شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد - الراجحي
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد - الراجحي
Nau'ikan
زيادة الإيمان ونقصانه وتفاوته
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم الأحاديث المعروفة عند ذكر كمال الإيمان حين قال: (أي الخلق أعظم إيمانًا؟ فقيل: الملائكة، ثم قيل: نحن يا رسول الله، فقال: بل قوم يأتون بعدكم)، فذكر صفتهم].
هذا الحديث ذكر المحقق أنه أخرجه الحسن بن عرفة في جزئه، وأن سنده ضعيف، وهو عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه -أيضًا- قوله: (إن أكمل -أو من أكمل المؤمنين- إيمانًا أحسنهم خلقًا)].
هذا فيه ذكر كمال الإيمان، فالأحاديث التي جاء فيها ذكر كمال الإيمان تدل على أن الإيمان يزيد وينقص ويتفاوت، وأنه أجزاء وأنه متعدد، وهذا فيه رد على المرجئة، وهذا هو الذي يريده ﵀، فالأحاديث التي فيها ذكر كمال الإيمان تدل على أن الإيمان يكون كاملًا عند بعض الناس ويكون ناقصًا عند بعض الناس، وإذا كان الإيمان يكمل وينقص فذلك يدل على أنه متعدد وليس شيئًا واحدًا كما تقوله المرجئة، فهم يقولون: الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، بل هو تام في القلب وهو التصديق، لكن الأحاديث التي فيها ذكر كمال الإيمان ترد هذا المذهب، وتدل على أن الإيمان يكون كاملًا ويكون ناقصًا عند بعض الناس؛ لأنه متعدد؛ لأنه عمل بالقلب وعمل بالجوارح وقول باللسان وتصديق بالقلب، فهذا هو مقصود المؤلف ﵀ من ذكر الأحاديث في كمال الإيمان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله: (لا يؤمن الرجل الإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقًا)].
وهذا فيه دليل على أن الإيمان يتفاوت، وأن بعض الناس يؤمن الإيمان كله، وبعضهم لا يؤمن الإيمان كله فدل على أنه متفاوت وأنه متبعض وأنه متعدد، وليس شيئًا واحدًا كما تقول المرجئة.
وفيه نفي الإيمان الكامل عمن لم يدع الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقًا، فهذا إيمانه ناقص، أما الذي يدع الكذب والمراء وإن كان صادقًا مع أداء الواجبات وترك المحرمات فإن إيمانه كامل، فدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان خلافًا للمرجئة الذين يقولون: إيمان أهل الأرض وإيمان أهل السماء شيء واحد لا يزيد ولا ينقص.
وهذا باطل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي مثله أو نحوه عن عمر بن الخطاب وابن عمر، ثم من أوضح ذلك وأبينه حديث النبي ﷺ في الشفاعة حين قال: (فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، وبرة من إيمان، ومثقال ذرة من إيمان)].
أي: ومن أوضح الأدلة وأبينها في رد مذهب المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاوت ولا يتبعض، حديث الشفاعة؛ فإن أحاديث الشفاعة متواترة في إخراج عصاة الموحدين من النار، فقد ثبت أن نبينا ﷺ يشفع أربع شفاعات في العصاة، وفي كل مرة يحد الله له حدًا بعد أن يسجد لربه ﷿ ويأتيه الإذن من الله ﷿ ويقول الله له: (يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع.
قال: فيحد الله له حدًا) أي: علامة، فيخرجهم من النار إلى الجنة، وجاء في بعضها: أن النبي ﷺ يقال له في المرة الأولى: (أخرج من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان)، وفي بعضها مثقال نصف دينار وفي بعضها (مثقال ذرة من إيمان) وفي بعض الأحاديث ثلاث مرات، الأولى: (مثقال ذرة من إيمان) والثانية (أدنى مثقال ذرة من إيمان) والثالثة: (أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان) والرابعة فيمن قال: لا إله إلا الله، فدل هذا على أن الإيمان يتفاوت، فبعض الناس لا يكون في قلبه من الإيمان إلا مثقال ذرة، وبعضهم مثقال شعيرة، وبعضهم مثقال برة، وبعضهم مثقال دينار، وبعضهم أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، وأحاديث الشفاعة فيها دليل واضح وبين على بطلان قول المرجئة الذين يقولون: من إيمان الناس واحد، وإيمان أهل الأرض وأهل السماء واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه حديثه في الوسوسة حين سئل عنها فقال: (ذاك صريح الإيمان)].
وذلك حين قال الصحابة رضوان الله عليهم: (يا رسول الله! إنا لنجد في أنفسنا ما لأن يخر الإنسان من السماء خير له من أن ينطق به)، وفي لفظ: (ما يحب أن يكون حممة) أي: فحمة ولا يتكلم به، فقال النبي ﷺ: (وقد وجدتموه؟! قالوا: نعم يا رسول الله.
قال: ذاك صريح الإيمان)، أي أن كتم الوسوسة ومحاربتها واستعظامها وعدم التكلم بها هو صريح الإيمان.
ولهذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تميزوا على المتأخرين بأنهم كانوا إذا وجدوا وسوسة في أنفسهم حاربوها ودافعوها وكتموها ولم يتكلموا بها، أما المتأخرون فإنهم تكلموا بها وسودوا بها الكتب وشبهوا بها على الناس، الأمر الذي اضطر أهل العلم من أهل السنة والجماعة إلى الرد عليهم، وقد كان الناس في العصر الأول في عافية من هذا، ثم تكلم المعتزلة والخوارج والجهمية والرافضة وغيرهم بالوساوس التي تكون في أنفسهم والتي تخالف النصوص، أما الصحابة والتابعون ومن بعدهم فإنهم حاربوا الوسوسة وكتموها ودافعوها، فقال النبي ﷺ: (ذاك صريح الإيمان).
وهذا يدل على بطلان مذهب المرجئة؛ لأنه قال: (صريح الإيمان)، فالإيمان فيه صريح وغير صريح، والمرجئة يقولون: الإيمان واحد، فكل الناس إيمانهم صريح.
وهذا من أبطل الباطل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك حديث علي ﵇].
وعلي ﵁ لا يخصص فيقال له: ﵇ دون غيره من الصحابة، بل نقول للصحابة جميعًا: ﵃.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك حديث علي ﵇: إن الإيمان يبدأ لمظة في القلب، فكلما ازداد الإيمان عظمًا ازداد ذلك البياض عظمًا].
هذا موقوف على علي ﵁، يعني أن الإيمان يبدأ شيئًا بعد شيء حتى يكبر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [في أشياء من هذا النحو كثيرة يطول ذكرها تبين لك التفاضل في الإيمان بالقلوب والأعمال].
أي: هناك أدلة وآثار ونصوص غير هذه النصوص التي ذكرها من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ومن أقوال الصحابة ومن أقوال التابعين والأئمة والعلماء، كلها تبين أن الإيمان يتفاضل في القلوب والأعمال، وذلك لأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذه كلها ترد وتبطل مذهب المرجئة الذين يقولون: الإيمان شيء واحد لا يتفاضل، وإيمان البر والفاجر سواء.
وهذا من أبطل الباطل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلها يشهد -أو أكثرها- أن أعمال البر من الإيمان، فكيف تعاند هذه الآثار بالإبطال والتكذيب؟!].
المرجئة عاندوا هذه الآثار، فبعضها أبطلوها وبعضها كذبوها، والواجب على المسلم أن يقبل شرع الله ودينه وأن يقبل الآثار إذا صحت أسانيدها، كما أنه يقبل كتاب الله، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:٣٦].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما يصدق تفاضله بالأعمال قول الله جل ثناؤه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:٢]، إلى قوله: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال:٤]].
أي: ومما يدل على أن الإيمان يتفاضل بالأعمال هذه الآيات الكريمة من سورة الأنفال، قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ» أي: إنما المؤمنون الكمل الذين اتصفوا بهذه الصفات «الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ»، وهذا عمل قلبي «وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا»، وهذا من عمل القلب، «وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»، وهذا عمل القلب وعمل الجوارح، فالتوكل يجمع أمرين: فعل الأسباب والاعتماد على الله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ»، وإقامة الصلاة من أعمال الجوارح، «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»، ثم قال: «أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا»، فهذا فيه بيان المؤمنين الكمل، فالذين كمل إيمانهم هم الذين اتصفوا بهذه الصفات، فدل على أن الإيمان يتفاضل بالأعمال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط].
وجه الاستدلال من الآيات قوله: [لم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط] المذكورة، فوجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، والتوكل على الله، وإقام الصلاة، والإنفاق، جعلها الله علامة على الإيمان الكامل.
5 / 3