ولم يزل هذا شأننا حتى بدأت حاشية الظلام ترق عن بياض الفجر فتلمع بعض أشعته من خلالها كما يلمع الماء من خلال الطحلب، فحاولنا أن نرى سطح البحر فلم نستطع؛ لأن الضباب كان كثيفا جدا، كأنما قد بنى دوين السماء سماء أخرى لا يرى الرائي من خلالها غير بعض القمم العالية تطفو وترسب كما يطفو الغريق ويرسب في عباب الماء، ثم استطعنا بعد حين أن نرى على سطح البحر شيئا أشبه بغمامة كثيفة، فتأملناه، فإذا هو جزيرة العنبر التي زعموا أن السفينة محتبسة بشاطئها، إلا أننا لم نر السفينة بحال من الأحوال.
وهنا حضر المسيو لابوردونيه حاكم الجزيرة راكبا جواده ووراءه فصيلة من الجند تحمل بنادقها على عواتقها، فأمرها أن تصطف صفا واحدا، ففعلت، فأمرها أن تطلق بنادقها فأطلقتها، فلم نلبث أن رأينا نورا لمع على سطح البحر، وأعقبه دوي مدفع، فعلمنا أن السفينة غير بعيدة عنا، فتقدمنا جميعا نحو الشاطئ لنتحقق من رؤيتها، فاستطعنا بعد لأي أن نرى شبحها الغارق في عباب الضباب، وأن نرى سواريها الذاهبة في كبد السماء، وأن نسمع - برغم جرجرة الآذي وزمجرته - صوت ربانها وهو يصرخ صرخاته العظمى التي يستنهض بها همم رجاله، فأمر الحاكم بإعداد زورق لنجدتها، وبإشعال النار على طول الشاطئ لترى على ضوئها الزورق المعد لإنقاذها، فما رأت النار حتى أخذت تطلق مدافعها تباعا، واستمر التخاطب بهذه اللغة النارية بينها وبين الشاطئ ساعة طويلة.
وإنا لكذلك إذ دلف إلى الحاكم شيخ زنجي هرم يدب على عصاه، وقال له: إننا نسمع يا سيدي منذ الليلة زمجرة هائلة تنحدر إلينا من قمة الجبل، ونرى أوراق الأشجار تهتز وتضطرب دون أن تهب علينا ريح، ونرى طيور البحر هاربة إلى البر أسرابا أسرابا دون أن يزعجها مزعج، أو يطاردها مطارد، فهي العاصفة، ما في ذلك ريب ولا شك، فأنقذوا السفينة قبل هبوبها، فإن لم تفعلوا فانفضوا أيديكم منها إلى الأبد.
فاصفر وجه الحاكم، وشعر برعدة شديدة في جسمه، إلا أنه تجلد واستمسك، وصاح: سأنقذها ولو كان في ذلك حياتي!
ولقد صدق الزنجي فيما قال، فقد لبس الجو حلة غريبة لا عهد له بمثلها من قبل، وكأنما انبعث في جميع أوصاله رعشة شديدة كتلك الرعشة التي تنبعث في جسم المحموم، وأقبلت طيور البحر من كل صوب هاربة إلى البر كأن مطاردا يطاردها ويشتد على أثرها، وتراءت قطع السحاب سوادء قاتمة تلمع في خلالها نقط نارية حمراء كما يلمع بصيص النار من خلال الرماد، وامتلأ الجو بفحيح الأفاعي، وطنين البعوض، وزمجرة الوحوش.
الفصل الثالث والعشرون
العاصفة
في نحو الساعة السابعة سمعنا قعقعة عظيمة، قد انبعثت من جميع جهات البحر في آن واحد، فاهتزت الأرض والسماء، ودارت الأرض الفضاء، وانقلب عال كل شيء سافله وصاح الجميع «العاصفة».
هنا رأينا منظرا هائلا مخيفا جمدت له دماؤنا في عروقنا، ومشت له قلوبنا في صدورنا، وما أحسب إلا أنه ستمر بنا الأيام والليالي ولا نستطيع أن ننساه حتى تبرد أعظمنا في ثراها؛ رأينا الضباب الذي كان يحول بيننا وبين رؤية السفينة قد انحسر دفعة واحدة، فإذا السفينة ذرة هائمة في ذلك الفضاء الواسع، تقبل بها الريح وتدبر، وتعلو بها الأمواج وتسفل، إن حاولت الدنو من الشاطئ وقفت في وجهها الصخور الناتئة المحددة الأطراف كأنها رماح مصوبة إلى صدرها، أو أرادت النكوص على عقبها والانسياب في طريق أخرى غير هذه الطريق عجزت عن مقاومة التيار؛ لأنها أصبحت مجردة من جميع قواها وأسلحتها، فقلوعها ممزقة، وألواحها متناثرة، وحبالها متطايرة وسواريها منكسة، وأعلامها ساقطة، ورجالها متهافتون على سطحها لما نالهم من الأين والإعياء، وقد بدأ مؤخرها يهبط، ومقدمها يرتفع؛ أي إن الهلاك قاب قوسين منها أو أدنى.
وكانت العاصفة في تلك اللحظة قد بلغت أشدها، فرأينا الموج يرتفع ارتفاع الجبال حتى يصك بمنكبه منكب السماء، ثم يندفع إلى الشاطئ كهوي العقاب إلى وكره، فينسف رماله وحصاه، ويطير بشظياته في جو السماء، ثم لا يلبث أن يتراجع مجرجرا في تراجعه جرجرته في تدافعه، كالسهم الأليم في حالتي وقعه ونزعه، ويترك وراءه بقعة واسعة من الرمل كصفحة المرآة في لمعانها واستوائها، ورأينا المضيق الواقع بين شاطئ الجزيرتين يرغي ويزبد كأنما يشتعل من تحته أتون متقد، ويرمي بالزبد من جفافيه كما يتناثر العهن المنفوش عن المندف؛ أما السماء فقد أصبحت ميدانا تتسابق فيه قطع الغيوم الطائرة إلى غاياتها، فلا تفرغ حلبة حتى تنشأ حلبة أخرى، فأصبح البر والبحر، والسماء والأرض، والماء واليبس، والسهل والجبل، قيامة كبرى يموج فيها كل شيء، ويضطرب كل شيء، فلم نعد نعلم أنحن وقوف في أماكننا أم طائرون في جو السماء؟ وهل طغى الماء على اليبس فأحاله ماء، أم لا يزال الماء ماء واليبس يبسا؟
Shafi da ba'a sani ba