56

Explanation of Sahih al-Bukhari by Al-Huwaini

شرح صحيح البخاري للحويني

Nau'ikan

معاملة النبي ﷺ للناس على حسب أحوالهم كان الرسول ﵊ -كما في هذا الحديث- يحدث أصحابه، فجاءه أعرابي وهو يتكلم فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟) فمر رسول الله ﷺ يحدث، فقال بعض الصحابة: سمع ما قال؛ فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع)، فلماذا انقسم الصحابة إلى فريقين؟ كل راعى شيئًا لحظه في النبي ﷺ، فالذين قالوا: سمع ما قال فكره ما قال، كانوا يعلمون أن النبي ﷺ إذا كره شيئًا أعرض عنه، وظهر على وجهه، فإنه عندما جاءه عبد الله بن عمرو وهو يلبس حلة حمراء فأعرض عنه لقد كانت كل حياة الصحابة واهتمامهم بالنبي ﵊، وكانت عيونهم (الكاميرا المسجلة) كل شيء يرمقونه حتى اضطراب لحيته، يقول الصحابي (كنا نعرف قراءة النبي ﷺ في الظهر باضطراب لحيته) ويقول مثلًا أبو حميد الساعدي (قلت: لأرمقن صلاة النبي ﷺ سائر اليوم)، ويقول صحابي آخر: (أتيت النبي ﷺ والقمر في ليلة إضحيان -ليلة أربعة عشر- فجعلت أنظر إلى القمر مرة وإلى وجهه مرة، فكان في عيني أحلى من القمر) وهذا كلام شخص محب، ويقول جابر بن سمرة (أتيت النبي ﷺ في ليلة قمراء وعليه حلة حمراء، ما رأيت قط أجمل منها)، ويقول أنس بن مالك: (ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول ﷺ . المهم أن الرسول ﵊ كان كل حياتهم، وكان محور ارتكاز عندهم. فكان النبي ﵊ إذا كره شيئًا ظهر على وجهه، وأعرض إعراضًا لطيفًا، فالصحابة الذين قالوا هذا، رأوا أنه كثيرًا ما كان يعرض عن بعض أصحابه إذا ارتكب شيئًا، فلا يحتاج إلى كلام. والذين قالوا: بل لم يسمع؛ بنوا ذلك على أن النبي ﷺ ما كان يواجه أحدًا بما يكره أبدًا. جاء في صحيح مسلم: (كان في المدينة بنت مصابة بمرض التخلف، وكانت تأخذ بيد رسول الله ﷺ فتطوف به المدينة فلا يمتنع منها، ولا ينزع يده منها)، هذه أشياء لها دلالة، وإن كان بعض الناس قد يعتبرها مواقف صغيرة لكن لها دلالة (وكان النبي ﷺ أشد حياءً من العذراء في خدرها)، وكان رفيقًا، كثير احتمال الأذى، لاسيما مع الأعراب، فما كان يعرض عن الأعرابي، حتى ولو قال قولًا جاهليًا، إنما كان يعرض عن أصحابه الذين يعيشون معه في المدينة، وهكذا ينبغي على الشيخ أن يفرق في معاملته بين أهل البلد وبين الغرباء، فيعطي الغرباء من حقه ومن وقته؛ لأنهم غرباء، ولأن هذا الغريب لا يعلم ما قد ينبه عليه الشيخ أكثر من مرة، لكن يعلمه أهل البلد. جاء في الصحيح أن أنس بن مالك ﵁ قال: (نهينا أن نسأل رسول الله ﷺ في القرآن، وكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من البادية فيسأل ونحن نسمع)، فلو أن شخصًا من أهل المدينة سأل النبي ﷺ سؤالًا بعد النهي؛ لكان له أن يعزره، أما هذا الأعرابي فلم يشهد النهي، فقد جاء من بعيد، وسأل النبي ﵊؛ فما كان يعنفه، إنما كان يتلطف معه، وهذا هو مستند الذين قالوا: بل لم يسمع؛ لأنه كان يعامل الأعراب معاملة خاصة غير معاملة أهل الحضر. وفي الحقيقة هناك أدلة تبين هذا، أذكر بعضًا منها: في سنن أبي داود والنسائي من حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري (أن النبي ﷺ رأى قعودًا لرجل من الأعراب -والقعود: جمل صغير السن- فقال: بعني جملك. قال: بكم؟ فقال: بكذا. فقال: إذًا. اشتريت منك الجمل، وسأعطيك الثمن عندما نرجع إلى المدينة. وجاء صحابي من الصحابة لم يعلم أن النبي ﵊ اشترى الجمل، فأعجبه الجمل، فقال للأعرابي: أتبيع الجمل؟ قال: بكم؟ قال: بكذا. وذكر ثمنًا أعلى من ثمن النبي ﵊، فعلم النبي ﵊ أن الأعرابي باع الجمل، فقال: يا أعرابي! أولم تبعني الجمل؟ فقال: ما بعتك شيئًا. قال: كلا يا أعرابي! بل بعتني. قال الأعرابي: هلم شهيدًا يشهد أنني بعتك. والصحابة يلوذون برسول الله ﷺ، ويقولون للأعرابي: ويحك! إن رسول الله ﷺ لا يقول إلا حقًا. وهو يقول: هلم شهيدًا يشهد أنني بعتك. وحينئذٍ انبرى خزيمة بن ثابت الأنصاري وقال: أنا أشهد أنك بعته الجمل. فقال النبي ﷺ: بم يا خزيمة؟ قال: بتصديقك)، أي: أنك لا تكذب، ولو لم أكن حاضرًا لهذه الصفقة وهذا البيع فأنت قد اشتريت الجمل، والأعرابي قد باعك الجمل، (بتصديقك)، فجعل النبي ﷺ شهادة خزيمة بشهادة رجلين؛ لأجل هذا الأمر، وهذا من خصوصيات خزيمة بن ثابت الأنصاري ﵁. والنبي ﵊ لم يكفر هذا الأعرابي، ولم يقل له: كذبت رسولك فكفرت، فاغتسل إذًا، وجدد الإسلام، وانطق بالشهادتين؛ لأنه راعى هذه المسألة، فكان النبي ﵊ كثير الاحتمال. وهذا أعرابي يقول: (يا رسول الله! ثيابنا في الجنة ننسجها بأيدينا أم تتفتق عنها ثمار الجنة؟ فضحك الصحابة، فقال ﵊: أتضحكون من جاهل يسأل عالمًا؟)، لماذا تضحكون؟ الرجل يسأل: ماذا سوف نلبس في الجنة؟ هل سنخيط ملابسنا، أم سنجد الملابس جاهزة؟ وهذا يدل على أن الصحابة كثيرًا ما كانوا يسألون عن الجنة وما فيها، وقد جاء في الصحيح أن النبي ﷺ قال: (استأذن رجل ربه في الزرع -أي: أن يزرع في الجنة- فقال الله ﷿: دونك يا ابن آدم! فإنه لا يشبعك شيء. فرمى البذرة وفي طرفة عين رأى الثمرة والشجرة الكبيرة، فقال الرجل: والله يا رسول الله! لا تجده إلا أنصاريًا)؛ لأن الأنصار هم الذين يحبون أن يزرعوا. إن الجنة لا أحد يعرفها، وهي منتهى الآمال، وكلنا نعمل لكي ندخل الجنة، وأعظم نعيم في الجنة هو رؤية الله ﷿، ونحن عندما نطلب من الله ﷿ الجنة إنما نطلب أن نرى رب العالمين ﵎ هناك، فكان الصحابة يسألون عن الجنة، فسأل هذا الرجل عن ملابسه: كيف سنلبس؟ وكيف سنخيطها؟! فضحك الصحابة من هذا السؤال، فقال ﷺ: (مم تضحكون؟! من جاهل يسأل عالمًا، نعم يا أعرابي، تتفتق عنها ثمار الجنة)، تفتح الثمرة فتجد جلابية جاهزة وعلى مقاسك، والجنة -كما يقول بعض العلماء، وقد استندوا إلى آثار صحيحة موقوفة لها حكم الرفع- لا يسأل الإنسان فيها، وإنما بمجرد أن يتمنى يجد حاجته ماثلة إمامه؛ لأن السؤال ذل، وأهل الجنة معافون من هذا كله، إنما إذا خطر على باله أنه يأكل رمانًا فإنه يجد الرمان أمامه يخطر على باله أنه يأكل فاكهة، أو حمامًا، أو أي شيء من لحوم الجنة وفواكهها، فإنه يجد ذلك الشيء أمامه في الحال. فالنبي ﵊ كان كثير الرفق بهؤلاء الأعراب، وكان الصحابة يعلمون ذلك، فقالوا: بل لم يسمع لماذا؟ راعوا حال النبي ﵊، وفي هذا ينبغي مراعاة قرائن الأحوال، فإن الصحابة حكموا بما علموه من النبي ﵊، ومسألة اعتبار القرائن في الحكم مسألة ضرورية جدًا، فإن الصحابة في حكمهم لما انقسموا إلى فريقين كلٌ راعى القرينة التي حضرته، ورآها على النبي ﵌.

4 / 12