعض أوهامه التي مصدرها الغفلة التي يقتضيها النقص البشري (٤).
فهرسة ابن خير
عني الكثير من العلماء بإثبات مروياتهم عن شيوخهم فكان كل محدّث يعنى بتدوين أسماء شيوخه الذين أخذ عنهم والمرويات التي سمعها منهم أو أجازوه بروايتها. وكان الكثير منهم يعيد تنظيم هذه المادة العلمية على وفق أساليب معينة، فمنهم من يعنى بترتيب أسماء شيوخه على حروف المعجم،
_________
(١) الذيل ٨/ ٣٠١.
(٢) سير أعلام النبلاء ٢١/ ٨٥ - ٨٦.
(٣) معرفة القراء الكبار ٢/ ٥٥٨.
(٤) الذيل ٨/ ٣٠٢.
1 / 10
فيسميه أهل المشرق عندئذ «معجم الشيوخ» أو يذكرهم حسب وفياتهم أو تاريخ سماعه منهم، أو على البلدان التي سمع منهم فيها فتسمى عند أهل المشرق: «المشيخة». أما المغاربة فيطلقون على معجم الشيوخ والمشيخة اسم «البرنامج»، وهي لفظة فارسية معربة.
وأما الذين يعنون بذكر المرويات فيطلق عليه المشارقة لفظة «الثّبت» بفتح الثاء المثلثة والباء الموحدة، وأما المغاربة فيطلقون عليه: «الفهرسة»، وهي لفظة فارسية معربة أيضا (١). وأشار العلامة المحدث الكتاني إلى أن بعض أهل الأندلس قد يستعمل البرنامج بمعنى الفهرسة أيضا (٢).
وواضح من «فهرسة ابن خير» التي نحققها أنها معنية بالمرويات، وليس بسير الشيوخ الذين أخذ عنهم ابن خير وذكر شيوخهم ومواليدهم ووفياتهم ونحو ذلك مما تحويه كتب التّراجم عادة، فقد بدأ الكتاب بمقدمة تناول فيها ضرورة العمل بما يحمله الطالب من العلم، وبذله لأهله لما في ذلك من الأجر العظيم والثواب الجزيل، وسبب تأليفه لهذا الفهرسة، وفضل العلم والعالم والمتعلم، وضرورة تقييد العلم بالأسانيد والكراهية لما كان عريا منها. ثم تناول فيها ما يتعين على طالب العلم عند الحمل والرّواية وعند التأدية والتبليغ، مبينا مراتب الرواية (طرق التحمل) من سماع، وعرض، ومناولة، وإجازة. ثم تقديم حسن النّية والعمل بما يتعلّم، وتبليغه إلى مستحقه، والعناية بتعلّم اللّغة العربية وإتقانها، والعناية بشيوخه؛ برا ورفقا بهم وتملّقا لهم ليستخرج منهم بذلك الفوائد. وتطرق فيها أيضا إلى وظائف التأدية من تحري الصّدق وتوقي التدليس والتزين بزينة التقوى، والتباعد عن التساهل
_________
(١) تنظر مقدمتنا لمشيخة النعال البغدادي (بغداد ١٩٧٥)، ومقدمتنا لمعجم شيوخ تاج الدين السبكي، ص ٦.
(٢) فهرس الفهارس ١/ ٧١.
1 / 11
في الأمور. وعني فيها بشرح رواية الحديث نصا وبالمعنى، فهي مقدمة في آداب طلبة العلم ورواته وبعض مصطلح الحديث.
وحين انتهى من هذه المقدمة ابتدأ بمقصود الكتاب، وهو ذكر المصنّفات التي سمعها على شيوخه أو أجازوه بها، فابتدأ بعلوم القرآن والقراءات، وثنّى بذكر الموطآت وما يتصل بها، ثم المصنفات والمسانيد وسائر كتب الحديث وعلومه، من شرح لغريبه وبيان علله والمصنفات المؤلفة في معرفة رجاله، ثم كتب السّير والأنساب والتواريخ ونحوها. وتناول بعدها كتب الفقه وأصوله، وأصول الدين والزّهد والرّقائق لا سيما كتب ابن أبي الدنيا وأبي سعيد ابن الأعرابي وأبي بكر الآجري وأبي ذر الهروي. وتناول بعد ذلك كتب اللّغة والأدب والشعر، والعناية بما حمله أبو عليّ البغدادي منها إلى بلاد الأندلس. ثم ذكر بعض مؤلفات المشهورين. وتناول في آخر الكتاب: تفسير الإجازة العامة، وختم الكتاب بذكر أسماء شيوخه الذين روى عنهم أو أجازوا له مرتّبين حسب المدن.
هذا هو محتوى كتاب «الفهرسة» لابن خير على وجه الإجمال، يذكر اسم الكتاب أو صفته، ومؤلفه، ثم الطريقة التي تحمّله فيها.
والسؤال الآن: هل ألّف ابن خير هذا الكتاب أم ألّف كتابا آخر لشيوخه أطلق عليه اسم «البرنامج» أم إن البرنامج الذي يشير إليه بعض من أرخ له هو هذا الكتاب؟
والذي تحصّل عندي أنّ ابن خير ألف كتابين أحدهما لشيوخه وصفه ابن الأبار بقوله: «وعدد من سمع منه أو كتب إليه نيّف ومئة رجل قد احتوى على أسمائهم برنامج له ضخم في غاية الاحتفال والإفادة لا يعلم لأحد من طبقته مثله. وقد كتبت منه في هذا المصنف ما نسبته إليه» (١)، ثم ذكر فهرسته فقال: «وقال جابر بن أحمد القرشي: كتب إليّ يعني ابن خير يخبرني أن فهرسته عشرة
_________
(١) التكملة ٢/ ٤٩ - ٥٠.
1 / 12
أجزاء كل جزء منها ثلاثون ورقة» (١).
والدليل على ذلك أنّ ابن عبد الملك نقل عن برنامجه أشياء لا توجد في فهرسته نحو قوله في ترجمة محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محرز السماني الألشي: «قال ابن خير: سألته عن مولده فقال لي: ولدت سحر ليلة الاثنين لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وأربع مئة قبل كائنة الزلاقة بشهر، وتوفي صبيحة يوم الثلاثاء أول يوم من جمادى الآخرة سنة تسع وستين وخمس مئة فكمل له من العمر تسعون سنة وعشرة أيام. روى عنه ابن خير ونجبه بن يحيى. . . الخ» (٢)، فهذا لا ذكر له في فهرسة ابن خير.
ومنها أيضا: أن ابن الأابار نقل عن ابن خير وفاة أحمد بن عبد الله بن جابر ابن صالح الأزدي (٣)، وليس من ذلك شيء في الفهرسة.
ومن ذلك قوله في ترجمة أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن خاطب الباجي: «وحكى ابن خير أنه لقيه بباجة في سنة ست وثلاثين وخمس مئة وحضر مجلسه واستجازه، فأجاز له ما يحمله عن ابن أبي العافية وغيره من شيوخه، قال: وتوفي ليلة الأربعاء قريبا من نصف جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وسنه نحو الثمانين» (٤)، ولا ذكر لمثل هذا في الفهرسة.
ومن ذلك أنه نقل ترجمة مفصّلة لشيخ ابن خير: محمد بن خلف بن صاعد الغساني الشّلبي المعروف باللّبلي، وقال: «وتوفي ظهر يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وخمس مئة ودفن يوم الجمعة بعده. ذكره ابن خير» (٥)، ولا وجود لمثل هذا في فهرسته أيضا.
_________
(١) التكملة ٢/ ٥٠، والملاحظ أن النسخة التي بين أيدينا تقع في عشرة أجزاء حديثية.
(٢) الذيل ٥/ ٦٧٨.
(٣) التكملة ١/ ٤٥.
(٤) التكملة ١/ ٥٠.
(٥) التكملة ٢/ ١٢.
1 / 13
ومن ذلك قوله في ترجمة عبد الله بن عيسى بن عبد الله بن أحمد بن سليمان الشّلبي: «توفي بهراة في جمادى الآخرة من سنة إحدى وخمسين وخمس مئة ... وقرأت وفاته بخط ابن خير» (١).
وسماه ابن الأبار تارة: مشيخة ابن خير (٢)، وسمّاه تارة أخرى: برنامج ابن خير (٣).
ونقل ابن الأبار في ترجمة أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي أبي العباس ابن العريف من «المعجم» أبياتا من الشعر ثم قال: «وهذه الأبيات أنشد أبو بكر بن خير في برنامجه أربعة منها، وقال: سألته أن يجيز لي جميع ما رواه وألّفه وأجاب فيه وجميع منثوره ومنظومه فأجاز لي ذلك كله في ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وخمس مئة» (٤).
وهذا صريح بأن البرنامج غير هذه الفهرسة، ولعل فيما قدمناه كفاية لبيان ذلك.
ومن الجدير بالذكر أنّ جابر بن أحمد بن إبراهيم القرشي الحسني قد ألّف مشيخة لابن خير الإشبيلي نقل منها ابن الأبار في «التكملة» فقال في ترجمة شيخ ابن خير أحمد بن عليّ بن أحمد بن رزقون القيسي: «وقال جابر بن أحمد القرشي في مشيخة ابن خير من تأليفه أنه توفي في حدود سنة خمس وأربعين وخمس مئة عن سن عالية» (٥).
وجابر بن أحمد هذا ترجمه ابن الأبار في «التكملة» فقال: «جابر بن أحمد بن إبراهيم القرشي الحسني، من أهل تلمسان يكنى أبا الحسن. . . وكان من أهل العناية بالرّواية والمعرفة بأسماء الرجال». وذكر تأليفه لمشيخة ابن خير فقال: «وجمع مشيخة ابن خير على حروف المعجم فافاد بها»، ولم يذكر تاريخ وفاته
_________
(١) التكملة ٢/ ٢٦٣.
(٢) التكملة ٤/ ٢١.
(٣) التكملة ٤/ ١٤٨.
(٤) المعجم في أصحاب القاضي الصدفي، الترجمة (١٤).
(٥) التكملة ١/ ٥٢.
1 / 14
لكنه رأى السّماع منه بإشبيلية في سنة (٥٧٨) هـ، وذكره التّجيبي في معجم شيوخه وذكر أنه توفي بتلمسان (١).
وأستبعد أن تكون النّقول التي أشرت إليها آنفا مما ورد في هذه المشيخة لعدم التصريح بها من جهة، ولذكر ابن الأبار في بعضها أنه ينقل من برنامج ابن خير، ومن ثم فإن هذا لا يعكّر على ما ذهبت إليه.
وصف النسخة الخطية
هي نسخة فريدة محفوظة في مكتبة الإسكوريال بإسبانيا، تقع في (١٥٥) ورقة ذات وجهين مسطرتها (٢٣) سطرا، كتبت في العشرين من شهر رمضان سنة (٧١٢) هـ ولم يذكر اسم ناسخها، وهي خلو من العنوان بالخط الذي كتبت به النسخة، بل جاء بخط أحدث، وعلى النسخة بعض التملكات.
ويظهر من كثرة الأخطاء الواقعة فيها أن ناسخها قليل المعرفة بالعلم الذي ينسخه، كما أنّه لم يقابل النسخة على الأصل المنتسخ منه يدل على ذلك عدم وجود أثر للمقابلة، فضلا عن أننا لم نقف في حواشي النسخة على ما يشير إلى أن أحدا من العلماء المعروفين قد قرأها أو قرئت عليه وصحّح ما فيها من أخطاء، فجاءت النسخة كثيرة التصحيف والتحريف والسّقط مما أتعبنا في تتبع كل ذلك.
وعلى هذه النّسخة الفريدة نشر المستشرق الإسباني كوديرا وتلميذه طرغوه الكتاب سنة (١٨٩٣) م وطبع في مطبعة قومش بسرقسطة، وقدّما لها بمقدمة لاتينية، وهي نشرة راعت نقل النّسخة على ما هي عليها من كثرة التصحيف والتحريف، ولم يكن في مكنتهم إصلاح ما فيها من خلل لقلة خبرتهم بطبيعة التّراث العربي ولا سيما في تلك الأزمان التي لم تكن كثير من أمهات الكتب
_________
(١) التكملة ١/ ٢٠١.
1 / 15
العربية قد طبعت. على أن عملهم كان متميزا في حينه قد بذل فيه من الجهد المحمود ما يتعين تقديره والإشادة به إذا راعينا الزمن الذي نشر فيه.
ثم قام المصريون بإعادة طبع الكتاب على طبعة كوديرا وتلميذه، ولم يكلف أحد نفسه بالاطلاع على النّسخة الخطية أو مراجعة الأخطاء الكثيرة التي وقعت فيها، فنشرتها مكتبة الخانجي والهيئة المصرية العامة وإبراهيم الأبياري.
إنّ كثرة الأخطاء وجسامتها ومتابعة النّشرة الإسبانية متابعة عمياء أوقع الناشرين العرب بأخطاء لا يقع فيها من له أدنى معرفة بهذا العلم مع دعاواهم الكاذبة بالمراجعة والمقابلة والضّبط والتصحيح. ولعلي أضرب لذلك مثلا واحدا له مئات نظائر يستعظم على طالب علم مبتدئ أن يقع فيه، وذلك عند ذكر الشاعر الشهير الشريف الرضي فقد جاء اسمه في جميع النشرات كما يأتي: «. . . أبي الحسين محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي طالب».
وفي هذا الاسم المشهور أربعة أخطاء يعرفها من له أدنى معرفة بالتراث العربي:
أولا: فهو يكنى أبا الحسن، فتحرفت كنيته إلى «أبي الحسين».
ثانيا: موسى اسم جده، فهو محمد بن الحسين بن موسى، فسقط اسم الحسين وهو اسم أبيه.
ثالثا: قوله: علي بن إبراهيم، وإنما هو علي بن الحسين.
رابعا: قوله: إبراهيم بن أبي طالب، وإنما هو الحسين بن علي بن أبي طالب.
فتأمل هذا الجهل المدقع الذي وقع فيه مثل إبراهيم الأبياري الذي يزعم أنه من أهل المعرفة بالعربية ودعاواه الفارغة في تصحيح الكتب ونشرها بهذه الصورة المخجلة، غفر الله لهم على ما اقترفوا بحق تراث الأمة.
1 / 16
نهج العمل في التحقيق:
لما كانت النّسخة التي أقمنا عليها التّحقيق نسخة فريدة يكثر فيها التّحريف والتصحيف ولا يمكن الركون إليها والاعتماد عليها كلية، كان لا بد من بذل مزيد من الجهد لضبط النّص وإصلاح ما فيه من خلل. ومما زاد في صعوبة الأمر أنّ الناقلين من فهرسة ابن خير كانوا قلّة، وفي مقدمتهم ابن الأبار الذي نقل عشرات النصوص فقط مما لا يغني في تصحيح الكتاب كله.
ومن هنا كان لا بد من اتباع قاعدة «الشك قبل اليقين»، وذلك بعرض الأسماء التي نشك في صحتها أو لا نحفظها، وهي ليست قليلة، على كتب التّراجم المتقنة للتأكد من صحتها، فإذا كانت صحيحة سكتنا، وإن وقفنا فيها على تحريف أو تصحيف علّقنا.
لقد اضطررنا إلى عمل فهارس للكتاب قبل تحقيقه، ذلك أنّ الفهارس تكشف الأخطاء حين تتكرر الأسماء بصيغ مختلفة، فأعاننا ذلك على التصحيح والوصول إلى نص أكثر صحة.
كما رأينا من المفيد أن نعرّف تعريفا وجيزا بأسماء مؤلفي المصنّفات وعرضها على بعض المصادر وفي مقدمتها «تاريخ الإسلام» للذهبي بتحقيقنا، دفعا لأي لبس قد يقع.
ثم تتبعنا شيوخ ابن خير في جميع الكتاب ونظمنا بهم بطاقات قبل التحقيق، وعرضناهم على المصادر المتقنة مثل الصلة لابن بشكوال (وبين يدي إضافة إلى النسخة المطبوعة أربع نسخ خطية منها)، والتكملة لابن الأبار، وعندي منها نسخ خطية أيضا، وتاريخ الإسلام الناقل عن هذين الكتابين المهمين، فضلا عن موارد أخرى منها: الذيل لابن عبد الملك وصلة الصلة لابن الزبير، وغيرها.
1 / 17
ولم يكن هذا الأمر هينا فالمؤلف يذكر شيوخه وبعض الأسماء بصيغ مختلفة، فيذكرهم بكناهم وشهرتهم تارة، وينسبهم إلى أحد أجدادهم البعيدين تارة أخرى فهو يقول مثلا: «أحمد بن محمد بن بقي» ويريد به: «أحمد بن محمد ابن أحمد بن مخلد بن عبد الرحمن بن أحمد بن بقي»، ويقول: «أحمد بن عمر» ويريد به «أحمد بن محمد بن عمر» ويقول: «علي بن خلف الفقيه القابسي»، وإنما هو: «علي بن محمد بن خلف»، ويقول: «دعلج بن عبد الرحمن»، وإنما هو: «دعلج بن أحمد بن دعلج بن عبد الرحمن»، وهلم جرّا.
وقد انقلبت على الناسخ الكثير من الأسماء استطعنا بحمد الله ومنه كتابتها على الصواب بعد التدقيق والمراجعة.
ولا أراني بحاجة إلى ذكر ما عانينا في ضبط هذا النص المضطرب، وتفصيله لإظهار دلالاته ومعانيه، من وضع الفواصل والنقط وبداية الفقرات.
وقد رأيت أن أضع أرقاما مسلسلة لأسماء الكتب والأجزاء التي قرأها المؤلف على شيوخه أو أجازوه بها، وجعلت اسم المؤلف بخط غامق إظهارا له، ووضعت أرقام أوراق النسخة الخطية في حاشية الكتاب مع إشارة بخط مائل في داخل النص لإظهار بداية الصفحة، ورمزت لوجه الورقة الخطية بالحرف «أ» ولظهرها بالحرف «ب»، تمكينا للقارئ العالم من المراجعة عند الضرورة.
ويلاحظ القارئ أننا كتبنا الأسماء بالإملاء الحديث، ونسّاخ المخطوطات في تلك الأعصر يستعملون صيغا في الكتابة غير مستعملة في عصرنا فلا بد من تغييرها. ويلاحظ أيضا أننا كتبنا الأسماء المنتهية ب «ويه» على طريقة المحدّثين وليس على طريقة النّحويين، فالمحدّثون يضبطون «نفطوية» بضم الطاء وسكون الواو وفتح الياء آخر الحروف واعتبار الهاء تاء مربوطة، أما
1 / 18
النحويون فيفتحون الطاء والواو ويسكنون الياء «نفطويه»، ومثلها جميع الأسماء من هذا النوع، وإنما فعلنا ذلك لأن الكتاب الذي نحققه لمحدث يكتب هذه الأسماء على قاعدة المحدثين.
ورأينا لزاما علينا أن نلحق بالكتاب أربعة فهارس تيسر على الباحثين طلبتهم، وهي فهرس الأحاديث المرفوعة، وهي قليلة، ثم أسماء المصنفات مع ذكر مؤلفيها مرتبة على حروف المعجم، وفهرس لشيوخ ابن خير الإشبيلي الذين روى عنهم هذه المصنفات أو أجازوه فيها، ثم فهرس للأمكنة والبقاع، فضلا عن قائمة بالمصادر والمراجع المعتمدة في التحقيق.
وقد رأيت أن يشاركني في تحقيق هذا الكتاب ولدي محمود بشار بعد أن تدرج في مراتب العلم، فهو طالب تاريخ مجد ذو نهم في القراءة والتتبع، وهو ساع إلى مزيد من المعرفة، فقابل معي النصوص، وشارك في ضبط الأسماء وتخريج بعض ما احتجنا إليه من مصادر، نسأل الله جل في علاه أن يوفقه لكل خير وأن ينفع به العلم وأهليه، ويجعله من عباده الصالحين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعله خلفا لأبيه، وأن يجنبني وإياه مواطن الزلل، ويثبتنا بقوله الثابت في الحياة الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب.
كتبه بدار هجرته عمان البلقاء عاصمة الهواشم - أيدهم الله ووفقهم لكل خير - في أول شوال سنة ١٤٣٠ هـ.
أفقر العباد
بشار بن عواد
1 / 19
راموز طرة النسخة
1 / 20
راموز بداية النسخة
1 / 21
راموز الورقة (٣٩)
1 / 22
راموز الورقة (٨٠)
1 / 23