Expeditions to Banu Mustaliq and Battle of Muraisi
مرويات غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع
Mai Buga Littafi
عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية،المدينة المنورة
Inda aka buga
المملكة العربية السعودية
Nau'ikan
المُقَدِّمَة:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن علم التاريخ من أعظم العلوم قدرًا وأجلها مكانة، لأنه سجل حافل بتجارب البشرية على مدار التاريخ، والعلم به وإدراك أبعاده يكسب صاحبه خبرة وحنكة١، وفهمًا لأحداث الأمم، يضاف إلى تجارب العالم به، فيكون بمثابة عاقل مشهود له، تجمعت لديه عقول البشرية، فهو يستشيرها ويأخذ بأحسنها سدادًا وأصوبها رأيًا.
هذا وإن واسطة العقد في علم التاريخ هو علم السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وإن الأحداث تشرق وتتعالى بقدر علو وشرف محدثيها ومن هنا كان شرف وعظمة علم السير والمغازي، لأنه يناط٢ بأفضل البشرية وأكرمها على خالقها، ألا وهو الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم
_________
١ الحنكة: بضم الحاء المهملة وسكون النون، والكاف المفتوحة: السن والتجربة والبصر بالأمور.
انظر: لسان العرب ١٢/٢٩٩.
٢ يناط: يتعلق.
1 / 15
التسليم، فلذا يجدر بي أن أنوّه١ بشأن هذا الموضوع، والكتابة فيه، وأن أشير إلى أن العناية بالسيرة والكتابة فيها ضرورة لازمة.
ضرورة العناية بالسيرة النبوية:
من المعلوم أن كل أمة لها أبطالها ورجالها الخالدون بأعمالهم، ومفاخرهم، فهي تحرص على تسجيل جميع ما يتصل بهؤلاء الأفذاذ من أبنائها، لأنها تعتبر ذلك مفخرة من مفاخرها، ومأثرة٢ من مآثرها، وليس ذلك فحسب، بل إنها تريد أن تظل حياة هؤلاء الرجال سيرة طاهرة نقية ترتادها الأجيال المقبلة لتقتدي بهم، وتسلك سبيلهم، وهذا ما فعلته الأمم الراقية ذات الحضارات الخالدة في سجل التاريخ. وإذا فعلت ذلك أية أمة من الأمم الأرض برجالها، فإن أمة الإسلام أولى بذلك وأحرى لأنه ليس لأمة من الأمم تاريخ مشرق وضاء، مثل ما لأمة الإسلام.
وما كانت تستطيع ذلك أو تحلم به لولا أن اختار الله منها أفضل الخلق أجمعين سيد الأولين والآخرين النبي الأمين محمد بن عبد الله ﷺ، فدخلت بسببه في سجل التاريخ، (وما كان لها ذكر) ثم أصبحت سيدة الأمم كلها، وخير أمة بما حباها الله به من نور الإيمان والقيام بمتطلبات الإسلام، فكانت بذلك خير أمة أخرجت للناس، وليست أمة من الناس.
وكان ذلك بفضل اقتدائها بسيرة نبيها ﷺ، ومن هنا وجبت العناية بهذه السيرة العطرة، فهي سيرة مفردة من بين سائر الرجال والأبطال، لأنها سلمت من العيوب والمثالب، وكانت كلها فضائل ومناقب إذ هي معصومة بعصمة الله لصاحبها من الوقوع في الأخطاء البشرية التي لا يسلم منها عادة أحد من الناس فكانت حجة على الناس يجب تبنيها والعمل بمقتضاها، والبحث عن جميع ما يتصل بها بحثًا علميًا يعتمد على الدراسة النقدية المستندة
_________
١ أنوه: نوّهت بالشيء ونوهته تنويهًا رفعته، ونوهت باسمه، رفعت ذكره. لسان العرب ١٧/٤٤٢.
٢ الأثرة والمأثرة، بسكون الثاء وفتحها وضمها: المكرمة لأنها تؤثر، أي: تذكر ويأثرها قرن عن قرن يتحدثون بها. وفي المحكم: المأثرة: المكرمة المتوارثة.
انظر: لسان العرب ٥/٦٢.
1 / 16
إلى علم الإسناد، لأن سيرته ﷺ بجميع أحداثها تطبيق عملي للإسلام وقد قال تعالى لنبيه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾، [سورة الأنعام، الآيتان: ١٦٢ - ١٦٣] .
فحياته ﷺ لله يعني أن ذلك عمل بأوامر الله، وبه صرحت الآية ﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ﴾ فكانت العناية بسيرته ﷺ عناية بشريعته، بل بالجانب العملي التطبيقي لهذه الشريعة.
ومن العجائب أن نجد عناية فائقة بحديثه ﷺ من علماء خصصوا أنفسهم لذلك، ولا نجد تلك العناية بسيرته ﷺ، وتنقيتها من الشوائب، على أن علم الحديث يشتمل على جزء كبير من سيرته ﷺ، غير أنه لا يشتمل على جميع السيرة، فكان جديرًا بالجامعات الإسلامية أن تفرد علم السِّير والمغازي بأهمية خاصة تتمثل في البحوث التخصصية التي تعنى بتصفية السيرة النبوية مما علق بها من تحريف وزيادة، أو كذب وافتراء، كما تعني بتحليل هذه السيرة بأسلوب علمي يتناسب مع لغة المثقف المعاصر، ليتسنى له قراءتها والتأسي بها، وهي حاجة إسلامية ملحة في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى.
غير أن تلبية هذه الحاجة تحتاج إلى جهود علمية موفقة على مستوى عال، ودراسة جادة تعنى بالجانب العلمي والجانب التحليلي ليتيسر للقارئ الإستفادة من هذه السيرة الطاهرة العامرة بكل خير وفضيلة.
الدافع لي على الكتابة في السيرة:
يمكن أن ألخص الأسباب التي حفزتني للكتابة في السيرة فيما يلي:
أولا: أن السيرة النبوية الشريفة، هي الميدان العملي الذي طبقت فيه شريعة الإسلام، فالكتابة فيها تكتسب منهجًا تطبيقيًا وعمليًا أبعد ما يكون عن الفروض والنظريات الجافة.
1 / 17
ومن هنا أحسست بأهمية الموضوع الذي أخوض غماره، فهو مجال تربوي عملي، يشعر فيه المسلم أنه أمام حياة حافلة بالأمجاد الواقعية، والبطولات الإسلامية النادرة التي تجسدت في خطوات المصطفى ﷺ وصحبه الكرام.
ثانيًا: أن علم السيرة والمغازي من العلوم الإسلامية التي اختلط فيها الحق بالباطل والسليم بالسقيم، والصحيح بالضعيف من جرّاء الجمع الذي لا يراعى فيه إلاَّ حشد الوقائع والأحداث دون تمحيص أو تدقيق، وكان هذا هو الأسلوب المتبع لدى كُتّاب السير والمغازي.
وقد يكون عذرهم مقبولًا في ذلك، لأنهم قد أوردوا ذلك بالأسانيد منسوبة إلى قائليها، ومن أراد التحقيق فله ذلك، غير أن هذا الأسلوب الذي سلكه كتّاب السير والمغازي، أساء إلى السيرة النبوية كثيرًا، وخلط فيها خلطًا مشينًا، فرأيت أن أختار هذه الغزوة فأقوم بتمحيص مروياتها، لأن الكذب في سيرته ﷺ كالكذب في حديثه، يحتاج إلى بذل الجهود المخلصة لتنفيه من سيرته ﷺ كما نفته من حديثه، فكان ذلك من جملة البواعث والأسباب التي دفعتني للكتابة في هذه الغزوة.
ثالثًا: أن سيرته ﷺ في حياته ليست مجرد أوصاف لعاداته وصفاته الطبيعية، وإنما هي بالإضافة إلى ذلك أحكام ومعاملات وعقود ومعاهدات وحياة حافلة بالأعمال النبوية في شتى المجالات.
وتجتمع هذه الحياة النبوية الشريفة في نطاق الأسوة والقدوة التي أمرنا الله بها في كتابه، في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾، [سورة الأحزاب، الآية:٢١] .
ولا يتأتى للمسلم أن يقتدي به ﵊ في سيرته إلاَّ إذا كانت تلك السيرة ثابتة عنه ﷺ، وفق مناهج المحدثين، وهذا أمر شائك، لا يستطيع القيام به إلاَّ من توفرت لديه وسائله العلمية المطلوبة،
1 / 18
وأهمها علم الإسناد، ولا أدعي أنني قد توفرت لدي هذه الوسائل، فذلك أمر دونه خرط القتاد١.
ولكن حاولت جهد طاقتي بوسائلي المتواضعة أن أجرد نفسي للكتابة في هذه الغزوة، فإن أكن أصبت فالحمد لله، وإن أخطأت فإنني أرجو ممن عثر على خطأ أن يسدده وينبهني عليه، فإنني قليل البضاعة في هذه المسالك العلمية.
سبب اختياري لهذه الغزوة:
أما سبب اختياري غزوة بني المصطلق موضوعًا لرسالتي فأجمله فيما يلي:
١-أن هذه الغزوة من أهم الغزوات خطورة في حياة المسلمين في عهدهم الأول، لأنها كانت مرتعًا خصبًا للمنافقين حيث اتخذوا فيها صنوفًا من الكيد للإسلام والمسلمين ولنبي الإسلام ﷺ، فقد حاولوا تمزيق وحدة المسلمين بإيجاد الشقاق بين المهاجرين والأنصار، وإعادة النعرة٢الجاهلية، كما وقعت فيها حادثة الإفك التي كان الهدف من إثارتها زعزعة اليقين في ساحة النبوة ونشر البلبلة في صفوف المسلمين بإثارة العصبية القبلية، كما حصل بين قبيلتي الأوس والخزرج، فلهذه الغزوة إذًا أهمية خاصة لما تشتمل عليه من الأحداث الجسام التي كانت في عهد الإسلام الأول.
٢-تعدد الروايات وكثرتها بحيث تستحق أن تفرد ببحث خاص بها يحقق ما جاء فيها ويجمعها في موضوع واحد من مظانها الكثيرة.
٣-أن هذه الغزوة تشتمل على مباحث علمية وأحكام شرعية كثيرة، بعضها
_________
١ هو مثل يضرب للأمر الذي دونه مانع، والخرط: هو قشرك الورق عن الشجرة اجتذابًا بكفك، والقتاد: شجر له شوك أمثال الإبر. مجمع الأمثال ١/٢٦٥،رقم المثل ١٣٩٥.
٢ النعرة: كهمزة: الخيلاء والكبر، والنعرة أيضًا: ذباب أزرق يلسع الدواب وربما دخل أنف الحمار فيركب رأسه، ولا يرده شيء، سميت بذلك لنعيرها وهو صوتها، ثم استعيرت للنخوة والأنفة والكبر.
انظر: لسان العرب ٧/٧٩، وانظر القاموس المحيط ٢/١٤٥.
1 / 19
شرع في هذه الغزوة كحد القذف، والعزل، وجعل العتق صداقًا، وغير ذلك مما تكفّلت الرسالة بإيضاحه.
وهذه الأمور التي ذكرتها بإجمال لبيان أهمية هذه الغزوة، تدل على مبلغ الفائدة التي تقدمها هذه الرسالة المتواضعة لطلاب العلم المشتغلين بعلم الحديث والفقه، وهي فائدة عظيمة النفع إن شاء الله.
1 / 20
تَقْوِيم المَصَادِر وتحلِيلِها:
إن المصادر التي رجعت إليها واعتمدتها في بحث الرسالة كثيرة ويحسن بي أن أعطي نبذة عن أهمها وأوسعها استيعابًا في موضوع الرسالة، وألصقها بفن التاريخ والمغازي والسير، وعلم الإسناد والحديث، ولا يتسع المقام لتحليل جميع ما رجعت إليه منها، وإنما أكتفي ببعضها منبهًا على أهمية وثناء العلماء عليه، ومدى الفائدة التي أفدتها منه.
١-فأول هذه المصادر كتاب الحربي المسمى (كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة) وهو كتاب أثري قديم؛ لأن مؤلفه من علماء القرن الثالث الهجري، حيث كانت ولادته عام ١٩٨هـ، وتوفي عام ٢٧٥هـ.
والكتاب أفدت منه كثيرًا في تحديد الأماكن ووصفها، وقد تنوزع في نسبته إلى مؤلفه، والتحقيق أنه من مؤلفاته كما جزم بذلك المحقق للكتاب حمد الجاسر، واستدل لذلك بأدلة بسطها في مقدمة تحقيقه للكتاب المذكور١.وأقره على ذلك أكرم العمري٢.
وأبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم عالم جليل ومحقق قدير، أثنى عليه العلماء ثناءً عظيمًا، ووصفوه بغزارة العلم وحسن الخلق والتقوى والورع، وهو من كبار علماء الحديث وأصوله، وقد تتلمذ على الإمام أحمد بن حنبل وأخذ
_________
١ انظر ص ٢٦٨–٢٧٠ من كتاب المناسك.
٢ موارد الخطيب البغدادي، ص٣٥٧.
1 / 23
عنه علم الحديث بعد أن جهد كثيرًا في الوصول إلى مدرسة الإمام أحمد، ولازمه مدة طويلة تقدر بعشرين عامًا ابتداء من ٢٢١هـ حتى وفاة الإمام أحمد بن حنبل عام ٢٤١هـ فهو من جلة أصحاب الإمام بن حنبل ﵀.
فال الخطيب:"ان إمامًا في العلم رأسًا في الزهد عارفًا بالفقه بصيرًا بالأحكام حافظًا للحديث، مميزًا لعلله، قيمًا بالأدب جماعًا للغة".وله مؤلفات كثيرة مبسوطة في تراجمه.
وقد كان هذا الإمام يقاس بالإمام أحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه، كما قال ذلك الدارقطني ﵀، وكفى بذلك دلالة على عظمة هذا الإمام١.
وكتابه هذا الذي رجعت إليه من أهم الكتب التي ضبطت على وجه التحديد الأماكن التاريخية من الوجهة الجغرافية؛ فهو يتحدث عن الأماكن التي وقعت فيها أحداث تاريخية، حديثًا موثوقًا به، عن رواة عالمين بهذه الأماكن حديثي عهد بها، ولذلك عد هذا الكتاب مصححًا لكثير من الأخطاء التي وقع فيها الذين عنوا بالكتابة في تحديد الأماكن ومعالم الجزيرة، كما اعتبر وثيقة تاريخية في بابه، لما يشتمل عليه من المادة العلمية الغزيرة، المتعلقة بموضوعه، وهي مادة غنية بالوصف الدقيق والتحديد المميز لمعالم الجزيرة، مما أفادني فائدة عظيمة في توضيح الأماكن التاريخية الواردة في موضوع الرسالة.
٢-ويتصل بهذا الجانب الجغرافي كتاب (معجم البلدان) لمؤلفه شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، وهو من المراجع الهامة التي رجعت إليها في توضيح وتحديد الأماكن ذات الأحداث والوقائع التاريخية المتصلة بموضوعي، والكتاب المذكور من أعظم الكتب التي عنيت بتحديد المواقع الجغرافية والبلدان الإسلامية، وقد كان مؤلفه كثير الرحلات والتنقلات مما
_________
١ راجع تذكرة الحفاظ للذهبي ٢/٥٨٤، وموارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد لأكرم العمري ص ٣٥٧
1 / 24
أكسبه خبرة جغرافية وأدبية، فتهيأ له أن يؤلف هذا المعجم الواسع ليحدد به مواقع البلدان وما يتصل بها من أحداث وعلوم، فكان كتابه شاملًا للجانب الجغرافي والأدبي والعلمي، ونظرًا لأن ياقوتا الحموي يعتمد عددًا ضخمًا من المؤلفات المتقدمة عليه، بعضها من مؤلفات القرن الثالث الهجري، والبعض الآخر متأخر، فإن الاعتماد عليه يحتاج إلى تدقيق كبير لمعرفة وصف المكان كما كان عليه وقت الأحداث وتمييز ما طرأ عليه من تغير في زمن تصنيف المؤلفات المتأخرة.
والكتاب ديوان ضخم في هذا الباب اتخذه العلماء منهلًا عذبًا ومرجعًا هامًا في موضوعه.
ولذا فقد أخذت منه كثيرًا واعتمدته مرجعًا في بابه، ومؤلفه عالم جليل وأديب كبير ضمّن كتابه هذا علومًا جمة وسدّ ثغرة علمية مهمة أفادت الباحثين في كل الأزمنة التي تلته.
وقد رُمي ياقوت الحموي بالنصب* بسبب منازعة جرت بينه وبين شخص بغدادي في دمشق في علي بن أبي طالب ﵁ فبدر من كلامه ما لزم منه أنه نسب إلى رأي الخوارج في التعصب على علي ﵁، ولكن هذه التهمة لم تثبت عن ياقوت ﵀ وذلك لأنه يذكر في كتبه فضائل الإمام علي بن أبي طالب ولم يبدر منه فيها ما يؤيد نسبة النصب إليه، حتى قال ابن حجر: "لم أر في شيء من تصنيفه التصريح بالنصب، بل يحكي فيها فضائل علي ما يتفق ذكره"١.
وكانت وفاة ياقوت سنة ٦٢٦؟ـ، وأما ولادته فلم يعلم عنها شيء على وجه التحديد.
وهناك مراجع كثيرة استعنت بها في هذه الناحية الجغرافية لا يتسع المقام لتحليلها كلها.
_________
(*) النصب هو: عداوة علي بن أبي طالب ﵁. والنواصب طائفة من الخوارج.
١ لسان الميزان ٦/٢٤٠.
1 / 25
٣-ومن أخص المراجع وأهمها كتاب (سيرة ابن هشام) وهو كتاب جليل اعتنى فيه مؤلفه بتنقيح السيرة النبوية وتهذيبها وحذف الفضول منها، وقد اشتهرت سيرة ابن هشام شهرة فائقة حتى كاد ينسى الأصل الذي أخذت منه وهو سيرة ابن إسحاق، والسبب في اشتهارها يعود إلى ما امتازت به من تنقيح وتهذيب، فقد كان ابن هشام في تهذيبه للسيرة محققًا للنصوص ومنتقدًا لما وقع لابن إسحاق من هفوات، ومتممًا لما فاته من الروايات ذات الصلة بموضوع السيرة، هذا وقد كانت هذه السيرة أصلًا عظيمًا ومرجعًا هامًا في موضوعي لأنها ألصق المراجع بالمادة العلمية المتصلة بموضوع هذه الغزوة حيث استقيت منها جل النصوص التاريخية المتعلقة بأحداث غزوة بني المصطلق، وهذه السيرة مستقاة من سيرة ابن إسحاق الإمام المقدم في السير والمغازي، ومن هنا كانت أهمية هذه السيرة وقوة الاستناد إليها، فابن إسحاق وإن كان صاحب الفضل السابق في هذا العمل الجليل، لكن ابن هشام لا يقل فضله عن فضل ابن إسحاق، في التهذيب والترتيب وحذف ما لا تعلق له بالسيرة النبوية الشريفة وترك ما لا يحسن ذكره مما لصق بالسيرة، وترك أشياء كثيرة كان مصيبًا في تركها، مثل حذفه كثيرًا من الإسرائيليات وخاصة في قسم المبتدأ من سيرة ابن إسحاق، كما حذف كثيرًا من الأشعار المنتحلة١.
فجاءت سيرته على أكمل الوجوه وأحسنها اختصارًا واستيعابًا للأحداث الأساسية الهامة في حياته ﷺ.
وابن هشام هو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، كان مشهورًا بحمل العلم متقدمًا في علم النسب والنحو واللغة، ذكر الذهبي وابن كثير أنه حين جاء إلى مصر اجتمع به الشافعي وتناشدا من أشعار العرب أشياء كثيرة، وقال عن الشافعي: "إنه حجة في العربية، ورغم تصنيفه كتابًا في أنساب حمير وملوكها يقال له (التيجان لمعرفة ملوك الزمان) وكتابًا شرح فيه ما وقع في أشعار السير من الغريب"٢، فإنه لا يكاد يذكر إلا مقرونًا بسيرته التي طبقت
_________
١ مقدمة السيرة لصاحبها ابن هشام ١/٤.
٢ البداية والنهاية لابن كثير ١٠/٢٨١-٢٨٢، ومقدمة سيرة ابن هشام ١/١٨.
1 / 26
الآفاق شهرة، وقد وفق فيها غاية التوفيق، وبذل فيها مجهودًا كبيرًا سيظل أعظم عمل علمي قام به. وكانت وفاته سنة ٢١٨هـ وقيل سنة ٢١٣هـ.
٤ و٥- وقد رجعت إلى مؤلفين كبيرين من مؤلفات ابن جرير الطبري وهما (تاريخ الرسل والملوك) وتفسيره المسمى (جامع البيان في تأويل أي القرآن) .
وسوف أعطي عن كل واحد منهما نبذة من ناحية التحليل والفائدة التي استفدتها منهما.
فأبدأ بالكلام على التاريخ وهو من أعظم الكتب التاريخية وقد عني فيه ابن جرير بالجمع والاستقصاء، وبناه على منهج المحدثين من حيث الرواية بالسند، ولم يكن يعني فيه بالتحقيق والتمحيص والنقد، وإنما كان يهمه الجمع، وذكر الوقائع منسوبة إلى قائليها ورواتها١.
وقد اعتذر هو عن نفسه فقال: "وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه ..." إلى أن قال:
"فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا وأنا إنما أدّينا ذلك على نحو ما أدي إلينا"٢.
وهذا المسلك الذي سار عليه ابن جرير ﵀، برغم أنه محدث كبير يدل على أن علماء الحديث لا يعاملون الأحداث التاريخية بمثل ما يعاملون به الحديث النبوي من نقد وتمحيص، بل يتساهلون برواية الحوادث التاريخية، ولا
_________
١ مقدمة تاريخ ابن جرير ١/٧.
٢ انظر كلام ابن جرير عن منهجه في تاريخه ١/٧-٨.
1 / 27
يتشددون فيها تشددهم في ثبوت الحديث، وهو مسلك فيه كثيرة من المخاطرة، ووقع بسببه كثير من كتبة التاريخ في أخطاء جسيمة تحتاج إلى تمحيص دقيق، لا يقوى عليه إلا الجهابذة ١، ومع ذلك فقد كان ابن جرير أمينًا في النقل دقيقًا في التحري ونسبة الرواية إلى راويها تاركًا لمن جاء بعده أن يحقق ويمحص ويبحث في تحري الصواب بقدر ما تمكنه وسائله.
والكتاب سجلّ تاريخي كبير يعد أوفى عمل تاريخي بين مصنفات المؤرخين المسلمين، أكمل به ابن جرير ﵀ ما قام به المؤرخون قبله مثل الواقدي وابن سعد وخليفة بن خياط ويعقوب بن سفيان الفسوي والبلاذري واليعقوبي، ومهد السبيل لمن جاء بعده كالمسعودي وابن الأثير وابن خلدون وابن كثير.
ويبقى أنني كنت أجهد نفسي كثيرًا في الكلام على الرواة معتمدًا في ذلك على كتب الجرح والتعديل سالكًا مسلك نقدة الحديث في تحقيق الرواية، وهذا ما لا وجود له في تاريخ الطبري، لأنه لم يكن يعنيه إلا الجمع، وهذا هو الطابع الغالب الذي سار عليه في تاريخه٢.
أما الكتاب الثاني الذي رجعت إليه من كتب ابن جرير الطبري فهو كتاب التفسير المسمى (جامع البيان) وهو أعظم ديوان ألف في تفسير كتاب الله ﷿، وقد أجمع العلماء على أن ابن جرير إمام المفسرين بما أودع في هذا الكتاب من معارف وعلوم، جمع فيها بين الدراية٣ والرواية، فجاء هذا التفسير أوفى تفسير لكتاب الله العزيز.
_________
١ الجهبذ: بكسر الجيم والباء وبينهما ها ساكنة: الناقد الخبير (القاموس المحيط ١/٣٥٢) .
٢ انظر مقدمة تاريخه ١/٧-٨، ونظرة في مصادر ودراسة السيرة النبوية للدكتور أكرم ضياء العمري، ص٦
٣ التفسير بالدراية ويسمى (التفسير بالرأي) أو التفسير بالمعقول، لأن المفسر لكتاب الله تعالى يعتمد فيه على اجتهاده، لا على المأثور المنقول عن الصحابة أو التابعين بل يكون فيه الاعتماد على اللغة العربية وفهم أسلوبها على طريقة العرب، ومعرفة طريقة التخاطب عندهم، وإدراك العلوم الضرورية التي ينبغي أن يكون المفسر ملمًا بها كالنحو والصرف وعلوم البلاغة وأصول الفقه وأسباب النزول ...الخ.
التبيان في علوم القرآن للصابوني، ص ١٧٣.
1 / 28
وأوسع مرجع في بابه، وقد تتبع فيه مؤلفه التفسير بالأثر محاولًا الاستقصاء مما لم يسبق إليه، فكان إمام المفسرين بالأثر، ثم فإن يتبع ذلك بذكر الخلاف في معنى الآية، وترجيح الصواب فيها، كما أنه كان يعنى باللغة عناية فائقة فكان يستشهد بالشعر لتفسير الغامض من مفردات القرآن ويذكر أقوال أهل النحو والصرف والمعاني ويبين أقربها لأسلوب القرآن بما هداه إليه فهمه، وكان خبيرًا باختلاف القراءات معتنيًا بتوجيهها مستشهدًا لها من أساليب العرب وشعرها، وقد كان إمامًا في فنون كثيرة وحجة في الفقه والتفسير والأصول والقراءات وعلوم اللغة على اختلافها، فاستخدم هذه الوسائل كلها في تفسيره، كما أنه كان محدِّثًا ضليعًا فلم يغفل الأحاديث الواردة في سبب نزول أو توضيح آية، وكان بالجملة جماعًا في تفسيره بين علوم شتى مزج بينها مزجًا فريدًا بروح علمية فذة، ظهرت فيها شخصيته العلمية ظهورًا بينًا فاستحق بذلك ثناء العلماء عليه وتقديمهم له على غيره من المفسرين، فاحتل تفسيره مكان الصدارة بين كتب التفسير جميعها.
على أنه قد وقع في سرد بعض الإسرائيليات التي يختلط فيها الحق بالباطل، غير أنه لم يكن يسردها على سبيل الاحتجاج، وإنما كان يوردها من أجل توضيح حادثة أشار القرآن إليها وقد كان ينبه على بطلان بعض القصص الإسرائيلية، وإن أهمل كثيرًا منها بدون تنبيه مما كان مثار النقد له ﵀، في إيراده هذه القصص الإسرائيلية١.
هذا وقد استفدت من هذا الكتاب العظيم فوائد متنوعة أهمها الرجوع إليه في تفسير الآيات الواردة في هذه الغزوة إلى فوائد أخرى كثيرة مشار إليها في مواقعها. وابن جرير هو محمد بن جرير الطبري من علماء القرن الثالث الهجري، فقد كانت وفاته سنة ٣١٠هـ وقد أجمع العلماء على جلالته وإمامته وتقدمه في جميع معارف عصره، وله مؤلفات كثيرة مبسوطة في مواضعها من تراجمه، وهي تدل على سعة اطلاعه وعلو شأنه وتفوقه على غيره٢.
_________
١ انظر تفسير الطبري ٢٣/١٥٨، وتفسير ابن كثير ٤/٣٥، وانظر التبيان في علوم القرآن للصابوني ص ٢١٠.
٢ انظر تذكرة الحفاظ للذهبي ٢/٧١٠ - ٧١٦، والبداية النهاية لابن كثير ١١/١٤٥- ١٤٧، ومقدمة تاريخ الطبري لمحققه محمد أبو الفضل إبراهيم ١/١٥ - ٢٠.
1 / 29
٦-ومن المصادر العلمية التي استفدت منها (كتاب النهاية في غريب الحديث) لابن الأثير ﵀، وهذا الكتاب من أجل ما صنف في غريب الحديث وأعظم ما كتب في بابه، وذلك أنه سبقت جهود كبيرة للعلماء في الكتابة في غريب الحديث على زمن ابن الأثير فأنارت له معالم الطريق، ولكنها على اختلاف مناهج مؤلفيها لم تف بالغرض، ولم تستوعب غريب الحديث حتى جاء ابن الأثير فوقف على جميع الكتب التي عنيت بهذا الموضوع وطالعها كلها واستوعب ما تضمنته وعرف ما فاتها من غريب الحديث فشمر عن ساعد الجد للقيام بسد هذه الثغرة العلمية إسهامًا منه في خدمة الحديث النبوي الشريف، وبذل جهدًا علميًا كبيرًا في تمحيص هذا الكتاب واستيعابه لما وصل إليه من غريب الحديث، وقد جمع فيه بين كتابين جليلين لمن سبقه هما أهم ما كتب قبله في هذا الفن؛ وهما كتاب أبي عبيد١ الهروي وهو يشتمل على غريب القرآن والحديث، وكتاب أبي موسى٢ الأصفهاني الذي جمع ما فات الهروي من غريب القرآن والحديث٣. فجمع ابن الأثير في كتابه ما في الكتابين من غريب الحديث دون غريب القرآن. ولم يقف عند الجمع فحسب، وإنما ضم إليهما ما فاتهما من غريب الحديث، وهو كثير وافر، مستقرئا له من مطالعته لكتب الصحاح والمسانيد والمجاميع وكتب السنن والغرائب قديمها وحديثها إلى زمنه، وكتب اللغة على اختلافها.
قال ابن الأثير:"فرأيت فيها من الكلمات الغريبة مما فات الكتابين، كثيرًا، فصدفت حينئذ عن الاقتصار على الجمع بين الكتابين وأضفت ما عثرت عليه
_________
١ هو أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي اللغوي البارع، كان من أعلم الناس في الأدب واللغة، وكتابه يسمى (الغريبين) أي في معرفة غريب القرآن والحديث، كانت وفاته سنة (٤٠١هـ) البداية النهاية لابن كثير ١١/٣٤٤.
٢ هو محمد بن عمر بن محمد الأصبهاني الحافظ الموسوي المديني، أحد حفاظ الدنيا الرحالين الجوالين، له مصنفات عديدة، وشرح أحاديث كثيرة، وكتابه هذا يسمى (المغيث في غريب القرآن والحديث) وكانت وفاته سنة (٥٨١هـ)، البداية والنهاية لابن كثير ١٢/٣١٨، ومقدمة كتاب ابن الأثير ١/٧.
٣ مقدمة ابن الأثير ١/٩.
1 / 30
ووجدته من الغرائب إلى ما في الكتابين في حروفها مع نظائرها وأمثالها"١.
وقد سلك ﵀ في منهجه طريقة أهل المعاجم من ترتيب الكلمات على حروف المعجم بالتزام الحرف الأول والثاني من كل كلمة، واتباعهما بالحرف الثالث على سياق الحروف، غير أنه لا يلتزم بالترتيب على حسب الحروف الأصلية، خاصة إذا كانت الكلمة قد بنيت على الحرف الزائد حتى صار كأنه من بنية الكلمة.
وإنما راعى ذلك المسلك قصدًا للسهولة واليسر على طلاب غريب الحديث، لا سيما أن أكثر طلبة غريب الحديث لا يكادون يفرقون بين الأصلي والزائد. ونبه على زيادة الحرف عند ذكره في غير بابه، لئلا يظن به أنه وضعه في هذا المكان للجهل به٢.فجاء كتابه هذا أعظم كتاب في غريب الحديث وأوسع الكتب التي سبقته في هذا الباب، وأصبح مرجعًا هامًا للعلماء على مدار الزمن، فكل من حاول الكتابة بعده في هذا الشأن فهو عيال عليه، ولذلك لم يظهر في المكتبات الإسلامية حتى الآن كتاب يدانيه في بابه. ومصنفه هو أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الشهير بابن الأثير الجزري، شافعي المذهب كان إمامًا في علوم كثيرة، كما أنه ألف كتابًا مفيدة في سائر العلوم منها جامع الأصول الستة٣، وكتبًا٤ أخرى مفيدة تدل على غزارة علمه وسعة إطلاعه من أعظمها كتاب هذا الذي رجعت إليه وأفدت منه كثيرًا في حل غوامض الحديث الشريف.
وكانت وفاة ابن الأثير ﵀ سنة ٦٠٦هـ وكانت ولادته سنة ٥٤٤هـ على الأرجح.
٧-ومن أهم المصادر التي اعتمدتها (زاد المعاد في هدي خير العباد) لمؤلفه ابن قيم الجوزية، وقد تطرق في هذا الكتاب إلى مباحث السيرة النبوية،
_________
١ مقدمة ابن الأثير ١/١١.
٢ المصدر السابق ١/١١.
٣ المراد بالأصول الستة عند ابن الأثير: هي البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وموطأ مالك.
٤ انظر: مقدمة كتاب ابن الأثير ١/١٦- ١٨، والبداية والنهاية لابن كثير ١٣/٥٤.
1 / 31
فكتب عنها كتابة تمتاز بالتحليل والاختصار واستخلاص العبرة من وراء ما يورده من أحداث السيرة والمغازي وكان إلى جانب ذلك يعتني بالأحكام الفقهية المستنبطة من السيرة النبوية وقد كان ابن القيم غزير العلم قوي البيان مبرزًا١ في فنون كثيرة، فنهج في الكتابة عن السيرة منهجًا متفردًا يحقق الهدف الأساسي من وراء دراسة السيرة، وهو الهدف التربوي الذي يراد منه تحقيق الأسوة والقدوة برسول الله ﷺ، في حياته كلها في السلم والحرب على حد سواء، وكان من منهجه ﵀ الاقتصار على ما صح عنده من السيرة دون التطويل في سرد جميع ما قيل في السير والمغازي، لأن كتابه هذا لم يكن خاصًا بالسيرة وإنما هو في هدي المصطفى ﷺ عمومًا فهو كتاب أحكام ومعاملات وعبادات وشمائل وآداب وطب وغير ذلك من العلوم المتنوعة، وأضاف إلى هذه المباحث كلها موضوع السيرة النبوية، مبينًا فيها المراحل التي مر بها الإسلام في عهده الأول بأسلوب علمي رائع، هادفًا إلى استخلاص العبرة، واستنباط الحكم الشرعي، وحاثًا على الاقتداء به ﷺ، في هديه وسيرته، فجاءت مباحثه في السيرة فريدة في نوعها ذات منهج متميز، لأن كُتّاب السير والمغازي درجوا على سرد وقائع السيرة وما يتصل بها بأسانيدها ومتونها دون العناية بالجوانب التربوية، كما أنهم في الأعم الأغلب ما كانوا يستنبطون الأحكام الفقهية من السيرة النبوية، فجاء ابن القيم فكتب عن السيرة النبوية بمنهج مختلف عما ألفه الناس في تصنيف مباحث السيرة، وهو منهج يجدر الاقتداء به والسير على منواله، وقد سبق بيان أن السيرة بحاجة إلى كتابة على مناهج المحدثين في تحقيق نصوص السيرة ونفي ما علق بها من تهويل الأخباريين، وأضيف هنا أن كتابتها من الوجهة التربوية المعاصرة حاجة ماسة لا تقل في شأنها عن تلك الحاجة، فلا بد من الجمع بين الحسنيين، لأن ذلك هو المطلوب منا٢.
هذا وقد استفدت من هذا الكتاب فوائد جمة خاصة في المباحث الفقهية
_________
١ برز تبريزًا: فاق أصحابه فضلًا أو شجاعة.
انظر: القاموس المحيط ٢/١٦٦.
٢ ظهرت في العصر الحاضر كتابات قيمة في هذا المجال مثل فقه السيرة للغزالي، والبوطي، والسيرة النبوية للندوي، والسيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، لأبي شهبة. ولكن الموضوع بحاجة إلى جهود أكثر.
1 / 32
والأحكام، واستخلاص العبر واختلاف العلماء، وترجيح الأقوال، وغير ذلك من الفوائد.
وابن القيم هو العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن جرير الدمشقي، شمس الدين ابن قيم الجوزية، الحنبلي، إمام جليل من أئمة الدين، كان من ملازمي ابن تيمية، وكان واسع المعارف عالمًا بالقرآن والسنة وعلومهما متبحرًا في ذلك عارفًا باللغة على اختلافها، كما كان على علم غزير بالفرق الإسلامية، ومعرفة ما وقعت فيه من أخطاء، وله في ذلك مؤلفات جليلة، تدل على سعة علمه ودقة فهمه، وامتازت مؤلفاته بالعذوبة وحسن التصرف والتحقيق والاقتدار على أفصح الأساليب، وكان كثير العبادة حتى قال عنه ابن كثير: "لا أعلم في زماننا أكثر عبادة منه"١.
وقد ترجم له الإمام الشوكاني ترجمة واسعة، وصفه فيها بأوصافه اللائقة به، وبعلمه وفضله وجهاده، وسرد كثيرًا من مؤلفاته٢.وكانت ولادته سنة ٦٩١هـ ووفاته سنة ٧٥١هـ.
٨ و٩-ومن جملة هذه المصادر التي رجعت إليها (البداية والنهاية وتفسير القرآن العظيم) للحافظ ابن كثير ﵀.
وكتاب البداية والنهاية يعد من أهم المراجع التاريخية إن لم يكن أهمها وأفضلها، وظاهر من اسمه أنه تاريخ شامل لمراحل البشرية من بدايتها إلى زمن المؤلف، وقد اجتهد مؤلفه في تحقيقه وترتيبه وحشد المعلومات التاريخية الواسعة فيه، وقد التزم أنه لا يذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع فيه، مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وعرّفه بأنه القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به، لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه، وإنما
_________
١ البداية والنهاية لابن كثير ١٤/٢٣٥.
٢ البدر الطالع ٢/١٤٣-١٤٦.
1 / 33
الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسوله ما صح نقله أو حسن، وما كان فيه ضعف نبينه١.
وهذه الطريقة التي التزمها ابن كثير في تاريخه الواسع، لم يكن يلتزمها كثير من المؤرخين قبله، وهي طريقة حسنة امتاز بها تاريخه هذا، وقد كتب ابن كثير عن أحداث السيرة النبوية ضمن الأحداث التاريخية التي عني بتسجيلها، وكان يلتزم في حديثه عن التاريخ الإسلامي طريقة الترتيب على حسب السنين ابتداء من أول سنة هجرية إلى زمنه.
وقد رجعت إلى ما كتبه في السيرة وأخذت ما له صلة وثيقة بموضوعي وأفدت منه كثيرًا، كما رجعت إليه في تراجم بعض العلماء.
أما الكتاب الثاني الذي رجعت إليه من مؤلفات ابن كثير فهو (تفسير القرآن العظيم)، وهو تفسير ذائع الصيت٢ منتشر في الآفاق انتشارًا واسعًا وقد تداوله العلماء وأثنوا عليه ثناء عظيمًا وقدموه على غيره من كتب التفسير، لما امتاز به من ميزات كثيرة، وذلك أن مؤلفه ﵀ على رغم تبحره في العلوم وتفننه في فنون كثيرة جرد تفسيره من الحشو والتطويل واهتم بتفسير القرآن بالقرآن، كما أوضح ذلك في مقدمته، مما لم يسبق إليه، ولم يهتم بالإكثار من المباحث اللغوية من نحو وصرف وبلاغة، مع أنه كان عالمًا كبيرًا فيها كلها، وذلك لأن هذه العلوم قد شغلت كثيرًا من المفسرين عن الغرض الأساسي لتفسير كتاب الله جل وعلا، حتى كأن مؤلف التفسير منهم لم يضع تفسيرًا للقرآن وإنما وضع كتابًا في العربية، وكل من أتقن من العلوم شيئًا فإنها تغلب على تفسيره، مما جعل معظم التفاسير تفقد المنهج الصحيح لتفسير القرآن.
فجاء ابن كثير فنهج في تفسيره، منهج تفسير القرآن بالقرآن وأضاف إلى ذلك تفسيره بالسنة الصحيحة، والأثر الصحيح، فجاء تفسيره واضح المنهج عظيم الفائدة، سهل العبارة، إذ إنه يذكر أولًا الآية ثم يورد نظائرها من
_________
١ مقدمة البداية والنهاية ١/٦، وقد أفردت السيرة بالطبع في أربع مجلدات مأخوذة من البداية والنهاية بتحقيق مصطفى عبد الواحد وقد طبعت سنة ١٣٨٤هـ.
٢ الصيت بالكسر: الذكر الحسن. القاموس المحيط ١/١٥٢.
1 / 34
القرآن، ثم يعقبها بالحديث الموضح لها، أو تفسير الصحابة إن وجد أو تفسير كبار التابعين، وكان يعني بتحقيق الروايات وتمحيصها وبيان صحيحها من سقيمها، ولم يذكر من الإسرائيليات إلا ما لم يكن فيه محظور مما يذكر فلا يصدق ولا يكذب١.
وخلاصة القول أن هذا التفسير من خير التفاسير وأجودها يمتاز بالإيضاح الكامل لمعنى الآية، مع السهولة واليسر والعناية بالهدف الأساسي من فهم القرآن الكريم. وابن كثير هو أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي عالم كبير ومقرئ قدير تفنن في علوم كثيرة، واشتهر بالحديث والتفسير والتاريخ، وله مؤلفات عظيمة النفع انتشرت في الآفاق، وقد أثنى عليه العلماء ثناء كبيرًا، كان مولده سنة (٧٠١هـ) ووفاته سنة٢ (٧٧٤هـ) .
١٠-ومن المصادر الهامة ذات الشأن العظيم (فتح الباري شرح صحيح البخاري) لحافظ الزمان أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وهذا الكتاب أعظم ديوان في شروح السنة النبوية، وأكبر مرجع في علم الحديث والفقه، وهو من الشهرة والانتشار وذيوع الصيت بمكان عظيم، فهو أوفى شروح صحيح البخاري على الإطلاق؛ فقد بذل فيه مؤلفه جهودًا علمية ضخمة لم تجتمع لغيره من علماء عصره، وقد أمضى في تأليفه زمنًا طويلًا يقدر بخمسة وعشرين عامًا، وهو يتحرى فيه الصواب، ويحقق ويمحص ويعرض على علماء عصره، فخرج هذا الكتاب فتحًا جديدًا في علوم الإسلام، وفنون الحديث، وسائر المعارف الشرعية، مما لم يسبق له نظير، ولم يأت بعده مثله إلى اليوم، فقد وفق فيه مؤلفه غاية التوفيق، ووصل في تحقيق مسائله نهاية التدقيق، فاجتمعت على الإعجاب به والثناء عليه كلمة العلماء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، وكان كاسمه (فتح الباري) فهو اسم طابق المسمى.
وقد نهج فيه مؤلفه منهجًا واضح المعالم، بينه في مقدمته بقوله:"أسوق إن شاء الله الباب وحديثه أولًا، ثم أذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم
_________
١ مقدمة تفسير ابن كثير١/٣-٤،والتبيان في علوم القرآن للصابوني ص٢١٢-٢١٣.
٢ انظر: ذيل تذكرة الحفاظ لأبي المحاسن تلميذ الذهبي ص ٥٧-٥٩، والبدر الطالع للشوكاني ١/١٥٣.
1 / 35
أستخرج ثانيًا ما يتعلق به عرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات وكشف غامض وتصريح مدلس بسماع، ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، منتزعًا كل ذلك من أمهات المسانيد، والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد، بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك.
وثالثًا: أصل ما انقطع من معلقاته١ وموقوفاته، وهناك تلتئم زوائد الفوائد وتنتظم شوارد الفرائد.
ورابعًا: أضبط ما يشكل من جميع ما تقدم أسماء وأوصافًا مع إيضاح معاني الألفاظ اللغوية والتنبيه على النكت البيانية.
وخامسًا: أورد ما استفدته من كلام الأئمة مما استنبطوه من ذلك الخبر من الأحكام الفقهية والمواعظ الزهدية والآداب المرعية مقتصرًا على الراجح من ذلك متحريا للواضح دون المستغلق في تلك المسالك مع الاعتناء بالجمع بين ما ظاهره التعارض مع غيره، والتنصيص على المنسوخ بناسخه، والعام بمخصصه والمطلق بمقيده، والمجمل بمبينه والظاهر بمؤوله والإشارة إلى نكت من القواعد الأصولية، ونبذ من فوائد العربية ونخب من الخلافات المذهبية، بحسب ما اتصل بي من كلام الأئمة، واتسع فهمي من المقاصد المهمة، وأراعي هذا الأسلوب إن شاء الله تعالى في كل باب ..."الخ ٢.
هذا هو المنهج الذي أوضحه في مقدمته وقد سار عليه فعلًا، في شرحه لصحيح البخاري، وهذا الشرح يجمع علومًا شتى ومعارف عظيمة أهمها علم الحديث والإسناد والفقه، والتراجم، وفيه علوم أخرى كثيرة كعلم التاريخ والمغاوي والسير، وعلوم اللغة العربية، وأنواع من العلوم لا تدخل تحت حصر، ولو وضع لكل علم فهرس خاص به لبلغ مجلدات، وهذا كله يدل على عظمة هذا الكتاب وجلالة قدر مؤلفه، ومبلغ ما ضمنه فيه من المعارف الواسعة التي تحتاج إلى خدمة وتيسير للوصول إليها، فعسى الله أن يقيض لذلك من يقوم به.
_________
١ أي معلقات صحيح البخاري.
٢ هدي الساري مقدمة فتح الباري ص ٤.
1 / 36