Encyclopedia of Specialized Qur'anic Studies
الموسوعة القرآنية المتخصصة
Mai Buga Littafi
المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
Inda aka buga
مصر
Nau'ikan
ـ[الموسوعة القرآنية المتخصصة]ـ
المؤلف: مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر
الناشر: وزارة الاوقاف، القاهرة - مصر
عام النشر: ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
_________
(تنبيه) بالأصل المطبوع الحواشي مجموعة آخر كل باب مما يصعب متابعتها، وقد بذل فريق العمل جهده في وضع الحواشي بمواضعها أسفل الصفحات للتيسير
Shafi da ba'a sani ba
- أ -
مقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
أ. د. محمود حمدى زقزوق وزير الأوقاف
فى إطار مشروع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لإصدار موسوعات إسلامية متخصصة في مجالات الفكر الإسلامى المتنوعة، قدم المجلس منذ عام مضى المجلد التمهيدى الأول بعنوان: (الموسوعة الإسلامية العامة). والمشروع- كما بينا في مقدمة المجلد المشار إليه- مشروع طموح يشتمل على ستة عشر مجلدا تغطى جميع مجالات الفكر الإسلامي.
واليوم يسعدنا أن نقدم للقارئ الكريم مجلدا آخر من هذه السلسلة بعنوان: (الموسوعة القرآنية المتخصصة) يشتمل على خمسة عشر مدخلا، وتحت كل منها العديد من الموضوعات التى شملت كل ما يتعلق بالقرآن الكريم، ليس فقط ما يتصل منها بعلوم القرآن التى أخذت حيزا كبيرا في هذا المجلد، وإنما امتد البحث إلى موضوعات أخرى مثل: الإنسان فى القرآن، والسنن الإلهية فى القرآن، والمبادئ العامة والقيم فى القرآن، والإعجاز العلمى والبياني، وغير ذلك من موضوعات لا يجدها القارئ إلا فى العديد من المراجع المختلفة المتخصصة.
ولكننا أردنا أن نجمع كل ذلك فى مجلد واحد تيسيرا على الباحثين والمهتمين بالتعرف على كل ما يتعلق بالقرآن الكريم. وقد
المقدمة / 3
- ب -
اشترك فى كتابه مواد هذه الموسوعة صفوة مختارة من الأساتذة والعلماء المتخصصين، كل فى مجاله، ممن أمضوا الشطر الأكبر من حياتهم فى خدمة القرآن الكريم وعلومه.
وحقيقة الأمر أن القرآن كان ولا يزال، وسيظل إلى آخر الزمان نبعا فياضا لشتى العلوم الدينية والدنيوية، لا ينقطع مدده، ولا يتوقف عطاؤه، ولا تنقضى عجائبه، ويكشف لكل من يتعمق فى بحثه، ويتوفر على دراسته بإخلاص وتجرد الأسرار تلو الأسرار. ومن هنا كانت عناية المسلمين به على مر الزمان عناية لم يحظ بها كتاب سماوى آخر فى أى دين من الأديان. ولا عجب فى ذلك، فقد تكفل الله- ﷾ بحفظه حين قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
ومن أجل ذلك ظل النص القرآنى منذ نزل بعيدا عن التحريف مبرأ من التبديل والتغيير. ويجد المرء النص القرآنى ذاته دون تغيير حرف أو حركة لدى جميع الفرق الإسلامية مهما تباعدت مسافات الخلاف بينها. فهذه الفرق قد تختلف ربما فى كل شىء إلا فى الإجماع على النص القرآنى الذى يجده الإنسان كما هو حتى لدى الفرق المنشقة.
وقد أردنا، فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، بهذا المجلد ألّا نحرم من شرف خدمة القرآن الكريم فكانت هذه الموسوعة التى تقدم خدمة علمية جليلة للباحثين والمتخصصين يجدون فيها ضالتهم، كما يجد فيها القارئ غير المتخصص المعلومات التى تزيده معرفة بالقرآن الكريم.
وإذا كنا، فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، نشعر بسعادة غامرة للتوفيق الربانى الذى صاحب إعداد هذه الموسوعة والذى تم
المقدمة / 4
- جـ -
فى يسر وسهولة، فإننا نود أن نقدم خالص الشكر والتقدير للأساتذة الذين قدموا لنا فى هذه الموسوعة القرآنية خلاصة فكرهم، وما أفاء الله به عليهم من علم خدمة للقرآن الكريم، وخدمة لكل من يريد التعرف على شىء يتعلق بهذا القرآن العظيم.
ولا يفوتنا أن نقدم خالص الشكر أيضا للعديد ممن أسهموا إسهاما بارزا فى إخراج هذا المجلد، ونخص بالذكر الأخ الفاضل الأستاذ الدكتور عبد الصبور مرزوق، والأخ الكريم الأستاذ الدكتور على جمعة محمد الذى قام بمهمة الإعداد والتحرير، والأستاذ أبو سليمان صالح الذى أشرف على طباعة هذه الموسوعة، ولكثيرين غيرهم ممن أسهموا بشكل أو بآخر فى العمل على إخراج هذا المجلد، فلهم جميعا منا كل الشكر والتقدير، ومن الله الأجر والثواب الجزيل.
وبالله التوفيق ..،،
المقدمة / 5
- هـ -
كلمة التحرير
هذه هى الموسوعة القرآنية المتخصصة، وهى الكتاب الثانى بعد المجلد التمهيدى الذى صدر تحت عنوان (الموسوعة الإسلامية العامة)، وبذلك يعد أول الموسوعات المتخصصة، والتى ستصدر تباعا إن شاء الله تعالى، وفى هذا المجلد سيجد القارئ الكريم أننا عالجنا فى صورة مقالات مطولة مستفيضة خمسة عشر موضوعا تتعلق كلها بالقرآن الكريم بدأناها بالوحى، ثم أسباب النزول، ثم المبادئ العامة والقيم فى القرآن الكريم، ثم القرآن وما يكتب فيه، ثم السور القرآنية، ثم التفسير والمفسرون ثم القراءات والقراء، ثم علم التجويد، ثم بلاغة القرآن، ثم علوم القرآن، ثم الإعجاز البيانى، ثم الإعجاز المعاصر، ثم الإعجاز العلمى، ثم مفردات قرآنية، ثم الإنسان فى القرآن، ثم السنن الإلهية فى القرآن، ثم ترجمة معانى القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى غير العربية، وقام أساتذة كرام من كبار العلماء بكتابة هذه الموضوعات، وفى نهاية الموسوعة كتبنا فهرسا بالمحتويات، ثم فهرسا هجائيا بمفردات ما ورد فى الموسوعة من مواد، يستطيع القارئ بيسر مراجعة أى موضوع يريده بالبحث فى هذا الفهرس التفصيلى، كما أنه يستطيع أن يراجع أى مقالة بحالها، وهذه الموسوعة تغيّت جمهور خطابها فى المثقفين الذين يريدون أن ينهلوا المعرفة الدقيقة الصافية مع الإحالة إلى المراجع الموثقة بشأن كل جزئية من الجزئيات.
والله نسأل أن ينفع بها وأن يجعلها تسد حاجة طال انتظارها.
أ. د. على جمعة محمد
المقدمة / 7
- و-
السادة العلماء المشاركون فى تحرير الموسوعة (١)
١ - أ. د. إبراهيم عبد الرحمن خليفة. أستاذ بجامعة الأزهر
٢ - أ. د. أحمد فؤاد باشا. نائب رئيس جامعة القاهرة
٣ - أ. د. جمال مصطفى المجار. أستاذ بجامعة الأزهر
٤ - أ. د. جودة محمد أبو اليزيد المهدى. أستاذ بجامعة الأزهر
٥ - أ. د. السيد إسماعيل على سليمان. أستاذ بجامعة الأزهر
٦ - أ. د. عبد الحى الفرماوى. أستاذ بجامعة الأزهر
٧ - أ. د. عبد السميع هاشم. أستاذ بجامعة الأزهر
٨ - أ. د. عبد العظيم المطعنى. أستاذ بجامعة الأزهر
٩ - أ. د. عبد الغفور محمود مصطفى. أستاذ بجامعة الأزهر
١٠ - أ. د. على جمعة محمد. أستاذ بجامعة الأزهر
١١ - أ. د. محمد بكر إسماعيل. أستاذ بجامعة الأزهر
١٢ - أ. د. محمد رجب البيومى. أستاذ بجامعة الأزهر
١٣ - أ. د. محمد السيد جبريل. أستاذ بجامعة الأزهر
١٤ - أ. د. مصطفى الشكعة. أستاذ بجامعة عين شمس
الإعداد والتحرير:
أ. د. على جمعة محمد
الإشراف الفنى:
أ. أبو سليمان محمد صالح
_________
(١) رتبت الأسماء طبقا للترتيب الهجائى.
المقدمة / 8
الوحى
الإيمان بالوحى الإلهى ضرورة حتمية للإيمان بالقرآن وبالرسالة؛ لأن الوحى هو وسيلة إنزال القرآن على قلب النبى ﷺ كما صرح بذلك فى قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها (١) ومن ثم كانت قضية الوحى بأبعادها المختلفة لها عظيم الأهمية فى مجال البحث القرآنى مما يستلزم إلقاء الضوء عليها وإزالة اللبس المكتنف لها.
ويعرّف الوحى لغة: بأنه الإعلام فى خفاء، وأصله كما قال الراغب: الإشارة السريعة. ومجمع القول فى معناه اللغوى: أنه الإعلام الخفى السريع الخاص بمن يوجّه إليه بحيث يخفى على غيره (٢). ويتفرع عن هذا المدلول اللغوى عدة معان للوحى كالإشارة والكتاب والرسالة والأمر والتفهيم (٣).
أما الوحى بمعناه الشرعى: فهو إعلام الله تعالى لنبىّ من أنبيائه بحكم شرعى ونحوه بطريقة خفية غير معتادة للبشر (٤).
وللوحى إطلاقات عديدة ورد بها فى القرآن الكريم مفرعة عن المدلول اللغوى الأصلى لمادة «الوحى» و«الإيحاء»:
فمن ذلك: إطلاق الوحى بمعنى الإلهام الفطرى للإنسان كما فى قوله تعالى:
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ (٥) وقوله تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي (٦).
ومن ذلك: إطلاق الوحى بمعنى الإلهام الغريزى للحيوان؛ كما فى قوله تعالى:
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٧).
ومن ذلك: إطلاق الوحى مرادا به الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيماء كما فى قوله تعالى فى حق نبى الله زكريا- ﵇: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٨).
ومن ذلك: إطلاق الوحى بمعنى وسوسة الشيطان وتزيينه الشر للإنسان؛ كما فى قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ
_________
(١) سورة الشورى: الآية ٧.
(٢) محمد رشيد رضا: الوحى المحمدى ص ٧ ط الزهراء للإعلام العربى ١٤٠٨ هـ- ١٩٨٨ م.
(٣) د/ جودة محمد أبو اليزيد المهدى: فتح الجليل فى علوم التنزيل: ص ١٩١ - ١٩٢، ط/ دار الفاتح للتراث الإسلامى.
(٤) محمد رشيد رضا: الوحى المحمدى ص ٨ ط/ الزهراء ١٤٠٨ هـ، وعبد العظيم الزرقانى: مناهل العرفان ١/ ٥٦ ط/ الحلبى.
(٥) سورة القصص: الآية ٧.
(٦) سورة المائدة: الآية ١١١.
(٧) سورة النحل: الآية ٦٨.
(٨) سورة مريم: الآية ١١.
1 / 1
لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (٩).
وبنفس المعنى يأتى التعبير بالوحى لدلالة وسوسة شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض الجن إلى بعض، أو بعض الإنس إلى بعض، كما فى قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٠) (١١).
وكذلك ورد الوحى- فى التنزيل- بمعنى الإلهام أو الرؤيا المنامية، كما فى قوله تعالى:
إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ (١٢) (١٣).
كما جاء إطلاق الوحى- فى التنزيل.
بمعنى الأمر والتعليم، كما فى قوله تعالى:
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا (١٤) (١٥).
وجاء إطلاق الوحى مرادا به إلقاء الله إلى الملائكة من أمره، وإجراء له مجرى القول، وذلك فى قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (١٦) (١٧).
ثم لقد جاء إطلاق الوحى بمعناه الشرعى إلى النبى ﷺ وإلى غيره من الأنبياء فى آيات عديدة كما فى قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا (١٨).
كما جاء إطلاق الوحى إلى جميع الرسل السابقين فى قوله عز شأنه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (١٩).
****** ونتوقف عند وحى الله تعالى إلى الملائكة لنتعرف حقيقته:
فقد جاء وحى الله إلى الملائكة فى قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (٢٠).
كما صرح القرآن العزيز بأنه تعالى يوحى إلى ملك الوحى ما يوحيه الملك إلى الرسول ﷺ، وذلك فى قوله سبحانه: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (٢١) أى: أوحى الله تعالى إلى عبده جبريل- ﵇ ما أوحاه جبريل إلى نبيّه سيدنا محمد ﷺ (٢٢).
* ولأن وحى الله تعالى إلى ملائكته من الأمور الغيبية التى لا نعلم كيفيتها إلا
_________
(٩) سورة الأنعام: الآية ١٢١.
(١٠) سورة الأنعام: الآية ١١٢.
(١١) انظر تفسير البيضاوى (أنوار التنزيل) ١/ ٢٧٤ ط/ الحلبى ١٣٥٨ هـ ١٩٣٩ م.
(١٢) سورة طه- ﵊ الآية ٣٨، وبعض الآية ٣٩.
(١٣) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى ٢/ ٣٩ ط/ الحلبى ١٣٥٨ هـ ١٩٣٩ م.
(١٤) سورة المؤمنون: الآية ٢٧.
(١٥) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى ٢/ ٨٣ ط/ الحلبى ١٣٥٨ هـ.
(١٦) سورة الأنفال صدر الآية الكريمة ١٢.
(١٧) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى ١/ ٣٢٣ ط/ الحلبى ١٣٥٨ هـ.
(١٨) سورة النساء: الآية ١٦٣.
(١٩) سورة الأنبياء: الآية ٢٥.
(٢٠) سورة الأنفال: صدر الآية الكريمة ١٢.
(٢١) سورة النجم: الآية ١٠، وانظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى ١/ ٣٤٠.
(٢٢) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى ١/ ٣٤٠ ط/ الحلبى، والوحى المحمدى لمحمد رشيد رضا ص ٧ ط/ الزهراء.
1 / 2
بالتوقيف والنقل عن صحيح السنة ومقبولها، فإننا نعمد إلى ما روى من السنة الصحيحة فى هذا الصدد:
فيروى البخارى عن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- أنه قال: «إذا تكلم الله بالوحى سمع أهل السماوات شيئا، فإذا فزّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق» (٢٣). ولا مرية فى أن أهل السماوات هم الملائكة.
كما أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبى معاوية أن النبي ﷺ قال: «إنّ الله- ﷿ إذا تكلم بالوحى سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجرّ السلسلة على الصفاء، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاء جبريل فزّع عن قلوبهم.
قال: ويقولون: يا جبريل ماذا قال ربكم؟
قال: فيقول: الحق. قال فينادون: الحقّ، الحقّ» (٢٤).
هذا مع الأخذ فى الاعتبار أن الملائكة ذواتهم نورانية علوية، ويعتريهم من أثر الوحى هذا الصعق، كما يعترى السماء ذاتها تلك الصلصلة، ولا عجب فإنه تجلى الحق تعالى بصفة الكلام القديم وأنّى للمحدثات بالصمود لسطوتها!! إنهم من فزعهم يحسبون أن الساعة قد حان مرساها.
فقد أخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود مرفوعا: «إذا تكلم الله بالوحى سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان، فيفزعون، ويرون أنه من أمر الساعة» (٢٥)!!
وسيأتى مزيد تبيان لتلقى الملك الوحى سماعا من الله تعالى فى تناولنا للوحى القرآنى خلال هذا البحث بإذن الله تعالى.
****** أنواع الوحى ومراتبه:
فنجد الأصل فى معرفة ذلك- قرآنيا- قوله تعالى شأنه: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٢٦). فقد استنبط أساطين المفسرين منها جملة أنواع للوحى الإلهى إلى من اصطفاهم الله تعالى من البشر:
النوع الأول: ما كان الوحى فيه إلقاء فى القلب مناما، وهو ما يعرف بوحى الرؤيا الصادقة، كرؤيا خليل الرحمن- ﵇ التى قصّها القرآن فى قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (٢٧).
وكرؤيا النبى ﷺ أنه يدخل المسجد
_________
(٢٣)،
(٢٤) فتح البارى بشرح صحيح البخارى لابن حجر ١٣/ ٣٨٩ ط/ الهيئة المصرية ١٣٤٨ هـ.
(٢٥) انظر تخريجه فى (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١/ ١٢٧ ط/ المشهد الحسينى ١٣٨٧ هـ.
(٢٦) سورة الشورى: الآية ٥١.
(٢٧) سورة الصافات: الآية ١٠٢.
1 / 3
الحرام، حيث قال تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٢٨).
النوع الثانى: ما كان الوحى فيه إلقاء فى القلب يقظة، بالإلهام الذى يقذفه الله تعالى فى قلب مصطفاه، على وجه من العلم الضرورى الذى لا يستطيع له دفعا ولا يجد فيه شكا ولا إشكالا، ومن هذا النوع: ما رواه أبو نعيم عن أبى أمامة والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبى ﷺ أنه قال: «إن روح القدس نفث فى روعى: أنه لن
تموت نفس حتى تستوفى رزقها» (٢٩).
النوع الثالث: ما كان الإيحاء فيه يقظة من غير طريق الإلهام. وذلك كإيحاء الزبور لنبى الله داود- ﵇ فقد روى عن مجاهد ﵁ أن الزبور أوحى إليه فى صدره إلقاء فى اليقظة وليس بإلهام، والفرق فى ذلك: أن الإلهام لا يستدعى صورة كلام نفسى حتما فقد وقد، وأما اللفظى: فلا.
وأما إيحاء الزبور فإنه يستدعيه (٣٠).
النوع الرابع: ما كان الوحى فيه بالتكليم مشافهة ومكافحة عيانا بغير حجاب ولا واسطة، كما وقع لنبينا ﷺ ليلة المعراج، فقد استشهد الأئمة من المفسرين لرؤية النبى ﷺ ربه عند تفسير قوله تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (٣١) بما فى حديث أنس عند البخارى من قوله: «... ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبّار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة ....». (٣٢)
ومناط هذا الاستدلال: إرجاع الضمائر فى:
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى وكذا الضمير المنصوب فى وَلَقَدْ رَآهُ لله تعالى، ومن ثم يتقرر ثبوت الوحى المباشر مع الرؤية عيانا وهو أرفع أنواع الوحى.
النوع الخامس: ما كان الوحى فيه من وراء حجاب، بغير واسطة ولكن لا بالمشافهة، بأن يسمع كلاما من الله من غير رؤية السامع من يكلمه، كما سمع سيدنا موسى- ﵇ من الشجرة، ومن الفضاء فى جبل الطور، قال تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٣) وليس المراد بالحجاب فى قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ: حجاب الله تعالى عن عبده حسّا، إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حسا، وإنما المراد: المنع من رؤية الذات الأقدس بلا واسطة (٣٤).
النوع السادس: هو ما كان الوحى فيه
_________
(٢٨) سورة الفتح: الآية ٢٧.
(٢٩) انظر (الجامع الكبير) للحافظ السيوطى ١/ ٢٤٣، وانظر (فتح البارى) لابن حجر ١/ ١٦، و(مناهل العرفان) للزرقانى ١/ ٥٧.
(٣٠) انظر (روح المعانى) للإمام الآلوسي ٢٥/ ٥٤ ط/ المنيرية، و(مفاتيح الغيب) للفخر الرازى ٢٧/ ١٨٧ ط/ دار الفكر ١٤٠١ هـ ١٩٨١ م.
(٣١) سورة النجم: الآية ١٣.
(٣٢) أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد من صحيحه ٤/ ١٩٩، ط/ حجازى، وانظر (روح المعانى) للآلوسى ٢٨/ ٥٢.
(٣٣) سورة القصص: الآية ٣٠.
(٣٤) انظر (البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد) لابن عجيبة الحسنى ٥/ ٣٣٠، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٤٢١ هـ- ٢٠٠٠ م.
1 / 4
بواسطة ملك يرسله الله تعالى إلى مصطفاه من البشر، وهذا النوع هو المعروف بالوحى الجلىّ، وهو المذكور فى قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ.
هذا: ووجه انحصار هذه الأنواع الستة فى الأقسام الثلاثة المذكورة فى الآية الكريمة- التى صدرنا بها هذا المبحث- أن القسم الأول- المستنبط من قوله سبحانه: إِلَّا وَحْيًا ينتظم الأنواع الأربعة الأولى، وهى:
الوحى المنامى، والإلهامى- بالنفث فى الروع-، والإلقائى فى الصدر بصورة الكلام النفسى، والتكليم مشافهة مع الرؤية.
والقسم الثانى: المذكور فى قوله تعالى:
أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ يختص بالنوع الخامس. وكذلك القسم الثالث- المأخوذ من قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا يختص بالنوع السادس الأخير.
* تلك هى الأنواع الرئيسية للوحى، على أن الإمام الحليمى قد ذكر أن الوحى كان يأتى النبى ﷺ على ستة وأربعين نوعا، فذكرها، وغالبها من صفات حامل الوحى، ومجموعها يدخل فيما ذكر (٣٥).
* وبناء على ما تقدم، فإن مراتب الوحى يمكن أن تصنّف باعتبارين:
فباعتبار المشافهة والتلقى من المصدر دون حجاب أو واسطة يكون ترتيب الأقسام فى الآية الكريمة أولوية، حيث ذكر أولا: الكلام بلا واسطة بل مشافهة، ويندرج تحته- أولويا-: النوع الرابع- فى تصنيفنا الآنف- ثم النوع الثالث، ثم النوع الثانى، ثم الأول.
ثم ذكر ما كان بغير واسطة ولكن لا بالمشافهة، بل من وراء الغيب، وهو النوع الخامس. ثم ذكر ثالثا: الكلام بواسطة الإرسال.
وأما بالاعتبار الثانى- وهو باعتبار الجلاء والخفاء- فإن النوع السادس هاهنا وهو المصطلح على تسميته ب (الوحى الجلى) له الصدارة، إذ هو أشهر الأنواع وأكثرها.
ولذلك كان وحى القرآن الكريم جلّه- على المعتمد الراجح- من هذا النوع. ووجه تفضيله: أنه مخصوص بالأنبياء- ﵈ وليس لأنه أشرف من وحى المشافهة.
ثم يليه الوحى فى اليقظة بدون حجاب سواء كان إيحاء مع استدعاء صورة الكلام النفسى، أم إلهاما بالنفث فى الروع، ثم الإلقاء المنامى فى القلب- الذى أخرج فيه الشيخان- عن النبى ﷺ: «رؤيا الأنبياء وحى» (٣٦). ثم التكليم من وراء حجاب.
_________
(٣٥) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١/ ١٦، ط/ الهيئة المصرية.
(٣٦) أخرجه البخارى فى باب (التخفيف فى الوضوء) حديث ١٣٨، وخرجه الحافظ فى فتح البارى عن مسلم (١/ ٢٨٩).
1 / 5
صور الوحى إلى النبى ﷺ وكيفياته:
فنجد العلماء قد ذكروا له تسع صور تجسد كيفياته وصفاته:
فالصورة الأولى: أن يأتى ملك الوحى إلى النبى ﷺ فى مثل صلصلة الجرس، فقد روى البخارى فى صحيحه بسنده عن السيدة عائشة- رضى الله تعالى عنها- أن الحارث بن هشام ﵁ سأل رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحى؟
فقال رسول الله ﷺ: «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس- وهو أشده علىّ- فيفصم عنى وقد وعيت ما قال ..». (٣٧)
لقد شبّه النبى ﷺ صوت الملك لدى مجيئه بالوحى بصوت صلصلة الجرس.
والصلصلة فى الأصل: صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين. وقيل: هو صوت متدارك لا يدرك فى أول وهلة، ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد.
والجرس- بفتح الراء- مشتق من الجرس- بسكون الراء- وهو الحسّ، ويطلق على ناقوس صغير أو سطل فى داخله قطعة نحاس يعلق منكوسا على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحدثت الصلصلة (٣٨).
وقال بعض العلماء: إن الصلصلة صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة فى تقدمه للوحى أن يقرع سمعه ﷺ الوحى فلا يبقى مكان لغيره، ولما كان الجرس لا يحصل صلصلة إلا متداركة، وقع التشبيه به دون غيره من الآلات.
فإن الكلام العظيم له مقدمات تأذن بتعظيمه للاهتمام به، وإنما كان شديدا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع (٣٩).
كذلك أخرج الإمام أحمد فى مسنده عن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما- أنه قال: سألت النبى ﷺ: هل تحس بالوحى؟ فقال رسول الله ﷺ: «نعم.
أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلىّ إلا ظننت أن نفسى تفيض» (٤٠). وهذا الحديث يفسر قوله ﷺ فى حديث البخارى المتقدم- عن هذه الكيفية للوحى: «وهو أشده علىّ»!!
ومع هذه الحالة المذكورة يكون النفث من الملك فى روع النبى ﷺ كما تقدم، إذ يقول الحافظ ابن حجر: (وأما النفث فى الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين- أى الصلصلة والتمثل رجلا- فإذا أتاه الملك فى مثل صلصلة الجرس نفث حينئذ فى روعه) (٤١). وظاهر ذلك خفاء ذات الملك لدى الصلصلة.
_________
(٣٧) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١/ ١٥ - ١٦ ط/ الهيئة المصرية.
(٣٨)،
(٣٩) نفس المصدر السابق.
(٤٠) انظر مسند الإمام أحمد ٢/ ٢٢٢، نشر دار صادر.
(٤١)،
1 / 6
وأما الصورة الثانية للوحى: فهى أن يأتى الملك للنبى ﷺ فى صورة رجل، فيكلمه بالوحى، كما قال النبى ﷺ فى تتمة حديث البخارى الذى أوردنا صدره فى بيان الصورة الأولى-: «وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى، فأعي ما يقول» ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد عرقا!!. وقد زاد أبو عوانة فى صحيحه: «وهو أهونه علىّ». كما ذكر فى «الإتقان».
وفى توضيح تمثّل الملك النبى ﷺ رجلا.
قال إمام الحرمين: معناه: أن الله أفنى الزائد من خلقه، أو أزاله عنه ثم يعيده إليه بعد.
وقال شيخ الإسلام سراج الدين البلقينى:
إن ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتى هو جبريل بشكله الأصلى، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك: عاد إلى هيئته.
ثم قال الحافظ ابن حجر معقّبا: والحق أن تمثيل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه: أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أيضا:
أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائى فقط. والله أعلم (٤٢).
ونستحضر هنا: أن النفث فى الروع يحتمل أن يكون مع هذه الحالة أيضا كما تقدم.
والصورة الثالثة: هى المقابلة للثانية- وهى أن ينخلع النبى ﷺ عن صورته البشرية، ويدخل فى الصورة الملكية بتمكين الله- تعالى- له ذلك، ويتلقى الوحى من الملك. وهذه- كما ذكر العلماء- أصعب الحالتين (٤٣).
ثم الصورة الرابعة: أن يوحي رب العزة إلى النبى ﷺ فى المنام بلا واسطة، كما جاء فى سنن الترمذي مرفوعا: «أتانى الليلة ربى ﵎ فى أحسن صورة فقال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ ....» (٤٤) الحديث.
ومما يجب التنبيه إليه هنا أن الحق- تعالى- منزه عن الصورة الحسية، فإذا رئى- سبحانه- على وصف يتعالى عنه كان لتلك الرؤيا ضرب من التأويل، كما نقل الحافظ ابن حجر عن الواسطى: أن من رأى ربه على صورة شيخ كان إشارة إلى وقار الرأى، وغير ذلك (٤٥).
والصورة الخامسة: أن يأتى ملك الوحى جبريل إلى النبى ﷺ فى النوم فيوحى إليه بما أمره الله تعالى به. وقد عدّ بعض العلماء من هذا القبيل سورة (الكوثر)، بيد أن التحقيق أنها نزلت فى اليقظة (٤٦)، كما سيأتى فى تناول الوحى القرآنى فى محله.
والصورة السادسة: أن يأتى الملك
_________
(٤٢) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١/ ٨٥، ١٧ ط/ الهيئة المصرية.
(٤٣) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١/ ١٢٥، ط/ المشهد الحسينى.
(٤٤) انظر (عمدة القارى) للإمام العينى ١/ ٤٤، ط/ الحلبى، الأولى ١٣٩٢ هـ- ١٩٧٢ م.
(٤٥) انظر (فتح البارى) لابن حجر العسقلانى ١٢/ ٣٣٦، ط/ الهيئة المصرية.
(٤٦) انظر (الإتقان) للحافظ السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١/ ١٢٩، ط/ المشهد الحسينى.
1 / 7
جبريل- ﵇ إلى النبى ﷺ يقظة على صورته الأصلية تماما بلا تمثل ولا تغير بانضمام ونحوه، فيراه بستمائة جناح ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت، ويوحى إليه على تلك الهيئة الملكية الأصلية كما نقله الإمام العينى عن السهيلى فى بيان صورة الوحى من (عمدة القارى) (٤٧).
ويؤيده ما رواه الإمام مسلم عن السيدة عائشة- رضى الله عنها- مرفوعا: «لم أره- يعنى جبريل- على الصورة التى خلق عليها إلا مرتين ..». وفى رواية الترمذى عن السيدة عائشة: «لم ير محمد جبريل فى صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة فى أجياد». كما نقل الحافظ ابن حجر عن سيرة (سليمان التيمى): «أن جبريل أتى النبى ﷺ فى حراء، وأقرأه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثم انصرف، فبقى مترددا، فأتاه من أمامه فى صورته فرأى أمرا عظيما» (٤٨)!!
ثم الصورة السابعة: هى وحى الملك إسرافيل إلى النبى ﷺ فقد جاء فى «مسند أحمد» - بإسناد صحيح- عن الشعبى: «أن رسول الله ﷺ نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل- ﵇ ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته
جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة ...» (٤٩)
وقد نقل الإمام السيوطى- عقب هذه الرواية- قول ابن عساكر: والحكمة فى توكيل إسرافيل: أنه الموكل بالصور الذى فيه هلاك الخلق وقيام الساعة، ونبوته ﷺ مؤذنة بقرب الساعة وانقطاع الوحى (٥٠).
والصورة الثامنة للوحى: أن يكلم الله تعالى رسوله ﷺ فى اليقظة كفاحا بلا واسطة ويسمعه كلامه، كما حدث فى ليلة الإسراء والمعراج حيث أوحى إلى الرسول ﷺ خواتيم سورة البقرة، وقد استدل الإمام السيوطى لذلك بما أخرجه الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنه قال:
«لما أسرى برسول الله ﷺ انتهى به إلى سدرة المنتهى ...». إلى أن قال: «فأعطى رسول الله ﷺ ثلاثا: أعطى الصلوات الخمس، وأعطى خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا «المقحمات» أى: الكبائر التى تقحم أهلها فى النار» (٥١).
ثم الصورة التاسعة: هى النفث فى الرّوع، بأن ينفث فى روع النبى ﷺ الكلام نفثا، أى ينفخ فى قلبه الوحى كما قال ﷺ:
«إن روح القدس نفث فى روعى ...». وقد مرّ بتخريجه متفرعا عن النوع الثانى من أنواع الوحى وهو الإلقاء الإلهامى فى اليقظة.
ومن ثم: كانت الكيفيات والصور الوصفية
_________
(٤٧) انظر (عمدة القارى شرح صحيح البخارى) للإمام بدر الدين العينى ١/ ٤٤.
(٤٨) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١/ ١٩، ط/ الهيئة المصرية.
(٤٩)،
(٥٠) انظر (عمدة القارى شرح البخارى) للإمام العينى ١/ ٤٤، ط/ الحلبى، وانظر (الإتقان) للإمام السيوطى ١/ ١٢٩.
(٥١) أخرجه الإمام مسلم فى كتاب الإيمان: باب ذكر سدرة المنتهى: ١/ ١٥٧، ط/ دار الفكر- ببيروت ١٣٩٨ هـ.
1 / 8
أخص من الأنواع لا مطابقة لها. وقد عده الإمام السيوطى فى كيفيات الوحى- وكذا الحافظ فى «الفتح» عدّه فى فنون الوحى الذى يأتى بحامل، وذكرا أنه يحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين (أى الصلصلة وتمثل الملك رجلا). ولا يخفى أن التعبير بالاحتمال ونحوه لا يحصل النفث فيهما، بل يحتمل أن يكون فى حالة ثالثة مغايرة للحالتين.
وقد صرح الحافظ ابن حجر بأن للوحى حالات مغايرة لها، وهى: إما من صفة الوحى، كمجيئه كدويّ النحل، والنفث فى الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة. وإما من صفة حامل الوحى كمجيئه فى صورته التى خلقه الله عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسى بين السماء والأرض، وقد سدّ الأفق. (٥٢)
الوحى القرآنى:
أما عن (الوحى القرآنى) بخصوصه، فإن له خصائص فى نوعيته وكيفية تلقيه والحالة التى يتنزل بها على النبى ﷺ.
فالخصيصة الأولى: أن جميع القرآن قد تلقاه النبى ﷺ فى اليقظة، ولم يكن شىء منه فى المنام- على وجه الاستقلال- على القول الراجح والمعتمد لدى أساطين علماء التنزيل.
ولئن ذهب قوم إلى أن بعض الوحى القرآنى كان مناميا احتجاجا بما رواه مسلم عن سيدنا أنس أنه قال: «بينا رسول الله ﷺ بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟
فقال: أنزل علىّ آنفا سورة، فقرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)».
فإن هذا مردود عليه: بما نقله الإمام السيوطى (٥٣) عن الإمام الرافعى فى «أماليه» إذ قال: فهم فاهمون من الحديث أن السورة نزلت فى تلك الإغفاءة، وقالوا: من الوحى ما كان يأتيه فى النوم؛ لأن رؤيا الأنبياء وحى.
قال: وهذا (أى أن رؤيا الأنبياء وحى) صحيح، لكن الأشبه أن يقال: إن القرآن كله نزل فى اليقظة، وكأنه خطر له فى النوم سورة الكوثر المنزلة فى اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذى نزلت فيه السورة، فقرأها عليهم وفسّرها لهم.
ثم قال: وورد فى بعض الروايات أنه أغمى عليه، وقد يحمل ذلك على الحالة التى كانت تعتريه عند نزول الوحى، ويقال لها برحاء الوحى. انتهى.
(ثم عقّب الإمام السيوطى بقوله): قلت:
الذى قاله الرافعى فى غاية الاتجاه، وهو الذى كنت أميل إليه قبل الوقوف عليه،
_________
(٥٢) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١/ ١٥، ط/ الهيئة المصرية.
(٥٣)،
1 / 9
والتأويل الأخير أصح من الأول؛ لأن قوله:
«أنزل علىّ آنفا». يدفع كونها نزلت قبل ذلك.
بل نقول: نزلت تلك الحالة، وليس الإغفاءة إغفاءة نوم، بل الحالة التى كانت تعتريه عند الوحى، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا (٥٣). وكذلك قال الإمام السيوطى عند ذكر الوحى المنامى: (وليس فى القرآن من هذا النوع شىء فيما أعلم) (٥٤).
ومن ثم: يترجح أن القرآن الكريم قد نزل كله على النبى ﷺ فى حالة اليقظة ولم يكن شىء من الوحى القرآنى مناما.
والخصيصة الثانية: أن القرآن الكريم كله من قبيل ما اصطلح عليه علماء التنزيل ب (الوحى الجلى)، فكما أنه لم يقع شىء من الوحى القرآنى مناما كذلك لم يكن شىء منه من قبيل الإلقاء الإلهامى الذى يقذف فى القلب، مع أنه يكون على وجه من العلم الضرورى الذى لا يداخله الشك أو الاشتباه، ولكن الحق- تعالى- جعله من قبيل التكليم الظاهر؛ للمبالغة فى توثيقه على أكمل وجه وأوضحه (٥٥).
ولسنا- من هذا المنطلق- مع قول من زعم أن الوحى القرآنى لم يكن شىء منه من قبيل التكليم الشفاهى من الحق- تعالى- لرسوله ﷺ كفاحا من غير حجاب ولا واسطة ملك، فقد ذكر الإمام السيوطى أن الآيتين من آخر سورة البقرة نزلتا ليلة المعراج، كما عدّ من هذا النوع أيضا: بعض سورة (الضحى)، وأَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؛ واستدل بحديث ابن مسعود- الذى أوردناه فى الصورة الثامنة للوحى، وبما أخرجه ابن أبى حاتم من حديث عدى بن ثابت عن النبى ﷺ أنه قال:
«سألت ربى مسألة؛ وددت أنى لم أكن سألته؛ قلت: أى ربّ، اتخذت إبراهيم خليلا، وكلّمت موسى تكليما؟ فقال: يا محمد، ألم أجدك يتيما فآويت؟ وضالا فهديت؟ وعائلا فأغنيت؟ وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معى؟» (٥٦).
كما نقل عن الهذلى أنه قال فى «الكامل»:
«نزلت آمَنَ الرَّسُولُ إلى آخرها بقاب قوسين» (٥٧)!!
وقد قدّمنا أن هذا النوع هو أشرف أنواع الوحى، فلا غرو أن يكون للوحى القرآنى منه حظ معلوم.
بيد أن فريقا من العلماء قد قرر- بعد التسليم بهذا الوحى القرآنى الشفاهى لما مر من الأدلة- أنه يجوز أن يكون جبريل ﵇ قد نزل بهذه الآيات التى أوحى بها مشافهة مرة أخرى على سبيل التأكيد والتقرير، فتكون مما تكرر نزوله، ومن ثم تتقرر:
_________
(٥٤) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١/ ٦٥ - ٦٦، ١٢٩، ط/ المشهد الحسينى.
(٥٥) انظر (مناهل العرفان) للزرقانى ١/ ٥٧، ط/ الحلبى.
(٥٦)،
(٥٧) انظر الإتقان للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١/ ٦٧، ١٢٩.
1 / 10
الخصيصة الثالثة للوحى القرآنى:
وهى أن الله تعالى قد وكل به جميعه أمين الوحى جبريل- ﵇ خاصة دون ملك سواه، لقوله تعالى شأنه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (٥٨).
فالروح الأمين هو سيدنا جبريل- ﵇ بإجماع المفسرين، وقد سماه الله تعالى روحا لأنه جسم لطيف روحانى خلق من الرّوح، أو لأنه روح كله لا كالناس الذين فى أبدانهم روح، أو لأنه لمجيئه بالوحى والدين بمثابة الروح الذى تثبت معه الحياة (٥٩).
وقد نعت بالأمين: لأنه الحفيظ المؤتمن على وحى الله، ومبلغه لأنبيائه.
كذلك سماه الله تعالى (روح القدس) فى قوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا (٦٠).
وذلك لأنه الروح المطهرة من أدناس البشرية، فالقدس: هو الطهر والنقاء، والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وقد نقل عن النحاس أن القدس: هو الله تعالى، والمعنى: أن جبريل روح الله تعالى- والإضافة للملكية- لأنه كان بتكوين الله تعالى له من غير ولادة (٦١)، وفى كل هاتيك المعانى كان لجبريل مزيد اختصاص بها من بين سائر الملائكة، إذ هو منهم كالرسول ﷺ من أفراد أمته، ولذلك اختاره الله- سبحانه- لأشرف المهام، فوكله بالكتب والوحى إلى الأنبياء، وبالنصر عند الحروب، وبالمهلكات إذا أراد أن يهلك قوما، وقد أخرج ابن أبى حاتم عن عطاء: «أول ما يحاسب جبريل؛ لأنه كان أمين الله على رسله» (٦٢).
* وإذا ما تساءلنا عن كيفية تلقى الأمين جبريل- ﵇ وحى القرآن من الله تعالى، وهل تلقاه مباشرة أو بواسطة؟ فإننا نجد للعلماء أقوالا أربعة فى هذا الصدد:
أولها: أن جبريل- ﵇ قد تلقف التنزيل من الله تعالى تلقفا روحانيا، قال بذلك العلامة الطيبى، والقطب الرازى فى حواشيه على «الكشاف»، حيث قال:
(والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا ....) (٦٣).
وثانيها: أن جبريل- ﵇ قد أخذ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به على النبى ﷺ. وهذا هو المعنى الثانى لإنزال الكتب على الرسل، حيث قال الطيبى: (لعل نزول القرآن على الملك: أن يتلقفه تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به على النبى ﷺ فيلقيه إليه) (٦٤).
_________
(٥٨) سورة الشعراء: الآيات ١٩٣ - ١٩٥.
(٥٩) انظر (مفاتيح الغيب) ٢٤/ ١٦٦، و(روح البيان) ٦/ ٣٠٦ وتفسير الشوكانى ٣/ ١٩٤.
(٦٠) سورة النحل: الآية ١٠٢.
(٦١) انظر (تفسير الشوكانى) ٣/ ١٩٤.
(٦٢) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١/ ١٣٠.
(٦٣)،
(٦٤) نفس المصدر ١/ ١٢٥ - ١٢٦ و(مناهل العرفان) للزرقانى ١/ ٤٠، ط/ الحلبى.
1 / 11
وثالثها: ما نقل عن الماوردى من أن الحفظة نجّمت القرآن على جبريل فى عشرين ليلة، وأن جبريل نجّمه على النبى ﷺ فى عشرين سنة (٦٥).
ورابعها: أن جبريل- ﵇ قد أخذ القرآن عن الله تعالى سماعا، فقد قال البيهقى فى معنى قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: (يريد والله أعلم: إنا أسمعنا الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع ...) (٦٦).
وقد رجح الحافظ السيوطى هذا القول الأخير بقوله: (ويؤيد أن جبريل تلقفه سماعا من الله تعالى: ما أخرجه الطبرانى- من حديث النواس بن سمعان مرفوعا- «إذا تكلم الله بالوحى أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجّدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهى به على الملائكة، فكلما مرّ بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهى به حيث أمر» (٦٧).
ولا شك أن هذا القول أحرى بالقبول، لقوة دليله من جهة، ولاقتضائه عدم الوساطة بين الله تعالى وبين جبريل فى التلقى من جهة أخرى، والتحرّز به من دعوى إنزال معناه دون لفظه بما تقضى إليه من موهمات من جهة ثالثة.
* فلقد رصد الإمام السيوطى لعلماء التنزيل فى بيان ما نزل به جبريل على النبى ﷺ من الوحى القرآنى ثلاثة أقوال؛ نثبتها بمزيد تبيان وتحليل على النحو التالى:
القول الأول: أنه نزل بلفظ القرآن ومعناه، حيث إنه من المرجح أن جبريل قد تلقف القرآن سماعا من الله تعالى، وتكليما نفسيا بالصفة القديمة مع إلهامه بالألفاظ الدالة على المعانى القائمة بذاته تعالى، كما هو محصل تقريرى الأصفهانى- فى مقدمة تفسيره- والقطب الرازى.
أو أن جبريل- ﵇ قد حفظ القرآن- بلفظه ومعناه- من اللوح المحفوظ، الذى أوجد الله تعالى فيه الكلمات والحروف الدالة على معنى القرآن القائم بذات الله ﵎، فنزل به لفظا ومعنى على النبى ﷺ (٦٨).
والقول الثانى: أن جبريل- ﵇ قد ألقى إليه المعنى فقط، وأنه عبر عنها بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية، ثم إنه نزل به كذلك على النبى صلوات الله وسلامه عليه. ولم يثبت لأصحاب هذا الزعم الفاسد دليل عليه!!
والقول الثالث: أن جبريل قد نزل على النبى ﷺ بالمعانى خاصة، وأنه ﷺ علم تلك المعانى وعبر عنها بلغة العرب!!
_________
(٦٥) انظر (مناهل العرفان) للزرقانى ١/ ٤٠ - ٤١.
(٦٦) انظر الإتقان للإمام السيوطى ١/ ١٢٦.
(٦٧)،
(٦٨) نفس المصدر ١/ ١٢٥ - ١٢٧.
1 / 12
وقد استدل الذاهبون إلى هذا الرأى المتهافت بظاهر قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ (٦٩). حيث إن تخصيص النزول بالقلب- على أن المراد به العضو المخصوص- موجه بأن المعانى الروحية تنزل على الروح ثم تنتقل به إلى القلب، لما بينهما من التعلق، ثم تتصعد منه إلى الدماغ، فينتقش بها لوح المتخيلة.
بيد أن هذا خلاف القول الصحيح عند المفسرين والمحدثين، الذين وجّهوا لتخصيص القلب بالنزول: بأنه المدرك والمكلف دون سائر الجسد، وهو المخاطب فى الحقيقة لأنه موضع التمييز.
وقد يقال: إنه لما كان له ﷺ جهتان: جهة ملكية يستفيض بها، وجهة بشرية يفيض بها، جعل الإنزال على روحه ﷺ المعبر عنها بالقلب، حيث قال الراغب: إنها أحد إطلاقاته؛ لأنها المتصفة بالصفات الملكية التى يفيض بها من الروح الأمين. وقد أشار إلى ذلك تعبير القرآن ب (على قلبك) دون (عليك).
وكذلك وجّه تخصيص الإنزال بالقلب؛ بأنه إشارة إلى كمال تعلقه ﷺ وفهمه ذلك المنزل، حيث لم تعتبر واسطة فى وصوله إلى القلب الذى هو محل العقل كما يقتضيه ظاهر كثير من الآيات والأحاديث (٧٠).
ومن ثم يترجح القول الحق: وهو أن القرآن الكريم بلفظه ومعناه من عند الله تعالى لا مدخل لجبريل ولا لغيره فى ألفاظه، فالله- سبحانه- هو الذى أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية لأجل التفهيم والتّفهّم، كما نبرز نحن كلامنا اللفظى- ولله المثل الأعلى- على وفق كلامنا النفسى لأجل التفهيم والتفهم، ولا ينسب الكلام بحال إلا إلى من رتبه فى نفسه أولا دون من اقتصر على حكايته وقراءته، وإننا لنؤازر العلامة الزرقانى فى حكمه على زعم أن ألفاظ القرآن من عند جبريل أو النبى ﷺ بقوله: (وعقيدتى أنه مدسوس على المسلمين فى كتبهم؛ وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمد أو لجبريل؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله؟ مع أن الله يقول: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ (٧١).
وللإمام الجوينى تقرير فى قضية الوحى القرآنى يؤكد فيه صدوره عن الله لفظا ومعنى؛ يقول فيه: (كلام الله المنزل قسمان:
قسم قال لجبريل: قل للنبى الذى أنت مرسل إليه: إن الله يقول: افعل كذا وكذا .... ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبى، وقال له ما قاله ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة؛ كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان:
_________
(٦٩) سورة الشعراء: الآية ١٩٤.
(٧٠) انظر (مفاتيح الغيب) للفخر الرازى ٢٤/ ١٦٦ - ١٦٧، ط/ دار الفكر ببيروت، وروح المعانى للآلوسى ١٩/ ١٢٠ - ١٢١، ط/ المنيرية.
(٧١) سورة التوبة: الآية ٦، وانظر (مناهل العرفان) للزرقانى ١/ ٤٢، ط/ الحلبى.
1 / 13
يقول لك الملك: اجتهد فى الخدمة، واجمع جندك للقتال، فإن قال الرسول: يقول الملك:
لا تتهاون فى خدمتى، ولا تترك الجند تتفرق، وحثّهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب ولا تقصير فى أداء الرسالة.
وقسم آخر: قال الله لجبريل: اقرأ على النبى هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغيّر منه كلمة ولا حرفا) (٧٢).
وقد عقب على ذلك الإمام الحجة السيوطى شارحا وموضحا وموجها ومدللا فقال: (قلت: القرآن هو القسم الثانى، والقسم الأول: هو السنة كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى لأن جبريل أداه بالمعنى ولم تجز بالقراءة (أى فى القرآن) بالمعنى؛ لأن جبريل أداه باللفظ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى. والسر فى ذلك: أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتى بلفظ يقوم مقامه، وإن تحت كل حرف منه معانى لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتى بدله بما يشتمل عليه، والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين، قسم يروونه بلفظ الموحى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشقّ، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف. فتأمل) (٧٣).
ولست أرى ما ارتآه العلامة الزرقانى فى نقده لكلام الإمام الجوينى المتقدم من أنه لا يوجد أمامنا دليل على أن جبريل كان يتصرف فى الألفاظ الموحاة إليه فى غير القرآن، كيف وقد قال الإمام السيوطى عقب تعقيبه السابق مباشرة: (وقد رأيت عن السلف ما يعضد كلام الجوينى، وأخرج ابن أبى حاتم من طريق عقيل عن الزهرى، أنه سأل عن الوحى فقال: الوحى ما يوحى الله إلى نبى من الأنبياء، فيثبته فى قلبه، فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله، ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد ولا يأمر بكتابته، ولكنه يحدّث به الناس حديثا، ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه) (٧٤).
ومن ثم نقف على حقيقة الوحى القرآنى ونستيقن نزوله بلفظه ومعناه وبما حفل به من العظمة وقوة التأثير وجلال التنزيل، وتبارك منزّله- جل وعلا- إذ يقول: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (٧٥). قال بعض المفسرين فى تفسيرها: (لو كانت الجبال مقام الإنسان فى الخطاب (أى القرآنى) لتدكدكت الجبال وتزررت، وانفلقت الصخور
_________
(٧٢)،
(٧٣)،
(٧٤) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى ١/ ١٢٧ - ١٢٨، ط/ المنيرية.
(٧٥) سورة الحشر: الآية ٢١.
1 / 14