فما بهما من حاجة إلى من يعلمهما أن الكذب حرام؛ لأنهما لا يكذبان، ولا أن السرقة جريمة؛ لأن جميع ما يقع تحت متناول أيديهما ملك مشترك للجميع، ليس أحد أولى به من الآخر، ولا أن الجشع رذيلة؛ لأن ما يشتمل عليه كوخهما بسيط محدود لا يحتمل جشعا ولا نهما، ولا أن البر بالوالدين واجب؛ لأنهما كانا يعبدان أميهما عبادة هي فوق البر والإحسان، ولا أن الصلاة فريضة؛ لأنهما وإن لم يذهبا إلى الكنيسة إلا قليلا فقد كانا يصليان في كل أرض، وفي كل جو، في البيت والمزرعة، والقمة والرابية، والسهل والجبل، وفي بكور الأيام وأصائلها، وأوائل الليالي وأواخرها. •••
وكذلك أشرقت حياتهما الأولى إشراق الفجر المنير في صفحة الأفق مبشرا بيوم صحو جميل، وأخذت تمر بهما الأيام عذبة صافية جريان الغدير المترقرق على بياض الحصباء، سواء ليلها ونهارها، وصبحها ومساؤها.
وكان من شأن فرجيني أن تستيقظ صباح كل يوم مبكرة والطير لم يفارق وكره، فتحمل جرتها وتذهب بها إلى نبع صاف كان على بعد مرحلة من المزرعة فتستقي منه ثم تعود فتجلس لتهيئة طعام الإفطار، حتى إذا برزت الشمس من خدرها وأخذت تنفض بيدها غبار الظلام عن وجه الأرض، وتمسح جبين الطبيعة المكتئب بريشة أشعتها الذهبية، أقبلت مرغريت من كوخها هي وولدها فتبادلوا جميعا تحية الصباح ثم اصطفوا لأداء الصلاة، وبسطو أيديهم إلى السماء ضارعين إلى الله - تعالى - أن يكلأهم بعين رعايته، ويبسط عليهم جناح رحمته، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشدا. فإذا انتهوا من صلاتهم خرجوا خارج الكوخ لتناول الطعام على مائدة جميلة من العشب الأخضر تحت ظلة دانية من الأغصان المتشابكة، تتساقط عليهم قطع النور من فجواتها كأنها النثار الفضي اللامع.
فكان أثر ذلك الغذاء الطبيعي البسيط تحت هذه السماء الصافية، وفوق تلك الأرض الندية المخضلة عظيما في نمو الولدين وترعرعهما، ونضرة وجوههما، وحلاوة ملامحهما، فلم تبلغ فرجيني الثانية عشرة من عمرها حتى استقام عودها، واعتدل قوامها، وتهدل شعرها الأصفر اللامع على كتفيها كأنما قد نسج من خيوط الشمس، وأضاءت عيناها الزرقاوان بنور سماوي غريب كأنه قبس من النور الإلهي، فإن ابتسمت ابتسمتا معها كأنهما ثغران ضاحكان، وإن قطبت سبحتا وحدهما في جو السماء حتى تلتقي زرقتهما بزرقتها.
أما بول فقد كانت قامته أطول قليلا من قامة فرجيني، ونظره أحد من نظرها، وأنفه أكثر شمما من أنفها، ولونه أقرب إلى السمرة من لونها؛ أي إن ملامحه كانت تذهب مذهب الرجولة في تكونها واستدارتها، وكانت تنبعث من عينيه نار من القوة والنشاط تكاد تلتهب التهابا لولا تلك الأهداب الندية الحافة بهما.
وكان لا يزال ثائرا مهتاجا، ما يهدأ ولا يسكن حتى تقبل عليه فرجيني وتجلس بجانبه، فإذا هو الطفل الصغير بساطة وسذاجة ووداعة ولطفا.
وكثيرا ما كانا يجلسان معا صامتين هادئين ساعات طوالا على ضفة نهر، أو حافة ينبوع، أو ربوة عالية، أو قمة مشرفة، وقد اضطجع كل منهما بجانب الآخر ومد قدميه العاريتين، فكأنهما تمثال رخامي عتيق من تماثيل أولاد «بينوب»، وكأن حياتهما حياة الملائكة الأبرار في عالمها العلوي، لا تشعر بحاجتها إلى الحروف والكلمات في التعبير عن شعورها وإحساسها.
ولم يتكلمان وقد قامت لهما نظراتهما المتمازجة وابتساماتهما المتماوجة مقام الألسنة في نطقها وإفصاحها، ولم يكن حبهما حبا صناعيا ولا متكلفا فيحتاجا إلى استدامته واستبقائه وتأريث ناره في قلبيهما بالملق والدهان، والتدليل والترفيه، وخلابة الألفاظ وسحر البيان، لا، بل لو سئل أحدهما عن الحب وتعريفه وصفاته لما استطاع أن يجيب بشيء؛ لأنه لا يفهم من الحب سوى أنه في حاجة إلى بقاء صاحبه بجانبه لا يفارقه، ولا يغيب عن وجهه، لا يزيد على ذلك ولا ينقص شيئا، ولقد استقر هذا الشعور في نفسيهما وملك عليهما حواسهما وخوالجهما، فلم يفكرا في تشخيصه وتحديده، واستعراض صوره وألوانه، فكان أشبه شيء بالإيمان في قلوب العجائز، والإلهام في أنفس الحيوان، والعبقرية في أذهان الخاملين المغمورين، فهما ينعمان بحب هادئ لطيف لا جلبة فيه ولا ضوضاء ولا تجاذب ولا تآخذ، ولا شكوى ولا عتاب، ولا سهر ولا قلق، ولا خوف من الطوارق، ولا خشية من الفواجئ.
غير أن هيلين - وقد رأت فتاتها تنمو وتترعرع ويتلألأ وجهها بتلك المحاسن الباهرة - بدأت تفكر في أمرها وأمر مستقبلها، وتقول في نفسها: ماذا يكون مصير هذه الفتاة المسكينة غدا إن عدت علي عوادي الدهر، وفرقت المنية بيني وبينها، وخلفتها وحدها هنا في هذه القفرة المجدبة بين هذه الخلائق الغريبة وحيدة منقطعة لا سند لها ولا معين؟
وكانت لها في فرنسا عمة مثرية ثراء واسعا، إلا أنها كانت امرأة متكبرة تياهة شديدة الذهاب بنفسها، مدلة بجاهها ونفوذها متشددة في آرائها وأفكارها، فنقمت عليها أشد النقمة لاتصالها بذلك الفتى الفقير الذي اختارته زوجا لها، واعتبرت حادثتها هذه نكبة من أعظم النكبات التي حلت بها وبأسرتها، فأبت أن تغفر لها زلتها بدموعها وآلامها، وضراعتها ومناشدتها، فسافرت وقد آلت على نفسها ألا تلجأ إليها في شأن من شئون حياتها ما تردد لها نفس على وجه الأرض، أما الآن وقد أصبحت أما يعنيها من أمر فتاتها ما يعني الأمهات من أمر فتياتهن، فلم تر بدا من أن تحمل نفسها على ذلك المكروه الذي عافته برهة من الزمان، فكتبت إلى تلك العمة القاسية كتابا طويلا أفضت إليها فيه بخواطر نفسها، ووساوس قلبها، وقصت عليها قصة حضورها إلى هذه الجزيرة، وما كان من وفاة زوجها على أثر حضورها وحياتها الشقية التي تحياها الآن من بعده وحيدة منقطعة لا ناصر لها ولا معين، وظلت تحدثها حديثا طويلا عن ابنتها وما تخشاه عليها في مستقبل حياتها إن نشب بها ظفر جارح من أظفار الدهر، وفرقت المنية بينها وبينها، ثم قالت لها في ختام كتابها: «إن كنت ترين أنني لا أزال مذنبة بعد ذلك، وأن تلك الدموع السخية التي رويت بها ثرى الأرض اثني عشر عاما لا تكفي لمحو زلتي من صحيفة أعمالي: فارحمي هذه الفتاة المسكينة من أجلها لا من أجلي فهي حفيدة أخيك، وغصن دوحتك، والبقية الباقية من أسرتك.»
Shafi da ba'a sani ba