Explanation of the Creed of the Salaf by Al-Sabuni - Nasser Al-Aql
شرح عقيدة السلف للصابوني - ناصر العقل
Nau'ikan
شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [١]
لقد اهتم السلف بعلم التوحيد، فألفوا فيه المطولات والمختصرات، وممن كان له اهتمام بذلك الأمر العظيم -الذي هو توحيد الخالق سبحانه- شيخ الإسلام الصابوني في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث، فقد قام بجمع أهم مسائل أصول الدين بكلمات مختصرة مع شمول واستيفاء، ووفق منهج السلف في التلقي والاستدلال والتقرير.
1 / 1
نبذة من ترجمة الإمام أبي عثمان الصابوني
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الصابوني هو: أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عامر بن عابد الصابوني النيسابوري الحافظ المفسر المحدث الفقيه الواعظ الملقّب بشيخ الإسلام، وأما لفظ (الصابوني) فقد ذكر السمعاني في كتاب (الأنساب) أنه نسبة إلى عمل الصابون، وقال: هو بيت كبير بنيسابور الصابونية، لعل بعض أجدادهم عمل الصابون فعرفوا به، وأما نسبه من جهة أمه فقد ذكر تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى نقلًا عن عبد الغافر الفارسي في كتابه (السياق في ذيل تاريخ نيسابور) أنه النسيب المعم المخول المدلي من جهة الأمومة إلى الحنفية والفضلية والسيشانية والقرشية والتميمية والمزنية والضبية من الشعب النازلة إلى الشيخ أبي سعد يحيى بن منصور السلمي الزاهد الأكبر على ما هو مشهور من أنسابهم عند جماعة من العارفين بالأنساب؛ لأنه أبو عثمان إسماعيل بن زين البيت ابنة الشيخ أبي سعد الزاهد بن أحمد بن مريم بنت أبي سعد الأكبر الزاهد].
حياته: ولد في بوشنج من نواحي هراة في النصف من جمادى الآخرة، سنة (٣٧٣هـ).
قال عبد الغافر الفارسي: كان أبوه عبد الرحمن أبو نصر من كبار الواعظين بنيسابور ففتك به لأجل التعصب والمذهب وقتل.
وإسماعيل بعد حول سبع سنين أقعد بمجلس الوعظ مقام أبيه، وحضر أئمة الوقت مجالسه، وأخذ الإمام أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي في تربيته وتهيئة أسبابه، وكان يحضر مجالسه ويثني عليه، وكذلك سائر الأئمة كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والأستاذ الإمام أبي بكر بن فورك، وسائر الأئمة كانوا يحضرون مجلس تفسيره، ويتعجبون من كمال ذكائه وعقله وحسن إيراده الكلام عربيه وفارسيه، وحفظه للأحاديث، حتى كبر وبلغ مبلغ الرجال ولم يزل يرتفع شأنه حتى صار إلى ما صار إليه، وهو في جميع أوقاته مشتغل بكثرة العبادات ووظائف الطاعات، بالغ في العفاف والسداد وصيانة النفس، معروف بحسن الصلاة وطول القنوت واستشعار الهيبة حتى كان يُضرب به المثل، ووصفه عبد الغافر بأنه الإمام شيخ الإسلام الخطيب المفسّر المحدث الواعظ، أوحد وقته في طريقته، وعظ المسلمين في مجالس التذكير سبعين سنة، وخطب وصلى في الجامع -يعني: بنيسابور- نحوًا من عشرين سنة.
وقال: كان أكثر أهل العصر من المشايخ سماعًا وحفظًا ونشرًا لمسموعاته وتصنيفاته، وجمعًا وتحريضًا على السماع، وإقامة لمجالس الحديث، سمع الحديث بنيسابور وبسرخس وبهراة وبالشام وبالحجاز وبالجبال، وحدث بكثير من البلاد، وأكثر الناس في السماع منه.
وقد ذكر السيوطي والداوودي في كتابيهما (طبقات المفسرين) وأوردا أنه أقام شهرًا في تفسير آية، وهذا يدل على سعة علمه في تفسير القرآن الكريم، وكان الصابوني ﵀ يحترم الحديث ويهتم بالأسانيد.
وقد حكى الفقيه أبو سعيد السكري عن بعض من يوثق بقوله من الصالحين أن الصابوني قال: ما رويت خبرًا ولا أثرًا في المجلس إلا وعندي إسناده، وما دخلت بيت الكتب قط إلا على طهارة، وما رويت الحديث ولا عقدت المجلس ولا قعدت للتدريس إلا على طهارة.
ولعل هذا القدر كافٍ في تقديم نبذة عن الصابوني، وأيضًا من أراد أن يستزيد فهذا موجود في الكتاب، خاصة ثناء العلماء عليه؛ لأن هذا يبيّن منزلة الصابوني ﵀ عند أهل السنة.
1 / 2
أهم ما تميز به كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث
قبل أن نبدأ بقراءة مقطع من الكتاب، أحب أن أشير إلى أهم ما يتميز به هذا الكتاب: هذا الكتاب الذي هو عقيدة السلف للصابوني تميز بالتزام منهج السلف في التأليف والتقرير، فهو من حيث ترتيب مسائل العقيدة التزم منهج السلف بالبدء بمسائل التوحيد العظمى بتقرير الشهادتين، ثم بالصفات وما يجب لله ﷿، ثم بأصول الدين بحسب ترتيبها حسب الأهمية.
كما أنه التزم منهج السلف في الاستدلال، فكان واضح الاستدلال من الكتاب والسنة.
وأيضًا تميّز بالاستيفاء والشمول، وقد عرض أكثر أصول الدين عرضًا جيدًا ومرتبًا، والتزم في ذلك منهج السلف.
وأخطاؤه في الاعتقاد هي في جزئيات الاعتقاد وهي قليلة؛ أقول هذا لأنه من المعلوم أنه لا يسلم عالم من خطأ أو مخالفة لرأي جمهور السلف، وهو لم يخالف الإجماع في شيء، ولم يخالف القضايا القطعية، ولم يقع في بدعة بحمد الله، لكنه أحيانًا قد يرجّح المرجوح، وقد يميل إلى قول يخالفه فيه أكثر العلماء من السلف، وهذه مسألة بدهية ينبغي أن يعرف كل طالب علم أنها لا بد أن توجد عند كل عالم، لكنها تقل أو تكثر بحسب توفيق الله ﷿ للعالم وتبحّره وإمامته.
ثم إنه أيضًا كان سياقه لكثير من مسائل أصول الدين فيه سهولة وبساطة وليس فيه تعقيد، وهو بعيد عن المسائل الكلامية والتعبيرات الفلسفية التي قد يقع فيها أحيانًا حتى بعض السلف من غير قصد، فكان أسلوبه سهلًا، والتزامه لألفاظ السلف من أحسن ما رأينا من كتب السلف.
ثم إنه تميّز بالإيجاز مع الإسناد، قلّ أن نجد من كتب السلف الشاملة في قضايا العقيدة أن تكون موجزة، فقد تميّز مع وجود الإسناد بالإيجاز، ويعتبر كتابه خلاصة سهلة لأصول السلف يستوعبها طالب العلم المتبحر ويستيفد منها، كما أنه يستفيد منها طالب العلم المبتدئ ولا تصعب عليه.
ولو جرد من الأسانيد أيضًا لصار مثل كثير من متون العقيدة السهلة، وأتمنى أن يتصدى أحد الإخوان لاستخلاص قضايا العقيدة من كتاب الصابوني، وتجريدها من التكرار والأسانيد، لمن أراد أن يحفظها أو يقرأها ويدرسها، وأيضًا الأسانيد لها ميزة؛ لأنها تربط القارئ بأعلام السلف وبأعلام الحديث من الرواة، ثم يتبين بالسند مدى صحة كل رواية وكل أثر أو حديث، وهذا مخدوم الآن بحمد الله، فالآن أكثر كتب السلف -ومنها هذا الكتاب- خدم بتحقيق نصوصه، فممكن أن يشار في كل نص يرد إلى ما توصل إليه الباحثون والعلماء من حكمه وقول أهل العلم فيه.
وفي البداية يحسن أننا نقرأ الروايات بأسانيدها حتى نتعرف على أشهر رجال الإسناد عند الصابوني.
1 / 3
سند كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث إلى مؤلفه
قال رحمه الله تعالى: [أخبرنا قاضي القضاة بدمشق نظام الدين عمر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح الصالحي الحنبلي إجازة مشافهة أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب المقدسي إجازة إن لم يكن سماعًا، أخبرنا الشيخان: جمال الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن شكر وأبو عبد الله محمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسيان.
قال الأول: أخبرنا إسماعيل بن أحمد بن الحسين بن محمد العراقي سماعًا أخبرنا أبو الفتح عبد الله بن أحمد الخرقي إجازة.
وقال الثاني: أنبأنا أحمد بن عبد الدائم ﵀، وأخبرنا المحدث تاج الدين محمد بن الحافظ عماد الدين إسماعيل بن محمد بن بردس البعلي في كتابه، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن الخباز شفاهًا، أخبرنا أحمد بن عبد الدائم إجازة إن لم يكن سماعًا، أنبأنا الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، أنبأنا الخرقي سماعًا، أنبأنا أبو بكر عبد الرحمن بن إسماعيل الصابوني حدثنا والدي شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن فذكره.
وأخبرنا قاضي القضاة عز الدين عبد الرحيم بن محمد بن الفرات الحنفي إجازة مشافهة، أنبأنا محمود بن خليفة بن محمد بن خلف المنبجي إجازة أنبأنا الجمال عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن شكر بسنده قال:
1 / 4
سبب تأليف الصابوني كتابه عقيدة السلف أصحاب الحديث
[الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد].
بدأ كلام الصابوني الآن بعد ذكر السماعات وذكر أسانيد الكتاب نفسه، وهذه عادة أهل العلم قديمًا كانوا يثبتون الروايات والكتب بالإسناد، وهذا أمر طيب، وهو مما يدل على حرصهم على توثيق العلوم، كحرصهم على توثيق الحديث.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإني لما وردت آمد طبرستان وبلاد جيلان متوجهًا إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه محمد صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه الكرام].
مسألة الزيارة من الأمور التي عبّر فيها المؤلف الصابوني ﵀ بغير منهج السلف؛ لأن قصد المدينة لا ينبغي أن يعبّر عنه بزيارة القبر وإنما يعبّر عنه بزيارة المسجد؛ لأنه من المساجد التي تشد إليها الرحال، لكن أطلق ذلك نظرًا إلى أن من يأتي من الآفاق ويزور المسجد لابد أن يسلّم على النبي ﷺ، ومن المشروع له أن يسلّم على عموم الصحابة كذلك، ويسلّم على أهل المقابر هناك، فبعضهم قد يتجاوز ويعبّر عن السفر إلى زيارة المسجد بزيارة القبر، وربما ذلك من تعظيم الرسول ﷺ، لكن العبارة لا توافق السنة في التعبير العام، ولذلك علّق عليه المحقق تعليقًا جيدًا وقال: لعله يقصد السفر إلى مسجد الرسول ﷺ، فإن بعض العلماء يسمون السفر لزيارة المسجد ويصرفون العبارة إلى معنى زيارة القبر؛ لوجود القبر هناك، وهذا فيه لبس، لكن مع ذلك قد يلتمس فيه العذر لمثل الصابوني، وقد يكون يرى خلاف رأي الجمهور، وليس هناك ما يمنع أن يرى خلاف رأي الجمهور، وتكون هذه من أخطائه ﵀، لكنها ليست في الأمور التي تخالف القطعيات.
ثم قال: إن شيخ الإسلام ذكر أن طائفة من العلماء يسمون السفر للصلاة في المسجد زيارة لقبره ﷺ، ويقولون: تستحب زيارة قبره أو السفر لزيارة قبره، ومقصودهم بالزيارة هو السفر إلى مسجده، وأن يفعل في مسجده ما يشرع من الصلاة والسلام عليه ﷺ والدعاء له والثناء عليه.
أقول: يحتمل هذا، يحتمل أنهم أحيانًا يعبّرون بهذا عن ذلك، تغليبًا لحق الرسول ﷺ بالسلام عليه، لكن لا يقصدون إنشاء السفر الإنشاء البدعي، وإنما إنشاء السفر لزيارة المسجد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سألني إخواني في الدين أن أجمع لهم فصولًا في أصول الدين التي استمسك بها الذين مضوا من أئمة الدين، وعلماء المسلمين، والسلف الصالحين، وهدوا ودعوا الناس إليها في كل حين، ونهوا عمّا يضادها وينافيها جملة المؤمنين المصدقين المتقين، ووالوا في اتباعها وعادوا فيها، وبدّعوا وكفّروا من اعتقد غيرها، وأحرزوا لأنفسهم ولمن دعوهم إليها بركتها وخيرها، وأفضوا إلى ما قدموه من ثواب اعتقادهم لها، واستمساكهم بها، وإرشاد العباد إليها، وحملهم إياهم عليها، فاستخرت الله تعالى وأثبت في هذا الجزء ما تيسر منها على سبيل الاختصار؛ رجاء أن ينتفع به أولو الألباب والأبصار، والله سبحانه يحقق الظن، ويجزل علينا المن بالتوفيق والاستقامة على سبيل الرشد والحق بمنه وفضله].
نقف على هذا المقطع لنبدأ -إن شاء الله- من بداية تقريره لأصول الدين، ونسأل الله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
1 / 5
الأسئلة
1 / 6
حكم قول: قاضي القضاة
السؤال
ما حكم قول المصنف: قاضي القضاة؟
الجواب
هذه من العبارات التي يتساهل بها العلماء إذا كان المقصود بها مجرد الثناء، ليس المقصود بها التعظيم الذي يخرج عن الحد الشرعي، وتجدون هذا في كثير مما يكتبه علماء السلف في تراجمهم للأعلام، فـ الذهبي مثلًا وهو من أدق الناس وأحرصهم على تفادي العبارات المبالغ فيها، والعبارات التي لا تجوز شرعًا نجده في مسألة الوصف والثناء -خاصة للأموات- تكون عنده بعض العبارات المبالغ فيها، ولكن ليس قصدهم معاندة الحق، وإنما قصدهم مجرد الثناء لا التعظيم الممنوع، فعلى هذا إذا كان القصد وصف الواقع بالتعبير في قاضي القضاة عن كونه رئيسًا للقضاة، أو أكبر القضاة، أو مرجع القضاة أو ما يشبه هذه العبارات فأرجو ألا يكون في ذلك حرج، بمعنى أن نعذر أئمة السلف الذين عبّروا بهذا التعبير، وقصدوا بقاضي القضاة أنه كبيرهم أو رئيسهم أو شيخهم أو مرجعهم أو أكبرهم أو أعلمهم إلى آخره، فهذا مما يصلح التجوز فيه، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 7
شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [٢]
أجمع السلف الصالح على إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به في كتابه، وما أثبته له رسوله ﷺ في سنته، ونفي ما نفاه سبحانه عن نفسه، وما نفاه عنه رسول الله ﷺ، فالسلف أهل السنة وسط، فهم لا يشبهون الله بخلقه، ولا يعطلونه عن أسمائه وصفاته، بل يثبتونها إثباتًا يليق بجلاله سبحانه من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل.
2 / 1
عقيدة السلف أصحاب الحديث في صفات الله ﷿
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى: [قلت وبالله التوفيق: أصحاب الحديث -حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية].
مما يحسن التنبيه له أن الشيخ دائمًا في تعبيره عن أصحاب الحديث هو وغيره من أئمة السلف يقصدون بالسلف أهل السنة والجماعة، وعُبِّر عنهم بأصحاب الحديث لأنهم هم حملة الحديث دراية ورواية، ولأنهم أجدر الناس بالاستمساك بالسنة؛ ولأنهم هم الذين عنوا بسنة النبي ﷺ من كل وجه بأصولها ومناهجها وقواعدها وتصحيحها وتضعيفها، وكل ما تعنيه الكلمة من حمل الحديث الذي تضمن الدين كله، وأصحاب الحديث لا يخرجهم هذا الوصف عن أن يكونوا أصحاب قرآن، بل أهل السنة والجماعة هم أهل القرآن والسنة، ويعبر عنهم بالفرقة الناجية، والسلف الصالح، والطائفة المنصورة، فمن أوصافهم أنهم أصحاب الحديث، كما أن من أوصافهم أنهم أهل السنة، وأنهم الجماعة، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، والسلف الصالح ونحو ذلك.
فهذه كلها أوصاف حقيقية لأهل السنة والجماعة وليست من الأوصاف المتغايرة، بل كلها تعني أهل الحق والاستقامة أصحاب السنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أصحاب الحديث -حفظ الله تعالى أحياءهم ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول ﷺ بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم ﷿ بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله ﷺ على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلت العدول الثقات عنه، ويثبتون له ﷻ ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسم، ولا يعتقدون تشبيهًا لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنه خلق آدم بيديه].
هذه قاعدة عند السلف أجمعوا عليها، وهي: إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسول الله ﷺ، ولا يعتقدون التشبيه؛ نظرًا لأن الإثبات مظنة التشبيه عند قاصري الفهم والفقه، فإن السلف لا يعتقدون التشبيه، ثم ضرب أمثلة لذلك.
[فيقولون: إنه خلق آدم بيديه، كما نص سبحانه عليه في قوله عز من قائل: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص:٧٥]، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين، تحريف المعتزلة الجهمية أهلكهم الله].
والذين يقولون بهذا الآن هم الأشاعرة والماتريدية، فهم أخذوا هذه المقولة عن الجهمية، ولذلك متأخرو السلف لا يفرقون بين الأشاعرة والماتريدية والجهمية، بل يصفونهم جميعًا بأنهم جهمية، وذلك راجع إلى أنهم أخذوا أصول الجهمية في الصفات وقالوا بها تمامًا، حتى إن الأشاعرة لا يثبتون إلا سبع صفات، ومذهبهم هذا قريب جدًا بل هو نسخة جديدة لمذهب الجهمية، فالجهمية الذين ثار عليهم السلف وذموهم وحذروا منهم كان هذا مذهبهم: تأويل الصفات؛ لأن الجهمية مرت بمراحل: المرحلة الأولى في القرن الثاني أو أغلب القرن الثاني: كانت تُنكر الصفات إنكارًا بالكلية، لكنها في القرن الثالث ومع كثرة المحاورات بينها وبين السلف، ومع وجود الكتب والآثار والمصنفات التي كتبها أئمة الإسلام لطّفوا المذهب فقالوا بالتأويل، وأول من اشتهر عنه التأويل بشر المريسي، فهذا المريسي أوّل الصفات تأويلًا ولم ينكرها كما أنكرتها الجهمية الأوائل، ومع ذلك عد مذهبه امتدادًا للجهمية، وهو جهمي جلد، ولذلك فإن منهجه هذا أخطر على المسلمين من مناهج السابقين؛ فالسابقون الذين ينكرون الأسماء والصفات بالكلية أو ينكرون الصفات كالمعتزلة كان الناس ينفرون من مذاهبهم؛ لأنها مذاهب مصادمة للعقل السليم والفطرة والنصوص مصادمة تامة، لكن حينما جاء هذا الرجل الخبيث بشر المريسي ترك التعطيل الذي هو الإنكار وبدأ يؤوّل، وكتب في ذلك مصنفات في تأويل الصفات، ومر على الصفات في القرآن وعلى الصفات في السنة فكان إما أن يؤوّل وإما أن يرد النصوص، وخاصة الأحاديث، ثم هذا التأويل انتقل من الجهمية إلى بعض المنتسبة للمذاهب مثل ابن شجاع الثلجي الحنفي، فقد أخذ مذهب المريسي وقال به، ونسب مصنفه إلى نفسه، ثم انتقل هذا إلى الأحناف، ثم صار من أصول الأشاعرة والماتريدية بعد ذلك، وأوائل الأشاعرة والماتريدية لم يكونوا يتعرضون للصفات، إلا بعض الصفات الفعلية، فإنهم أنكروا أنها تتعلق بمشيئة الله ﷿ متابعة لـ ابن كلاب، حتى جاء القرن السادس والسابع والثامن فانتقلت أصول الجهمية المتأخرة إلى الأشاعرة والماتريدية، وتولى نشرها وتبناها أولًا أبو المعالي الجويني قبل رجعته إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ثم الرازي، والرازي قعّد لها وأسسها كما كان يفعل المريسي
2 / 2
معنى قول السلف: ويجرون اللفظ على الظاهر
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع، والبصر، والعين، والوجه، والعلم، والقوة، والقدرة، والعزة، والعظمة، والإرادة، والمشيئة، والقول، والكلام، والرضا، والسخط، والحب والبغض، والفرح، والضحك وغيرها، من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله ﷺ من غير زيادة عليه، ولا إضافة إليه، ولا تكييف له، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل منكر يستنكر، ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:٧]].
نقف عند هذا، لكن يحسن التعليق على العبارة التي سبقت قبل قليل وهي قوله: (ويجرونه على الظاهر)، هذه العبارة في الحقيقة مزلة عند كثير من الناس الذين لا يفهمون معناها إذ قالها السلف، بمعنى: أنهم يمرّون نصوص الصفات على ظاهرها، ويعنون بذلك الظاهر الذي يفهمه المخاطبون في الجملة؛ لأن الظاهر ممكن أن يصرف على معنيين: المعنى الأول -وهو المقصود في صفات الله ﷿: وهو أن الظاهر منها في خطاب الله ﷿ حينما أخبرنا بأسمائه وصفاته كذلك حينما أخبرنا رسوله ﷺ بأسمائه وصفاته، فإن ظاهر الخبر وظاهر النصوص إثبات ذلك على الحقيقة، فالظاهر هو الحقيقة التي تليق بالله ﷿، فإذا سمعنا قوله ﷿: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة:٦٤] فالظاهر من ذلك إثبات اليدين لله ﷿ حقيقة على ما يليق بالله، هذا معنى إجراء النصوص على ظواهرها عند السلف، بمعنى: أننا ما دمنا خوطبنا فالظاهر من الخطاب أو الأمر الذي يظهر من الخطاب أن الله ما خاطبنا إلا بالحقيقة، وقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة:٦٤] ظاهرها إثبات اليد لله ﷿ على ما يليق بجلاله، فهذا المعنى الظاهر الذي هو الحقائق.
وهناك معنى آخر قد يقصد به كلمة الظاهر: وهذا المعنى هو الذي اضطرب فيه كثير ممن أخطئوا فهم أقوال السلف، أو لجئوا إلى هذه العبارة من أجل إثبات تأويلاتهم، فزعموا أن الظاهر هو التشبيه، وزعموا أن قوله ﷿: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة:٦٤] ظاهره مجرد اللفظ، فعلى هذا لابد أن يصرف إلى معنى آخر، أو أن ظاهره المشابهة، أو الجارحة، أو ما يتوهم الإنسان مما يفهمه من المعاني في عالم الشهادة أن الظاهر هو المعاني التي يدركها الإنسان بحواسّه، فيقولون: ما دمنا فهمنا هذا الظاهر، فإذًا لابد أن يكون للصفة معنى آخر غير الظاهر وهو ما قصدوا به النفي أو التأويل.
فإذًا: ليس مقصود السلف الظاهر الذي هو التشبيه، أو الظاهر الذي يتوهمه الإنسان ويقيس به على عالم المخلوقات، إنما الظاهر هو المعنى الحقيقي، وهو بالنسبة لصفات الله إثبات الصفة على ما يليق بجلاله، وهذا يعبّر به السلف كثيرًا؛ فيقولون: تجرى على ظاهرها، هذا يترك على ظاهره إلى آخر ما يعبّرون به عن الإثبات إثبات الحقيقة وعدم التكييف، وعدم الكلام في الكيفية، والله أعلم.
والسلف يكلون علم الكيفية إلى الله ﷿ لا علم الحقيقة، فالحقيقة لابد أن تثبت، وهذا هو الفارق بين فهم السلف وفهم غيرهم، سواء من المشبّهة أو المعطّلة، هو أن السلف يفهمون من معاني صفات الله الحقيقة، وأولئك ينكرون الحقيقة، هذا هو الفارق، فالسلف يثبتون الحقيقة على ما يليق بجلال الله ﷿؛ لأن الله ليس كمثله شيء.
2 / 3
الأسئلة
2 / 4
مدى صحة كون الطيب والمطلب من أسماء الله ﷿
السؤال
هل الطيب والمطّلب من أسماء الله ﷿؟
الجواب
الطيب من أوصاف الله ﷿ وليس من أسمائه، وأما المطّلب فليس من أسماء الله ﷿.
2 / 5
حكم تقسيم التوحيد إلى أكثر من ثلاثة أقسام
السؤال
أصناف التوحيد الثلاثة: هل صحيح أن بعض أهل العلم قسّموه إلى أكثر من ذلك؟
الجواب
نعم، مسألة التقسيمات هذه أمور اصطلاحية ترجع إلى استقراء المعاني واستقراء الألفاظ، فتوحيد الله ﷿ لا ينقسم، لكن من الناحية العلمية التنظيرية لا شك أننا نجد أنه أقسام فالخبر عن الله ﷿ هو توحيد الأسماء، والخبر عن صفات الله هو توحيد الصفات، والخبر عن أفعال الله هو توحيد الأفعال وما يتعلق بتوحيد الربوبية، أما ما يتعلق بالعبادة لله ﷿ فيسمى توحيد العبادة أو الإلهية، ويمكن تقسيم التوحيد إلى أكثر من ذلك أيضًا إلى خمسة أقسام أو عشرة، هذا ممكن؛ لأنك إذا أخذت مفردات العبادة وجدت أن كلها توحيد، فمثلًا: توحيد التوكل معناه: وحّدت التوكل على الله ﷿، وهكذا توحيد الإنابة، وتوحيد اليقين، وتوحيد الإحسان، وتوجه الإنسان إلى الله ﷿، وتوحيد التدبير لله ﷿، وتوحيد الرزق؛ لأنه لا رازق إلا الله وهكذا، لا يوجد أي مانع، فتقسيم التوحيد تقسيم اصطلاحي علمي فني، يقتضيه الفهم للإنسان، فأي إنسان يستقرئ نصوص التوحيد يجد أنها أنواع فمثلًا: الأشياء التي تتعلق بإثبات الربوبية هذه من الممكن أن تسمى: توحيد الربوبية، والأشياء التي تتعلق بإثبات الإلهية ممكن أن تسمى: توحيد الإلهية، والنصوص التي تتعلق بإثبات الصفات لله ﷿ ممكن أن نسميها: توحيد الصفات، والأسماء ممكن أن نسميها: توحيد الأسماء، وأفعال الله ﷿ ممكن أن نسميها: توحيد الأفعال، وليس في ذلك حرج.
لكن الأقسام الرئيسية للتوحيد هي ثلاثة: الربوبية، وهذا واضح جدًا.
الإلهية، وهذا واضح جدًا.
الأسماء والصفات، وهذا واضح جدًا.
ويمكن أيضًا اختصار أنواع التوحيد إلى اثنين: توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، وتدخل الأسماء والصفات في توحيد الربوبية من وجه وفي توحيد الإلهية من وجه آخر، وأغلب الأسماء والصفات تدخل في توحيد الربوبية.
2 / 6
الفرق بين السلف وأصحاب الحديث
السؤال
عنون الصابوني ﵀ كتابه (عقيدة السلف أصحاب الحديث)، فهل هناك فرق بينهما؟
الجواب
ليس هناك فرق بين السلف وأصحاب الحديث، لكن من باب توضيح العبارة، والسلف كانوا يطلقونها في ذلك الوقت، وعنوان الصابوني دليل على أن السلف كانوا يعرفون هذه العبارة، بل كان إطلاق السلف وأصحاب الحديث هي الأصل عندهم.
فأصحاب الحديث هم أهل السنة، وأهل السنة كلهم أصحاب حديث حتى العوام منهم، وبهذا يفرّق بينهم وبين الفرق المخالفة لأهل السنة، فالشيعة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، والمتكلمة والأشاعرة والماتريدية هم خلاف أهل الحديث، فكل الفرق جانب وأهل الحديث جانب آخر، فمخالفوهم لا يسمون أصحاب حديث، ولذلك هم أنفسهم يلمزون أهل الحديث، وهذا مما يعد تزكية وردًا قاطعًا على أهل الأهواء، فأهل الأهواء لا ينتسبون لأهل الحديث كلهم، وليس هناك منهم من ينتسب لأهل الحديث إلا أفراد، وأما فرقة فما أعرف فرقة من الفرق التي اشتهرت في التاريخ تنسب نفسها لأهل الحديث، وهذا من فضل الله ﷿؛ لئلا يلتبس الأمر على الناس، مع وجود من ينتسب لأهل السنة والجماعة من الأشاعرة، وهذا الأمر فيه واضح.
2 / 7
أفضل المتون العلمية في علم العقيدة والحض على حفظ المنظومات فيها
السؤال
ما هي أفضل المتون العلمية في علم العقيدة؟ وما رأيك في حفظ المنظومات؟
الجواب
المتون العلمية أشهرها الآن متن الطحاوية، وليس الشرح، ولمعة الاعتقاد، وبعض الكتب التي ألّفها مشايخنا فسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز له متن جيد في العقيدة، والشيخ صالح الفوزان كذلك له متن جيد في العقيدة، والشيخ محمد بن عثيمين له متن جيد في العقيدة وكلها جيدة ومختصرة وليست بالطويلة، وتصلح للحفظ.
أما حفظ المنظومات في العقيدة فهو جيد جدًا، ومن أحسنها منظومة الشيخ حافظ الحكمي.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
2 / 8
شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [٣]
القرآن العظيم كلام الله منه بدأ وإليه يعود، وهو كتابه ووحيه وتنزيله، غير مخلوق؛ لأنه صفة من صفاته سبحانه، ومن اعتقد أن القرآن مخلوق فهو على ضلال مبين، وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة، ويكتب في المصاحف.
3 / 1
عقيدة السلف أصحاب الحديث في القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أحب أن أنبّه إلى عبارة الشيخ التي كان يستعملها كثيرًا ويستعملها السلف في وقته كثيرًا أيضًا وهي التعبير عن أهل السنة والجماعة والسلف بكلمة (أهل الحديث)، ولا يقصد أهل الحديث مجرد الرواة أو المحدثين، إنما يقصد أهل الحديث الذين هم أهل السنة والجماعة؛ لأن أهل السنة والجماعة قدوتهم أهل الحديث المستمسكون بالحديث العالمون بالحديث دراية ورواية؛ فينبغي أن يفهم هذا أنه كلما يقول: أهل الحديث، إنما يقصد أهل السنة والجماعة، ولذلك سمى الكتاب: عقيدة السلف أصحاب الحديث، وجعل كلمة (أصحاب الحديث) مرادفة للسلف، وهم أهل السنة والجماعة.
قال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى: [ويشهد أهل الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله، وكتابه، ووحيه، وتنزيله غير مخلوق، ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم].
ستأتي كثيرًا الإشارة إلى كفر من قال بخلق القرآن، وهذا اتفاق عند السلف: أن من قال بأن القرآن مخلوق فقد كفر؛ لأن القضية استبانة بأدلتها، ثم إنها إجماع عند السلف، والعجيب أن هذه المسألة مع مسألة الرؤية من الأمور التي لم يشذ فيها أحد من السلف عن بقيتهم، فكثير من مسائل الأصول قد يكون لبعض الأئمة فيها قول ربما لم يكن عليه السلف إما في جملة القول أو في بعض الجزئيات، إلا هذه المسألة مسألة القول بأن القرآن منزّل من الله غير مخلوق، ومسألة القول بإثبات الرؤية؛ فهذه من المسائل القطعية التي لم يشذ فيها أحد ممن يعتد به، فهي إجماع.
كذلك ذكر أن من اعتقد بأن القرآن مخلوق فقد كفر، وهذا حكم لكن لا يعني الحكم على المعيّن بإطلاق، فإن المعيّن الذي يقول بأن القرآن مخلوق نقول: بأنك قلت كفرًا، لكن لا نكفّره حتى نعرف أنه عرف الدليل وعرف الحق وعرف وجه الاستدلال، ووجدت في حقه شروط التكفير، وانتفت موانع التكفير فإذا وجدت كُفّر المعيّن، أما ما عدا ذلك فيبقى الحكم عامًا، وربما يقول قائل: إن السلف ما كانوا يقولون بهذا القول في وقتهم، وأقول: نعم، حينما اشتهرت في ذلك الوقت قضية القول بخلق القرآن عند المعتزلة والجهمية وابتلي الناس بها قامت الحجة على الناس؛ لأن السلف أقاموا الحق، وصارت هذه القضية مشهورة في كل مجلس وفي كل مسجد وفي كل مكان وقامت الحجة فيها على الناس جميعًا؛ لأن السلف تكلموا وكتبوا وتحدثوا عند ذلك في المنابر والمناظرات، ولم يعد لأحد حجة في وقتهم، فكان من قال بخلق القرآن حُكم بكفره؛ لأنه قال ضد الحق، أما حين يغفل الناس عن هذه المسائل مثل ما يكون في عصرنا فيحتاج الأمر إلى تأن، فمن قال بأن القرآن مخلوق فهو كافر، لكن إذا حدث من معيّن هذا القول فيجب أن نتثبت من حاله، فقد يكون جاهلًا، فالجاهل يعلّم، وهذا هو الغالب في أكثر الناس، وأكثر الناس لو امتحنته -والامتحان بدعة- ربما يقول الباطل ويظنه هو الحق، فالعامي ما الذي يدريه؟ بل حتى طالب العلم المبتدئ والشاب الناشئ لو سألته ربما يقول الباطل ويظنه هو الحق.
فإذًا: لا ينبغي امتحان الناس في هذه المسألة ولا التعجّل في حكم الكفر على المعيّن، لكن الحكم العام على العين والرأس؛ لأنه إجماع ولا يجوز لأحد أن يحيد عن هذا الإجماع.
3 / 2
حقيقة القرآن وحكم من زعم أن القرآن مخلوق أو لفظي بالقرآن مخلوق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والقرآن الذي هو كلام الله ووحيه هو الذي نزل به جبريل على الرسول ﷺ ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [فصلت:٣ - ٤]، كما قال ﷿: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء:١٩٢ - ١٩٥]، وهو الذي بلغه الرسول ﷺ أمته، كما أمر به في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة:٦٧] فكان الذي بلغهم بأمر الله تعالى كلامه ﷿، وفيه قال ﷺ: (أتمنعونني أن أبلّغ كلام ربي؟)، وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة ويكتب في المصاحف، كيفما تُصُرِّفَ بقراءة قارئ، ولَفْظِ لافظ وحفظ حافظ، وحيث تلي، وفي أي موضع قرئ وكتب في مصاحف أهل الإسلام، وألواح صبيانهم وغيرها، كله كلام الله ﷻ غير مخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم.
سمعت شيخنا الحاكم أبا عبد الله الحافظ ﵀ يقول: سمعت أبا الوليد حسان بن محمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال: إن القرآن مخلوق، فهو كافر بالله العظيم، لا تقبل شهادته، ولا يعاد إن مرض، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
فأما اللفظ بالقرآن فإن الشيخ أبا بكر الإسماعيلي الجرجاني ذكر في رسالته التي صنفها لأهل جيلان: أن من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن].
هذا احتراز جيد، يعني: أن من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق، وقصده القرآن نفسه كما كان يفعل الجهمية حينما اشتد نكير السلف، ورجحت كفة السلف حتى عند السلطان أيام المتوكل وما بعده، فإنه حينما قويت شوكة السلف ضد المخالفين لجأ الجهمية إلى مثل هذه العبارات الموهمة، فبدلًا من أن يقول أحدهم: القرآن مخلوق، يقول: بأن لفظه بالقرآن مخلوق، ويقصد الملفوظ نفسه، وهو كلام الله، فهذا عبارة عن تحايل على القول الباطل وهروب من التصريح بما يصادم قول السلف، فلجأ كثير من الجهمية إلى مثل هذا التعبير، كما أن بعض الناس أيضًا يقول هذا من باب السفسطة ومجرد التفلسف، والسلف كانوا يكرهون هذا في العقيدة ويبدّعون من فعله.
إذًا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وإن كان قصده حركة لسانه والصوت الذي هو صوته الذي خلقه الله ﷿، فينبغي أن يبدّع؛ لأن هذا ذريعة إلى حيل الجهمية، وقول على الله بغير علم، وتلبيس على الناس؛ فأغلب الناس يلتبس عليه الأمر، ولا يفرق بين لفظه بالقرآن وبين القرآن نفسه، فلذلك السلف بدّعوا من قال هذا الأمر على القصدين: أما من قصده قول الجهمية فهذا كفر.
قال رحمه الله تعالى: [وذكر ابن مهدي الطبري في كتاب (الاعتقاد) الذي صنفه لأهل هذه البلاد: أن مذهب أهل السنة والجماعة القول بأن القرآن كلام الله سبحانه ووحيه وتنزيله وأمره ونهيه غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر بالله العظيم، وأن القرآن في صدورنا محفوظ، بألسنتنا مقروء، في مصاحفنا مكتوب، وهو الكلام الذي تكلم الله ﷿ به، ومن قال: إن القرآن بلفظي مخلوق، أو لفظي به مخلوق، فهو جاهل ضال كافر بالله العظيم].
حينما يقول: القرآن بلفظي مخلوق أو لفظي به مخلوق، فهو جاهل ضال كافر بالله العظيم، يعني: بالاحتراز السابق، وهو: أنه أراد بذلك القرآن نفسه الذي هو كلام الله، هذا أمر، الأمر الآخر كما قلت: إن الجزم بكفره بالله العظيم مبني على حال الناس في ذلك الوقت في وقت السلف في القرون السابقة، فكان الناس الأمر عندهم مستبين، والقضية قضية من القضايا الكبرى بين أهل السنة والمخالفين، ويعتبر القول بخلق القرآن هو شعار الجهمية، وهذا أمر بيّن عند العوام وغير العوام، فكان ذلك مقتضى هذا الحكم القاسي؛ لأن الناس قامت عليهم الحجة.
قال رحمه الله تعالى: [وإنما ذكرت هذا الفصل بعينه من كتاب ابن مهدي لاستحساني ذلك منه، فإنه اتبع السلف أصحاب الحديث فيما ذكره، مع تبحره في الكلام وتصانيفه الكثيرة فيه وتقدمه وتبرزه عند أهله.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ﵀ قال: قرأت بخط أبي عمرو المستملي سمعت أبا عثمان سعيد بن إشكاب الساش يقول: سألت إسحاق بن إبراهيم بنيسابور عن اللفظ بالقرآن؟ فقال: لا ينبغي أن يناظر في هذا، القرآن كلام الله غير مخلوق.
وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ﵀ في كتابه (الاعتقاد) الذي صنفه في هذه المسألة، وقال: أما القول في ألفاظ ا
3 / 3
الأسئلة
3 / 4
بيان ما يترتب على القول بخلق القرآن وقصد القائلين بذلك
السؤال
ما الذي يترتب على القول بخلق القرآن؟ وماذا يقصد المعتزلة والجهمية عندما أخذوا بهذا القول؟
الجواب
القول بخلق القرآن يؤدي إلى إنكار كلام الله ﷿، ويؤدي إلى القول بأن الله لم يتكلم، وهذا استنقاص لله ﷿، فإن الكلام صفة كمال، ثم إنه يؤدي إلى إنكار أفعال الله ﷿؛ لأن كلام الله من أفعاله، وإنكار أفعال الله ﷿ إنكار لكثير من صفات الكمال، لأن من يفعل أعظم ممن لا يفعل، فالأفعال من صفات الكمال.
ولأن القول بخلق القرآن يؤدي إلى ضعف تقديس القرآن؛ لأنه إذا اعتقد المسلم أن هذا القرآن الذي بين يديه مخلوق، لم تعد عنده القداسة كما لو كان يعتقد أن هذا القرآن كلام الله، وهذا فرق يجده كل مسلم في نفسه، ولذلك تجرأ بعض المعتزلة على تحريف كلام الله على أساس أنه مخلوق، حرّفوا بعض الآيات، وتعمد بعضهم التحريف، وبعضهم صرّح بأنه يتمنى لو يحك بعض آيات القرآن من المصحف؛ لأنه لو كان يعتقد أن القرآن كلام الله ما قال هذا القول، ولما استطاع أن يجرؤ عليه.
فمن اعتقد من الناس بأن القرآن غير كلام الله ضعف تقديسه عندهم، ثم إنه سيكون هناك أيضًا زعزعة لثقة المسلمين بدينهم؛ لأنهم إذا اعتقدوا أن القرآن كلام البشر أو فعل المخلوق أو كلام المخلوق لم يعد له قوة في أحكامه وأوامره ونواهيه وأخباره، وصار محلًا للشك وللتأويل وغير ذلك، ولذلك الذين قالوا بخلق القرآن هم الذين حرّفوه، وهم الذين أولوه، وهم الذين قالوا فيه الأقوال الشنيعة وصرفوه عن معانيه.
أما ماذا يقصد الجهمية والمعتزلة؟ فيقصدون إنكار صفات الله ﷿ الفعلية وما يستتبع ذلك من إنكار بقية الصفات، ثم إنهم لو قالوا: إن القرآن كلام الله لزمهم أن يثبتوا الصفات التي أنكروها، وهم لا يلتزمون بهذا الالتزام وغير ذلك من الأمور التي تتعلق بفلسفتهم في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وأعظم من ذلك هو تصورهم الخاطئ عن الله ﷿، فإن الجهمية والمعتزلة لا يرون أن الله له وجود ذاتي، ولا أنه يفعل ما يشاء، ولا أنه يتكلم، ولا أنه يجيء وينزل، ويرون أن وجود الله وجودًا معنويًا أو عقليًا أو روحيًا فقط، فإذا أثبتوا الكلام لزمهم أن يثبتوا لله ﷿ الكمالات والصفات التي ينفونها.
3 / 5