الفضل المأثور من سيرة السلطان الملك المنصور
تأليف
شافع بن علي الكاتب العسقلاني المصري
(٦٤٩ هـ - ٧٣٠ هـ)
نسخة مكتبة البودليان (أكسفورد) رقم ٤٢٤
تحقيق
الأستاذ الدكتور عمر عبد السلام تدمري
Shafi da ba'a sani ba
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
التعريف بالمؤلّف
هو ناصر الدين شافع بن علي بن عباس بن إسماعيل بن عساكر بن شافع ابن رافع بن عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر السعدي، الرواحي، الزنباعي.
هكذا ذكر نسبه - مطوّلا - المؤرّخ «ابن الجزري» نقلا عن كراسة كتبها «شافع» بخطّه، وفيها مولده، فهو، إذن، ينتسب إلى جدّهم الأعلى «روح بن زنباع» الجذامي، الفلسطيني، الأمير على جند فلسطين في عهد «يزيد بن أبي سفيان»، المتوفّى سنة ٨٤ هـ (^١).
ونسبة المؤلّف: الكناني، العسقلاني، المصري.
ولد ليلة الجمعة الخامس والعشرين من ذي الحجّة سنة ٦٤٩ هـ. (١٢٥٢ م). كان أبوه يعرف بالمولى القاضي نور الدين علي. وجدّه يعرف بالخطيب الفقيه عماد الدين أبي الفضل خطيب قلعة الجبل، ونائب دار العدل الصالحية النجمية الأيوبية.
أمّا هو فعرف بسبط القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، ووصف ب: القاضي، الإمام، العالم، الفاضل، الكامل، الأديب.
روى عن الشيخ جمال الدين بن مالك، وغيره.
روى عنه الشيخ أثير الدين أبو حيّان، والشيخ علم الدين البرزالي، وجمال الدين إبراهيم الغانمي، وغيره من الطلبة.
له النظم الكثير، والنثر الكثير، وكتب الخطّ المنسوب فأحسن وأجاد. وباشر كتابة ديوان الإنشاء بمصر زمانا إلى أن أضرّ. ويعود الفضل للأمير سيف الدين
_________
(^١) تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، للذهبي - بتحقيقنا - طبعة دار الكتاب العربي، بيروت - (حوادث ووفيات ٨٠ - ١٠٠ هـ) ص ٦١ - ٦٣ رقم ٢٨.
1 / 5
بلبان الرومي الظاهري بتقديمه لخدمة السلطان، حيث عوّل عليه في المكاتبات، سرها وجهرها، مع صغر سنّه وكبر قدر وسنّ من في ديوان الإنشاء (^١).
وكان كثير المحاضرت ويعنى بأخبار الناس والتأريخ وفنّ الأدب والنحو والترسّل والنظم.
أصيب في وقعة حمص سنة ٦٨٠ هـ. بسهم نشّاب خالط دماغه، وفقد منه بصره، وبقي أعمى خمسين عاما حتى مات في شهر شعبان سنة ٧٣٠ هـ. وقد خلّف نحو العشرين خزانة ملأى بالكتب الأدبية النفيسة، إذ كان جمّاعة للكتب في حياته، وكان «شهاب الدين البوتيجي الكتبي بالقاهرة» يخبر أنه كان إذا لمس الكتاب وجسّه قال: هذا الكتاب الفلاني وهو لي ملكته في الوقت الفلاني، وكان إذا أراد أيّ مجلّد، قام إلى خزانة وتناوله منها كأنه الآن وضعه هناك بيده.
زاره المؤرّخ «شمس الدين محمد بن عبد الله الجزري» في داره بالقاهرة سنة ٧١٣ هـ. فكتب عن لقائه ما نصّه:
«طلعت إلى عنده إلى داره، فلما دخلت عليه قام قائما وهو يومئذ ضرير (^٢). وكان تحته طرّاحة صغيرة لا تقع لأحد غيره، فشالها من تحته وقال: لا بدّ أن تضعها تحتك، فحلفت بالله تعالى أني ما أفعل. وقال لي: عندي خبر مجيئك القاهرة، ولي مدّة أشتهي مجيئك إلى عندي، وقد وقعت على رخيص. وأخرج دراهم وزعق لعبده حتى يشتري شيئا، فحلفت أنه ما يشتري شيئا فأذوقه (^٣)، وقلت له: ما قصدي إلاّ رؤيتك وفوائدك. فقال: كان تاريخك الذي عند الأمير نجم الدين ابن المحفدار له عندي مدّة، [فقلت]: ونحن نستفيد من فوائدك. وكنت أخذت معي كرّاسة بيضاء حتى أكتب من نظمه شيئا، فحلف أنه ما يكتب إلاّ في ورق من عنده حتى أكون أذكره بذلك، فقمت وجئت إليه بعد أيام فوجدته قد خلّى ابن حماه قد كتب لي كرّاسة فيها نسبه ومولده وشيء (^٤) من نظمه ونظم غيره، وحلّفني أنّ مدّة مقامي بالقاهرة لا أنقطع عنه أكثر من يومين والثالث أكون عنده، فسألته عن سبب عماه فقال: في وقعة حمص سنة ثمانين دخلت أنا وشمس الدين ابن قريش رفيقي أحد كتّاب الإنشا إلى بستان وجمعة كبيرة، فما كان إلاّ ساعة
_________
(^١) الفضل المأثور، ورقة ٢٤ ب.
(^٢) في أصل النص: «ضريرا».
(^٣) في أصل النص: «شي فادوقه».
(^٤) في أصل النص: «وشيا».
1 / 6
والتتر قد دخلوا إلينا، فوقع في رأسي سهم نشّاب فاختلط دماغي ووقعت بين القتلى، وقتل كل من كان في البستان. فلما كان في الليل قمت ومشيت. ووقع لي من أوصلني إلى العسكر ومرضت وعميت، وأبقى (^١) عليّ السلطان الشهيد الملك المنصور جامكيّتي التي كانت لي في الديوان، والراتب فأنا أتناوله إلى الآن» (^٢).
ومن شعر «شافع» بعد عماه:
أضحى وجودي برغمي في الورى عدما ... إذ ليس لي فيهم ورد ولا صدر
عدمت عيني ومالي فيهم أثر ... فهل وجود ولا عين ولا أثر (^٣)
وله وقد ليم على الاستكثار من شراء الكتب:
وما شغفي بالكتب إلاّ لأنها ... تسامرني من غير غيّ ولا ضجر
وأحسن من ذا أنها في صحابتي ... تجنّب تكليفي وتقنع بالنظر
وله يذكر ميله إلى فنّ النحو:
لقد ضاق صدري من مقاساة من غدا ... يطالع لي أو سامر همّه فكري
وعمري لولا النحو والميل نحوه ... لما كنت محتاجا لزيد وعمرو
ويبدو أن زوجته احتاجت إلى المال بعد وفاته، وكانت تعرف ثمن كل كتاب من كتبه، فبقيت تبيع منها إلى سنة ٧٣٩ هـ. حيث غادرت القاهرة بعدها.
مؤلفاته:
اجتمع المؤرّخ «صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي» بالمؤلّف في سنة ٧٢٨ هـ. بالقاهرة، وتبادلا إنشاد الشعر، والكتابة النثرية، وطلب منه «الصفدي» إجازة بجميع مرويّاته من كتب الحديث وأصنافها، ومصنّفات العلوم على اختلافها، وغير ذلك من قراءة أو سماع أو إجازة أو مناولة أو وصيّة، وصدّر استدعاءه المؤرّخ في مستهلّ جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بقوله:
_________
(^١) في أصل النص: «وأبقا».
(^٢) النص في: تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه، لابن الجزري - مخطوط كوبريلي ١٠٣٧ - وقد قمت بتحقيقه ويصدر عن دار المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، رقم الترجمة ٤٥٢.
(^٣) الوافي بالوفيات، للصفدي ١٦/ ٨٢، أعيان العصر، له (مصوّر) ج ١/ ٤٢١، الدرر الكامنة، لابن حجر ٢/ ١٨٥، المنهل الصافي، لابن تغري بردي ٦/ ١٩٧.
1 / 7
«المسؤول من إحسان سيّدنا الشيخ الإمام العالم المفيد القدوة، جامع شمل الأدب، قبلة أهل السعي في تحصيله والدّأب:
أخي المعجزات اللائي أبدت طروسه ... كأفق به للنيّرات ظهور
وما ثمّ إلاّ الشمس والبدر في السما ... وذاك شموس كلّه وبدور
البليغ الذي أثار أوابد الكلم من مظانّ البلاغة، وأبرز عقائل المعاني تتهادى في تيجان ألفاظه، فجمع بين صناعة السحر والصياغة. . .» إلى أن قال:
لا زال في هذا الورى فضله ... يسير سير القمر الطالع
حتى يقول الناس إذا أجمعوا ... ما مالك الإنشا سوى «شافع»
فأجابه المؤلّف برسالة نثريّة، مؤرّخة بيوم الأحد خامس عشر صفر. ذكر فيها أسماء مصنّفاته، وهي:
١ - الأحكام العادلة فيما جرى بين المنظوم والمنثور من المفاضلة.
٢ - الإشعار بما للمتنبّي من الأشعار.
٣ - الإعراب عمّا اشتمل عليه البناء الملكي الناصري بسرياقوس من الإغراب.
٤ - إفاضة أبهى الحلل على جامع قلعة الجبل.
٥ - تجربة الخاطر المخاطر في مماثلة فصوص الفصول وعقود العقول.
(ممّا كتب به عن القاضي الفاضل في معنى السعيد ابن سناء الملك).
٦ - حسن (^١) المناقب السريّة المنتزعة من السيرة الظاهرية.
٧ - الدّرّ المنتظم في مفاخرة السيف والقلم.
٨ - ديوان شعره.
٩ - الرأي الصائب في إثبات ما لا بدّ منه للمكاتب.
١٠ - سيرة السلطان الملك الأشرف.
١١ - شنف الآذان في مماثلة تراجم قلائد العقيان. (مناظرة الفتح بن خاقان).
_________
(^١) كلمة «حسن» لم ترد في الوافي بالوفيات، ولا في أعيان العصر، وهي مثبتة على النسخة الخطّيّة في المكتبة الأهلية بباريس رقم ١٧٠٧ (وفي مكتبتي نسخة مصوّرة عنها)، وقد حقّقها ونشرها عبد العزيز خويطر في الرياض سنة ١٩٧٦.
1 / 8
١٢ - شوارد المصايد فيما لحلّ الشعر من الفوايد.
١٣ - عدّة الكاتب وعمدة المخاطب.
١٤ - الفضل المأثور من سيرة السلطان الملك المنصور. (وهو كتابنا هذا) وسمّاه: سيرة السلطان الشهيد الملك المنصور المتضمّنة جزءا التي حسنتها على ألسنة الرعايا متردّدة.
١٥ - قراضات الذهب المصرية في تقريظات الحماسة البصرية.
١٦ - قلائد الفرائد وفرائد القلائد فيما للشعراء العصريين الأماجد.
١٧ - ما ظهر من الدلائل في الحوادث والزلازل.
١٨ - ما يشرح الصدور من أخبار عكا وصور. (وهو نظم).
١٩ - مخالفة المرسوم في الوشي المرقوم.
٢٠ - المساعي المرضيّة في الغزوة الحمصيّة. (انظر آخر الصفحة ٥٨ ب من المخطوط) (^١).
٢١ - المقامات الناصرية.
٢٢ - مماثلة سائر ما حلّ من الشعر وتضمين الآي الشريفة والأحاديث النبوية في المثل السائر.
٢٣ - مناظرة ابن زيدون في رسالته.
٢٤ - نظم الجواهر في سيرة مولانا السلطان الملك الناصر. (وهي منظومة متضمّنة أجزاء متعدّدة) (^٢).
وقد أضاف الدكتور «شاكر مصطفى» إلى قائمة مصنفاته «التاريخية» كتاب:
نظم السلوك في تواريخ الخلفاء والملوك وقال إنّ «ابن الفرات» اعتمده في مواضع كثيرة من تاريخه (^٣). وهو تاريخ إسلاميّ مختصر ينتهي إلى سنة ٨٠٦،
_________
(^١) حيث قال المؤلف: «وقد أفردت لها (أي موقعة حمص سنة ٦٨٠ هـ). جزءا مستقلاّ برسم الخزانة العالية المولوية السلطانية».
(^٢) انظر: الوافي بالوفيات ١٦/ ٧٧ - ٨٥، وأعيان العصر ١/ ٤١٨ - ٤٢٥.
(^٣) انظر: تاريخ الدول والملوك، لابن الفرات (مخطوط فيينا) ج ٣ / ورقة ١٦٨ أ، وج ٤ / ورقة ١٦٥ أ، وفيه يقول: «وقال القاضي ناصر الدين شافع بن علي سبط القاضي ناصر الدين شافع بن علي سبط القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في تأليفه «نظم السلوك في تواريخ الخلفاء والملوك»، وقال بعض أهل التاريخ إن. . .».
1 / 9
ويستند إلى ابن الأثير، وابن أبي طيّ، وابن ميسّر، وابن واصل، وابن عبد الظاهر.
وأضاف الدكتور «شاكر» بقوله: «وثمّة شك في نسبة هذا التاريخ إلى سبط عبد الظاهر المتوفى سنة ٧٣٠ بسبب امتداده إلى سنة ٨٠٦، وصاحب «كشف الظنون» يعزوه إلى عبد الرحمن بن محمد (أو ابن علي) بن أحمد البسطامي الحنفي المتوفّى سنة ٨٤٣، ولكن النصّ الواضح لدى ابن الفرات المتوفى ٨٠٧ (قبل البسطامي بكثير) وانتهاء هذا التاريخ سنة ٨٠٦ يشكّك بدوره في نسبته إلى البسطامي. فهل كان الكتاب في الأصل من عمل شافع، ثم زاد فيه البسطامي قرنا آخر أو بعض القرن ونسبه إلى نفسه؟» (^١).
مصادر ترجمة المؤلف
١ - الوافي بالوفيات، للصفدي - ج ١٦/ ٧٧ - ٨٥ رقم ٩٧.
٢ - أعيان العصر، للصفدي - (مصوّر) ج ١/ ٤١٨ - ٤٢٥.
٣ - نكت الهميان في نكت العميان، للصفدي - ص ١٦٣.
٤ - فوات الوفيات (^٢)، لابن شاكر الكتبي - ج ٢/ ٩٣ - ٩٥ رقم ١٨٧.
٥ - تذكرة النبيه، لابن حبيب الحلبي - ج ٢/ ٢٠٨، ٢٠٩.
٦ - درّة الأسلاك، لابن حبيب الحلبي - (المصوّر) ج ٢/ ٢٦٥.
٧ - السلوك، للمقريزي - ج ٢ ق ٢/ ٣٢٧.
٨ - الدرر الكامنة، لابن حجر - ج ٢/ ١٨٤ - ١٨٦ رقم ١٩٢٢.
٩ - النجوم الزاهرة، لابن تغري بردي - ج ٩/ ٢٨٤، ٢٨٥.
١٠ - الدليل الشافي، لابن تغري بردي - ج ١/ ٣٤٠ رقم ١١٦٩.
١١ - المنهل الصافي، لابن تغري بردي - ج ٦/ ١٩٦ - ١٩٨ رقم ١١٧٢.
١٢ - حسن المحاضرة، للسيوطي - ج ١/ ٥٧١.
١٣ - حوادث الزمان وأنبائه، لابن الجزري (مخطوط) - رقم الترجمة ٤٥٢.
_________
(^١) التاريخ العربي والمؤرّخون - د. شاكر مصطفى - طبعة دار العلم للملايين، بيروت ١٩٩٠ - ج ٣/ ١١٩.
(^٢) وفيه وفاة المؤلّف سنة ٧٣٣ هـ. وهو غلط.
1 / 10
١٤ - كشف الظنون - لحاجّي خليفة - ص ١٢٦٠.
١٥ - إيضاح المكنون - للبغدادي - ج ١/ ١٢ و٣٥ و٩٩ و٢٢٧ و٢٩٤ و٤٤٩ و٢/ ٣٤ و٥٨ و٩٥ و٢٢٢ و٢٣٩ و٤٢٠ و٤٤٦ و٤٧٢ و٥٣٧ و٥٦١ و٦٥٨ و٦٦٠.
١٦ - فهرس المخطوطات المصوّرة للطفي عبد البديع - ج ٢/ ١١٦.
١٧ - معجم المؤلّفين، لكحّالة - ج ٤/ ٢٨٩.
١٨ - القاموس الإسلامي، لأحمد عطيّة الله - ج ٤/ ١٤.
١٩ - التاريخ العربي والمؤرّخون، للدكتور شاكر مصطفى - ج ٣/ ١١٨، ١١٩.
Brockelmann - S، ١١ / ٤٢ - ٢٠
أهمّيّة الكتاب ومادّته
يكتسب هذا الكتاب أهمّيّته من كونه مصدرا أساسيا لحقبة من أهمّ الحقب التاريخية في صراع الشرق والغرب، إذ تؤرّخ لفترة من الحروب الصليبية، ولصفحة من العلائق بين المماليك وكلّ من الفرنج والتتار والأرمن وغيرهم، وذلك من خلال التأريخ لسيرة السلطان المنصور قلاوون. ولكون مؤلّفه مؤرّخا معاصرا، ومشاركا في مجريات بعض الأمور التي نطالعها بين طيّات كتابه. يضاف إلى هذا وذاك أنه يؤرّخ لسيرة السلطان قلاوون مؤسّس الأسرة التي حكمت دولة المماليك أكثر من مائة عام. وهو لم يحصر كتابه ضمن إطار الإثنتي عشرة سنة فقط، وهي المدّة التي قضّاها قلاوون في الحكم (٦٧٨ - ٦٨٩ هـ / ١٢٧٩ - ١٢٩٠ م). بل يؤرّخ لقلاوون منذ أن كان في الرابعة عشرة من عمره حين اختصّه لنفسه السلطان الأيوبي الملك الصالح نجم الدين أيوب، الذي استنابه أبوه السلطان الكامل محمد على مصر سنة ٦٢٥ هـ / ١٢٢٩ م. كما يؤرّخ لسيرته في عهد السلطان الظاهر بيبرس، مرورا بعهد شجر الدّرّ، والملك عزّ الدين أيبك التركماني، وتزويج الملك السعيد ابن الظاهر بيبرس من ابنته، وسلطنة الملك السعيد بعد وفاة أبيه الظاهر، ثم سلطنة أخيه بدر الدين سلامش، حتى تولّى هو السلطنة. ما يعني أنّ الكتاب يؤرّخ لنحو خمس وستين سنة.
ولم يقف المؤلّف بكتابه عند وفاة قلاوون سنة ٦٨٩ هـ / ١٢٩٠ م، بل زاد
1 / 11
على ذلك سنة أخرى (٦٩٠ هـ / ١٢٩١ م). وهي التي تمّ فيها فتح عكا وصور وصيدا وبيروت وتحريرها من الفرنج الصليبيين، على يد السلطان الأشرف خليل ابن قلاوون.
وفي الكتاب مجموعة من نصوص المعاهدات والمراسلات السلطانية والمكاتبات التي تعتبر من وثائق عصر الحروب الصليبية، بعضها انفرد به المؤلّف ولا توجد في أيّ مصدر آخر، وبذلك تتوفّر لدى المهتمّين بدراسة الوثائق مادّة جديدة، كما يجد المعتنون بالآداب نثرا ونظما وشعرا كميّة تضاف إلى المتوفّر من أدبيّات عصر المماليك، ومن ذلك ما كتب المؤلّف من إنشائه يبشّر بالنصر على التتار في وقعة حمص سنة.٦٨٠ هـ / ١٢٨١ م (^١). وما أنشده ممتدحا السلطان قلاوون بنصره في الوقعة. رغم إصابته هو بسهم نشّاب جرح جسمه وقلبه، بقصيدة مطلعها:
نجحت مساعي سيفك البتّار ... بالحدّ في دم أرمن وتتار (^٢)
وكتابته لمنشور باستقرار الأمير سنقر الأشقر بصهيون (^٣)، وكتاب موادعة السلطان قلاوون لخضر ابن السلطان الظاهر ونزوله من الكرك (^٤)، وكتابة جواب على كتاب خضر ابن الظاهر باستدعاء الأمير علاء الدين الحرّاني (^٥). والتهنئة بفتح طرابلس، نثرا وشعرا (^٦)، ورثاء السلطان قلاوون عند وفاته (^٧). والتهنئة شعرا بفتح عكا وصور وصيدا (^٨). وهي نصوص لا توجد عند غيره.
ومن الأخبار التي انفرد بها المؤلّف في الكتاب خبر وجود مكاتبين نصحاء للسلطان قلاوون داخل طرابلس الشام وهي تحت حكم الفرنجة الصليبيّين. ومحاولة الفرنج التنكّر بزيّ التتار لإيهام المسلمين وخداعهم (^٩). ومحاججته بنفسه لرسول فرنجة طرابلس بشأن عرقة القريبة منها (^١٠). ووصفه لحصن المرقب (^١١)، ما يعني أنه رآه قبل أن يفقد بصره في سنة ٦٨٠ هـ. وفتواه للسلطان الأشرف خليل بفسخ الهدنة مع الفرنج في عكا (^١٢).
_________
(^١) الفضل المأثور، ورقة ٥٢ ب، ٥٣ أ.
(^٢) الفضل المأثور، ورقة ٥٧ أ، ب.
(^٣) الفضل المأثور، ورقة ٦٤ أ.
(^٤) الفضل المأثور، ورقة ١٠٠ ب، ١٠١ أ.
(^٥) الفضل المأثور، ورقة ١٠٢ ب.
(^٦) الفضل المأثور، ورقة ١١٣ ب.
(^٧) الفضل المأثور، ورقة ١٢٠ ب.
(^٨) الفضل المأثور، ورقة ١٣٤ ب.
(^٩) الفضل المأثور، ورقة ٤٩ أ.
(^١٠) الفضل المأثور، ورقة ١٠٩ أ.
(^١١) الفضل المأثور، ورقة ١٠٥ ب، ١٠٧ أ.
(^١٢) الفضل المأثور، ورقة ١٢٨ ب، ١٢٩ أ.
1 / 12
وصف المخطوط وتحقيقه
توجد من المخطوط نسخة فريدة في مكتبة البودليان بإكسفور، رقم ٤٢٤، وتتألّف من ١٣٦ ورقة، وهي في الأصل نسخة خزائنية برسم الخزانة العالية للسلطان المنصور قلاوون، مسطرتها ٢١ × ١٤.٥ سم. في الصفحة ١٣ سطرا، وفي السطر ١١ كلمة، وهي بخط الثلث، جيّدة واضحة، ذهبت الأرضة بقليل من الكلمات في الصفحة الأولى. وهي قليلة الحواشي، إلاّ أنّ النصّ يحتوي على كثير من الأخطاء والأغلاط النحوية واللّغويّة. وقد تركتها كما وردت للحفاظ على لغة الكتاب، ونبّهت إلى الأغلاط وصوابها في الحواشي. وقابلت مادّة الكتاب على عدّة مصادر، وأوضحت أماكن الاختلاف، مع شرح الألفاظ والمصطلحات، والتعريف بأعلام الأشخاص والأماكن.
وفي الكتاب فقرات ومواضيع لها عناوين، وفقرات ومواضيع كثيرة أخرى من غير عناوين، قمت بوضع عناوين لها بين حاصرتين []، أمّا الكلمات التي وردت في الأصل على الهامش أو بين السطور فقد وضعتها في أماكنها بالمتن بين قوسين (). وألحقت بآخر الكتاب عدّة فهارس، ليكتمل بذلك هذا العمل.
ويسعدني أن أقدّم هذا الكتاب محقّقا لأول مرة لينضمّ إلى تراث أمّتنا الخالد والله الموفّق.
١٨ جمادى الثاني ١٤١٨ هـ / ٢٠ تشرين الأول ١٩٩٧ م.
عمر عبد السلام تدمري
طرابلس المحروسة
1 / 13
الفضل المأثور من سيرة السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين أبي الفتح قلاون خلّد الله سلطانه برسم الخزانة العالية المولويّة المخدومية المالكيّة الشهابيّة عمّرها الله تعالى ببقائه خدمة المملوك المنصوري
شافع بن علي الكاتب (٦٤٩ - ٧٣٠ هـ) استفاد منه أحمد بن علي لطف الله (به)
1 / 15
ورقة غلاف الكتاب «الفضل المأثور»
1 / 17
الورقة الثانية من «الفضل المأثور»
1 / 18
الورقة ٣٧ من «الفضل المأثور»
1 / 19
الورقة الأخيرة من «الفضل المأثور»
1 / 20
المطالعات في آخر «الفضل المأثور»
1 / 21
[مقدمة المؤلف]
/ ٢ أ / بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وما توفيقي إلاّ بالله الحمد لله الذي أعزّ الإسلام وأهله بأعزّ سلطان. وجبلهم منه بمن وقف عند أمر الله فلم يتجاوز في حكمه العدل وفي اقتداره الإحسان. وخوّلهم خير ملك يكبره العيان. ويتنزّه في منظره ويتمتّع بمخبره كلّ إنسان. وأراد بهم خيرا فولي عليهم خيارهم فقرن الاقتتان، من جميل خلقه وخلقته بالإقتان. وجعلهم رعيّة لخير راع لم يزالوا من عنايته بأعزّ مكان. وعمّهم بفيض إنعامه حتى غدى (^١) المقلّ بسوابغها وهو ذو إمكان. نحمده على جزيل الامتنان.
ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له الرحيم الرحمن. ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي محى (^٢) (الله) (^٣) بدين مبعثه سائر الأديان. صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا تزال حلية اللسان. وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ سير الملوك الصّيد نزهة من (. . .) (^٤) وذكرى من اذّكّر، وعبرة لمن اعتبر. وأعوذ. . . . . . مثاله، ودليل على سداد الملك في أقواله / ٢ ب / وأفعاله، وهو عنوان سطور علاه، ودرج لا درج مودع ثمين حلاه، وشاهد بحزمه، وموضح قوّة عزمه، وسمير يؤنس بحديثه، وجليس يستفهم منه (كنه) (^٥) قديم (عزّ) (٥) سلطانه وحديثه. لا سيما إذا كان ملكا هماما، وسلطانا فضلت أيامه بالعدل والإحسان أياما فأيّاما. وجوادا إن استمطر كفّه كان غماما. وإن اعتبرت قلائد مننه اتّسقت نظاما. وإن ذكرت فروسّيته كانت أعلا (^٦) من عنتر وعبسيّته، ومن البطّال (^٧)
_________
(^١) الصواب: «غدا».
(^٢) الصواب: «محا».
(^٣) كتبت فوق السطر.
(^٤) كلمة مطموسة.
(^٥) عن الهامش.
(^٦) الصواب: «أعلى».
(^٧) هو أبو محمد عبد الله البطّال، أحد الغزاة المجاهدين والأبطال الذين يضرب بهم المثل. كان يغزو الروم في إقليم الثغور. قتل في سنة ١٢٢ هـ. (تاريخ الطبري ٧/ ١٩١) وقيل ١٢١ هـ. (تاريخ خليفة بن خيّاط ٣٥٢ وتاريخ الإسلام (١٢١ هـ ١٤٠ هـ). ص ٦، والبداية والنهاية ٩/ ٣٣٤، والنجوم الزاهرة (١/ ٢٨٦) ويقال كنيته: أبو يحيى.
1 / 23
وفروسيّته. وإن تلمّحت آراؤه (^١) ألفي الصواب مكتنفا بجوانبها، والسّداد محيطا بمذاهبها.
كمولانا السلطان الملك المنصور، السيّد، الأجلّ، العالم، العادل، المؤيّد، المظفّر، سيف الدنيا والدين (سلطان الإسلام والمسلمين) (^٢)، قامع الخوارج والمتمرّدين، محّيي العدل في العالمين، أبي الفتح قلاون الصالحي، خلّد الله ملكه، فإنه أتمّ الملوك خلقا وخلقا، وأحسنهم وجاهة ووجها طلقا، وأطوعهم باعا، وأجلّهم أوضاعا، وأكثرهم إقداما، وأثبتهم أقداما، وأشرفهم أياما، وأوفرهم من العدل / ٣ أ / والإحسان أقساما. وقد تدارك الله به الأمّة، وأوضح به سداد أحوالهم وقد كان أمرهم عليهم غمّة. فكان نصر الله فجاء هو والفتح المبين، وسببه إلاّ أنه السبب المتين.
ملك أغاث الله إذ وافا (^٣) ... به بعد ما كادت تزيغ قلوب
وأتى ونيران الضغائن تصطلى ... وبها قلوب المخلصين تذوب
فيه وقد أمّ الرعيّة أخمدت ... ولقد لها لولا سطاه لهيب
وكنت قد باشرت خدمته كاتب إنشاء سفرا وحضرا، ووردا وصدرا، ومعاني وصورا، وآيات وسورا، وخبرا وخبرا، وتأثيرا وأثرا. وكتبت عنه سرّا وجهرا. وشهدت وقائعه برّا وبحرا. واطلعت على ما لم يطّلع عليه غيري بمشافهته. وعلمت من أحواله ما لم يعلمه إلاّ كاتب سرّه بوساطة مشاركته. وحضرت مهادنته وموادعته. وكتبت بما استقرّ منها، وحرّرت نسخ الأيمان له وعليه. وأوضحت من شكوكها مبهمه، فأوجب على ذلك أن أسطّره (عند المثول بين يديه) (^٤) محاسن أيامه الزاهرة، وأن أثبّتها لتغدو على ألسنة الأقلام على الدوام والاستمرار سائره، وأنا أشرع وبالله التوفيق.
_________
(^١) في الأصل: «آراه».
(^٢) ما بين القوسين عن الهامش.
(^٣) الصواب: «وافى».
(^٤) ما بين القوسين عن الهامش.
1 / 24
ذكر ابتداء أمر مولانا السلطان
أجمع الناس قاطبة ممّن عاصرته أنّه لم يرد البلاد في جلبة من الجلبات أحسن منه ولا أكمل، ولا أبهى ولا أجمل، ولا أتمّ خلقة ولا خلقا، ولا أصوب صمتا ولا نطقا. ولهذا ازدحمت عليه عند وصوله وهو ابن أربعة عشر (^١) سنة أرباب الرغبات، وبذلت فيه الألوف من الذهب وأجلّته عن الماآت. فكان الألفيّ قامة، والألفيّ قيمة، وإنّه لأعلى وأغلى، والبدريّ صورة، والبدريّ سعرا، وإنّ محلّه لأجلّ وأعلا (^٢).
كان، خلّد الله سلطانه، عظيم الوجه والجهه، مزهر اللّون فدونه الزهرة والحيهه، غليظ المنكبين، مخرزم العينين. تامّ القامة، لم يزل عليه للسلطنة علامه، مهاب الشخص، لا يرى المتبع في تمام خلق الله فيه من نقص. ارتجعه السلطان السعيد الشهيد الملك الصالح / ٤ أ / نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب. واختصّه لنفسه، واختاره لعظيم جنسه، وادّخره ليومه من أمسه، وحدس فيه وراثة الملك فما خاب في حدسه. وكبر في دولة الملك الصالح المذكور على صغر سنّه، وظنّ فيه خيرا فكان عند حسن ظنّه.
ولمّا توفي السلطان الملك الصالح إلى رحمة الله صارت خوجد اشيّة (^٣) له تبعا، والتفّوا عليه مقتدين به فلا يقفون إلاّ إن وقف ولا يسعون إلاّ إن سعى.
وقامت شجر الدّرّ (^٤) أمّ خليل بعد سيّدها الملك الصالح وهو على حاله
_________
(^١) الصواب: «أربع عشرة».
(^٢) الصواب: «وأعلى».
(^٣) خوجداشية - خوشداشية - خشداشية - فارسية معرّبة من: خوشداش بمعنى الزميل في الخدمة. ولقّب الأمراء المماليك الذين نشأوا عند سيّد واحد بالخشداشية. (معجم الألقاب والمصطلحات التاريخية ١٦٢) ويقابلها في الفرنسية: Camarades .
(^٤) ستأتي مصادر ترجمتها في أواخر الكتاب.
1 / 25
من التعظيم، واستولى الفارس أقطاي خوجداشه وهو عنده في غاية التبجيل والتكريم.
وملك الملك المعزّ عزّ الدين أيبك (^١) التركماني الجاشنكير (^٢) الصالحي وهو عنده بأعلا (^٣) رتبه، وأسمى هضبه. وصار الملك لولده قاقان وهو بالمحلّ الأسنى من دولته، والمكانة العظمى من مملكته.
وإلى الملك المظفّر سيف قطز (^٤) / ٤ ب / المعزّي وهو المشار إليه، والمعوّل في عقد المشور وحلّه عليه. وما من خشداشيّته إلاّ من اعتقل، وعن رتبته من التعظيم إلى ما ينافيه نقل. إلاّ مولانا السلطان فإنه لم تمتدّ إليه يد انحطاط قدر في دولة من هذه الدول. ولا تخلّل عظم قدره خلل. بل لم يزل أميرا يستشار، وكبيرا إليه يشار.
ثم جاءت دولة السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس (^٥) الصالحيّ، فأخذه بكلتي يديه، واعتمد في استقرار ملكه عليه، وجعله رأس مشورة، وخير مبتدئه ومبتدأ خبره. واعتمد معه ما لم يعتمده ملك مع أمير، ولا سلطان مع مشير.
ذكر الأمور التي اعتمدها الملك الظاهر معه
منها: إنه لم يقدّم شيئا عند تمام ملكه على تكثير عدد إمرته، وأجناد رتبته، وجودة أقطاعه، وتوفير جملة أرزاقه المناسبة لكثرة / ٥ أ / أتباعه، وقدّمه على المئين (^٦)، واعتمد منه على القويّ المكين. وأنزله منه منزلة الشقيق، والصديق الشفيق.
_________
(^١) أنظر: النور اللائح، لابن القيسراني - بتحقيقنا - ص ٥٦ هـ طبعة دار الإنشاء، طرابلس ١٩٨٢.
(^٢) الجاشنكير: لفظ فارسيّ معناه: متذوّق الطعام. أطلق في العصر الأيوبي واستمرّ حتى العصر العثماني على المتحدّث على مأكول السلطان وشرابه والمسوؤل عن سلامته وخلوّه من السّموم، وأصبح من أخصّ موظّفي قصر السلطان: (حدائق الياسمين لابن كنان - ص ١٣٢).
(^٣) الصواب: «بأعلى».
(^٤) هو الثالث من ملوك الترك بالديار المصرية. استولى على السلطنة في سنة ٦٥٧ هـ. وقتل في سنة ٦٥٨ هـ. وستأتي مصادر ترجمته في موضعها من الكتاب.
(^٥) هو الرابع من ملوك الترك بالديار المصرية. استولى على السلطنة بعد مقتل قطز. في سنة ٦٥٨ هـ. وبقي حتى توفي سنة ٦٧٦ هـ. وستأتي مصادر ترجمته في موضعها من الكتاب.
(^٦) كتبها في الأصل: «المإين».
1 / 26