Fahimtar Fahimta
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
Nau'ikan
في محاورة «مينون»
Meno
كانت حله المقترح لهذه المفارقة (بالإضافة إلى استخدامها في محاولة إثبات خلود النفس)، في هذه المحاورة تعد عملية التعلم «تذكرا» لأشياء سبق تعلمها في حياة سابقة ثم نسيت، وفيها نجد سقراط يحاول إثبات ذلك عن طريق توجيه الأسئلة إلى صبي من عبيد مينون لم ينل أي قسط من التعليم، وينجح بطريقته السقراطية المعتمدة على مجرد توجيه أسئلة بسيطة في أن يستخلص من الصبي كيفية تكوين مربع تساوي مساحته ضعف مساحة مربع معلوم، كما نجد لهذه الأفكار المستغربة صيغة معاصرة في فلسفات اللغة التي تنظر إلى الطفل الرضيع بوصفه «لغويا صغيرا» عليه أن يترجم اللغة التي تكتنفه في مسقط رأسه إلى ذلك الوسيط الأصلي المفطور الذي لا يقل ثراء مفاهيميا عن اللغة التي يلقنونه إياها.
لا يسع المرء حين يأخذ هذه النظرية الأفلاطونية بمعناها الحرفي سوى أن يستنكرها ويستغرب مضمونها، غير أن بوسعه أيضا أن «يؤولها» ويفهمها بمعنى أقل حرفية على أنها تعني أن معرفة حقيقة جديدة يقتضينا أن نعيد تجميع ما نعرفه أصلا ونسلكه في هذا السياق الكلي.
ومن الحق أن دائرة الهرمنيوطيقا تومئ إلى منطقة من الفهم المشترك، فما دام كل تواصل هو علاقة حوارية فهو يفترض منذ البداية وجود معنى مشترك بين المتحدث والمستمع، قد ينطوي ذلك بدوره على تناقض آخر: فالشيء المطلوب فهمه لا بد أن يكون معروفا من الأصل! ولكن أليس هذا هو الحق؟! أليس من العبث أن تتحدث عن الحب إلى شخص لم يعرف الحب في حياته، أو تتحدث عن مباهج المعرفة إلى أولئك الذين يرفضونها؟ إن المرء لا بد أن يكون على معرفة بدائية ما بالموضوع الذي هو بصدد تعلمه، ولا بد أن يكون قد توفر على حد أدنى من المعرفة المسبقة الضرورية للفهم والتي بدونها يتعذر عليه أن يقفز إلى داخل الدائرة التأويلية، ولدينا مثال واضح على هذه الظاهرة فيما نجده من غموض واستغلاق لدى القراءة الأولى لكتاب عظام مثل: كيركجارد ونيتشه وهيدجر، فالمشكلة هنا هي أن فهم كتابات هؤلاء يتطلب إلماما بالاتجاه العام لفكر الكاتب، وبدون هذا الإلمام العام يتعذر فهم أقوالهم الجزئية، بل يتعذر استخلاص معنى واضح من أعمالهم الكاملة، ولا يعدم القارئ رغم ذلك لحظات عابرة يقع فيها على عبارة مفردة تضيء له كل ما كان مستغلقا عليه من قبل كأنها البارقة الخاطفة، ذلك أنها تومئ إلى ذلك «الشيء الكلي» الذي كان المؤلف يتحدث عنه.
لا يقتصر عمل دائرة الهرمنيوطيقا - إذن - على المستوى اللغوي، بل تعمل أيضا على مستوى «المادة» المقدمة أو المضمون الفكري، ولا بد لكل من المتحدث والمستمع أن يلتقيا على صعيد واحد ويشتركا في لغة القول وموضوعه أيضا، فمبدأ المعرفة المسبقة يعمل على كلا المستويين: لغة الحديث (أو وسيطه الحسي) ومادة الحديث أو موضوعه، في كل فعل من أفعال الفهم. (1) التأويل اللغوي والتأويل السيكولوجي
ثمة اتجاه متزايد في تفكير «شلايرماخر» المتأخر إلى الفصل بين مجال اللغة ومجال الفكر، أما اللغة فيختص بها التأويل اللغوي، وأما مجال الفكر فقد أسماه المجال التقني ثم أسماه المجال السيكولوجي فيما بعد، فالتأويل اللغوي يضطلع بتحديد المعنى وفقا لقوانين موضوعية وعامة، بينما يركز الجانب السيكولوجي من التأويل على ما هو ذاتي فردي، يقول «شلايرماخر»: «بالضبط كما أن لكل حديث علاقة مزدوجة باللغة كلل وبجماع تفكير المتحدث، كذلك هناك في كل فهم لحظتان: فهم للحديث بوصفه شيئا مستمدا من اللغة، وفهمه بوصفه «واقعة» في تفكير المتحدث.» تنتمي اللحظة اللغوية إلى التأويل اللغوي وتعد إجراء سلبيا وعاما يفرض حدودا ويقدم البنية التي يعمل الفكر في إطارها، وأما التأويل السيكولوجي فيرمي إلى فرادة المؤلف وعبقريته الخاصة، وهو من أجل ذلك يتطلب اندماجا وجدانيا بالمؤلف ولا يفرض حدودا ويعد الشق الإيجابي بحق في عملية التأويل.
لا شك أن كلا جانبي التأويل ضروري وهام وأنهما في تفاعل دائم في حقيقة الأمر، فالاستخدامات الفردية للغة تحدث تغييرات في اللغة ذاتها، غير أن المؤلف نفسه بإزاء لغة لا بد له من أن يضع بصمته الفردية عليها، وإذا كان المفسر يفهم الطابع الخاص للمؤلف بالإحالة إلى العام فهو أيضا يفهمه بطريقة إيجابية ومباشرة وحدسية، ومثلما أن دائرة الهرمنيوطيقا تتضمن الجزء والكل، كذلك التأويل اللغوي والسيكولوجي كوحدة واحدة يتضمن هو أيضا الخاص والعام، هذا الصنف من التأويل هو عام وواضع حدود وهو خاص وإيجابي في الوقت نفسه، يضطلع التأويل اللغوي بإيضاح العمل في علاقته باللغة، وذلك من حيث بناء عباراته وتفاعل أجزائه ومن حيث علاقته بالأعمال الأخرى التي تنتمي إلى نفس الجنس الأدبي، ووفقا لمبدأ الجزء والكل الذي أشرنا إليه آنفا، وينبغي بنفس الطريقة أن ننظر إلى فرادة المؤلف والعمل في سياق الحقائق الأكبر لحياته وبالمقارنة بحياة غيره وبأعمالهم، هكذا يتبين أن مبدأ التفاعل والإضاءة المتبادلة بين الجزء والكل هو مبدأ أساسي لشقي التأويل كليهما.
وهكذا يتجلى هدف التأويل كما يراه «شلايرماخر »، وهو إعادة بناء الخبرة الذهنية لمؤلف النص، لقد كان يصبو إلى إعادة معايشة ما عايشه المؤلف وألا ينظر في قول من الأقوال بمعزل عن قائله، ومن الجدير بالذكر رغم ذلك أن هذه المعايشة الثانية ليست بالضرورة «تحليلا نفسيا» للمؤلف، بل هي مجرد تذكير بأن الفهم هو فن إعادة بناء التفكير الخاص بشخص آخر، وبعبارة أخرى أن غايتنا ليست تحديد دوافع المؤلف السيكولوجية أو بواعث شعوره، بل إعادة تشييد الفكر نفسه الخاص بشخص آخر من خلال تأويل حديثه.
والحق أن إعادة بناء فردية المؤلف لا يمكن أن تتم بتحليل أسبابه ودوافعه، فهذا التحليل يظل عاما بدرجة محبطة، أما التأويل السيكولوجي فيتطلب معالجة حدسية بالدرجة الأساس، وإذا كان المدخل اللغوي يستخدم منهجا مقارنا ويتقدم من العام إلى خصوصيات النص، فإن المدخل السيكولوجي يستخدم كلا المنهجين: المقارن والاستشفافي
Shafi da ba'a sani ba