Encyclopedia of Groups Attributed to Islam - Al-Dorar Al-Sunniya
موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - الدرر السنية
Mai Buga Littafi
موقع الدرر السنية على الإنترنت dorar.net
Nau'ikan
ـ[موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام]ـ
إعداد: مجموعة من الباحثين بإشراف الشيخ عَلوي بن عبد القادر السقاف
الناشر: موقع الدرر السنية على الإنترنت dorar.net
عدد الأجزاء: ١٠
تم تحميله في/ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
[الكتاب مرقم آليا]
Shafi da ba'a sani ba
الباب الأول: مقدمة في الفرق
• الفصل الأول: الهدف من دراسة الفرق.
• الفصل الثاني: أهمية دراسة الفرق ورد شبهة من يريد عدم دراستها.
• الفصل الثالث: تعريف الافتراق والفرق بينه وبين الاختلاف.
• الفصل الرابع: النهي عن التفرق.
• الفصل الخامس: أسباب التفرق.
• الفصل السادس: مضار الفرقة في الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة.
• الفصل السابع: حصر الفرق في العدد المذكور في حديث الافتراق.
1 / 1
الفصل الأول: الهدف من دراسة الفرق
دراستنا للفرق ليس إقرارًا أو فرحًا بها، أو شماتة بالآخرين، وإنما ندرسها مع أسفنا الشديد للتفرق الحاصل بين المسلمين، والذي نرجو من وراء هذه الدراسة أن تحقق أهدافًا طيبة في خدمة الإسلام، وفي كسر حدة الخلافات التي مزقت المسلمين وفرقتهم إلى فرق وأحزاب.
والتي تهدف كذلك إلى جمع كلمتهم، ولفت أنظارهم إلى مواقع الخلاف فيما بينهم؛ ليبتعدوا عما وقع فيه من سبق من هذه الأمة، فإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل، فهي نوع من أنواع العلاج لتلك المآسي الحالَّة بالمسلمين، وسبب من الأسباب التي تبذل لينفع الله بها إن شاء؛ لأن معرفة الدواء النافع يتوقف على معرفة الداء.
ولا يحتاج المسلمون لجمع كلمتهم، وإعادة مجدهم وعزهم وانتصارهم على جحافل الكفر والطغيان إلا إلى العودة الصادقة والنية الخالصة، فإن الأسس التي قام عليها عز الإسلام والمسلمين فيما سبق لا تزال كما هي قائمة قوية جديدة على مر الأيام والليالي - كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وتلك الأهداف التي نتطلع إلى تحقيقها كثيرة نذكر أهمها فيما يأتي:
١ - تذكير المسلمين بما كان عليه أسلافهم من العزة والكرامة والمنعة حينما كانوا يدًا واحدة، وقلبًا واحدًا.
٢ - لفت أنظارهم إلى الحال الذي يعيشونه، ومدى ما لحقهم من الخسارة بسبب تفرقهم.
٣ - توجيه الأمة الإسلامية إلى الوحدة فيما بينهم، وذلك بالتركيز على ذم التفرق وبيان مساوئه، وبيان محاسن اتحاد المسلمين، وجمعهم على طريق واحد.
٤ - تبصير المسلمين بأسباب الخلافات التي مزقتهم فيما سبق من الزمان ليجتنبوها بعد أن يتدارسوها فيما بينهم بعزم قوي وصدق نية.
٥ - معرفة ما يطرأ على العقيدة الإسلامية الصحيحة من أفكار وآراء هدامة مخالفة لحقيقة الإسلام بعيدة عن طريقه الواضحة.
٦ - رصد تلك الحركات والأفكار التي يقوم بها أولئك الخارجون عن الخط السوي والصراط المستقيم؛ لتعرية دورهم الخطر في تفريق وحدة الأمة الإسلامية بتعريف الناس بأمرهم، وجلاء حقيقتهم للتحذير منهم، وبيان ما يقومون به من خدمة تلك الأفكار وترويجها. ذلك أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم في وضوح تام؛ فلكل قوم وارث (١).
٧ - حتى تبقى الفرقة الناجية علمًا يهتدى به بعيدة عن تلك الشوائب الطارئة على العقيدة.
٨ - وصل حاضر هذه الأمة بماضيها، وبيان منشأ جذور الخلافات بينهم والتي أدت إلى تفرقهم فيما مضى من الزمان للتحذير منها، وللرد على أولئك الذين يحاولون دعوة المسلمين إلى قطع صلتهم بماضيهم، والبناء من جديد كما يزعمون.
٩ - ثم إن دراستنا للفرق وإن كان يبدو عليها أنها بمثابة جمع لتراث الماضين- فإنه يراد من وراء ذلك دعوة علماء المسلمين إلى القيام بدارسته وفحصه واستخراج الحق من ذلك، واستبعاد كل ما من شأنه أن يخرج بالمسلمين عن عقيدتهم الصحيحة أو يفرق كلمتهم.
وهذا فيما أرى هو أنجح الطرق وأقربها إلى إشعار المخالفين بالإنصاف وطلب الحق للاستدلال على خلافهم وخروجهم عن الصواب من كتبهم ومن كلام علمائهم لقطع كل حجة مخالفة بعد ذلك.
والتأليف في شأن الفرق يحتاج إلى: إثبات ما نقل عن الفرقة إليها والتأكد من نسبته وأخذ ذلك من مصادره الموثوقة ثم فهمه على الوجه الصحيح ثم نقد آراء تلك الفرقة على وفق منهج أهل السنة والجماعة مع لزوم الإنصاف والصدق والتجرد عن الهوى والعصبية
وتعر من ثوبين من يلبسهما ... يلقى الردى بمذمة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه ... ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة ... زينت بها الأعطاف والكتفان
واجعل شعارك خشية الرحمن ... مع نصح الرسول فحبذا الأمران (٢)
المصدر:مقدمة محقق كتاب الفوائد المجتمعة في بيان الفرق الضالة والمبتدعة لإسماعيل بن عبد الباقي اليازجي تقديم الدكتور يوسف بن محمد السعيد - ص٨ - ٩
_________
(١) قال ولي الله الدهلوي: "إذا قرأت القرآن فلا تحسب أن المخاصمة كانت مع قوم انقرضوا، بل الواقع أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم بطريق الأنموذج بحكم الحديث: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) الحديث أخرجه الترمذي (جـ ٤ ص ٤٧٥).
(٢) هذه الأبيات لابن القيم في قصيدته المسماة «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» (١٩).
1 / 2
الفصل الثاني: أهمية دراسة الفرق ورد شبهة من يريد عدم دراستها
بيّنّا فيما مضى بعض الأهداف التي ندرس الفرق من أجلها، ونجيب هنا عن شبهة لكثير من الناس ربما يرددها بعضهم منخدعًا بحسن نية، والبعض الآخر يرددها بنية سيئة.
وهي: لماذا نشغل أنفسنا بدراسة فرق انتهت، وربما لم يعد لها ذكر على الألسنة ... وقد رد العلماء عليها قديمًا وحديثًا وانتهى الأمر؟
والجواب: إن هذا التساؤل قد انطوى على مغالطات خفية ونية سيئة، أو جهل شنيع، وذلك:
أولًا: إن هذه الفرق وإن كانت قديمة فليست العبرة بأشخاص مؤسسي تلك الفرق ولا بزمنهم، ولكن العبرة بوجود أفكار تلك الفرق في وقتنا الحاضر.
فإننا إذا نظرنا إلى فرقة من تلك الفرق الماضية نجد أن لها امتدادًا يسري في الأمة سريان الوباء.
وأقرب مثال على ذلك فرقة المعتزلة، أليس أفكارهم لا زالت حية قوية يتشدق بها بعض المغرضين من الذين استهوتهم الحضارة الغربية أو الشرقية، فراحوا يمجدون العقل ويحكمونه في كل الأمور، ويصفون من يعتمد على ما وراء ذلك بالتأخر والانزواء.
إنهم يريدون الخروج عن النهج الإسلامي ولكنهم لم يجرءوا صراحة على ذلك، فوجدوا أن التستر وراء تلك الآراء التي قال بها من ينتسب إلى الإسلام خير وسيلة لتحقيق ذلك، فذهبوا إلى تمجيد تلك الأفكار لتحقيق أهدافهم البعيدة.
ثانيًا: مما هو معلوم أن كل الأفكار والآراء التي سبقت لها أتباع ينادون بتطبيقها، فالنزعة الخارجية وتنطع أهلها في الدين، واستحلال دماء المسلمين لأقل شبهة، وتكفيرهم الشخص بأدنى ذنب - قائمة الآن في كثير من المجتمعات الإسلامية على أشدها، موهمين الشباب ومن قلت معرفته بالدين أن الدين هو هذا المسلك فقط.
كذلك نرى الصوفية وقد اقتطعت من المسلمين أعدادًا كثيرة، مثقفين وغير مثقفين، جَرَفَهُم التيار الخرافي فراحوا ينادون بالجهل والخرافات، واتباع المنامات، وتحضير الأرواح، ومعرفة المغيبات، وتعظيم الأشخاص والغلو فيهم.
وغير ذلك من مسالك الصوفية التي سندرسها بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا، فدراستنا هذه وإن كانت في ظاهرها دراسة للماضي، ومراجعة للتاريخ لفرق المبتدعة الذين جَنَوا على ماضي المسلمين إلا أنها دراسة حاضرة كذلك من حيث إنها تكشف جذور البلاء الذي شتت قوى المسلمين وفرقهم شيعًا، وجعل بأسهم بينهم شديدًا، بل هي نور يضيء لشبابنا طريقه وسط هذا الظلام الفكري المفتعل، الذي لا يخدم إلا أعداء الإسلام وشانئيه بتوجيه الأنظار إلى تلك الفرق التي تعمل في الظلام لنشر أفكارها، وفرض مخططاتها المعادية للإسلام. ثالثًا: إن دراسة الفرق والدعوة إلى الاجتماع واتحاد كلمة المسلمين -فيه تكثير لعدد الفرقة الناجية بانضمام أولئك الخارجين عن الحق ووقوفهم إلى جانب إخوانهم أهل الفرقة الناجية؛ فيكثر عددهم فيصح فيهم ما أخبر به الرسول ﷺ من قيام فرقة من المسلمين: «ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك» (١) وتَرْكُنا لدراسة الفرق يفوِّت علينا هذا الخير العظيم.
رابعًا: أضف إلى ذلك أن ترك الناس دون دعوة إلى التمسك بالدين الصحيح، ودون بيان أضرار الفرق المخالفة، فيه إبطال لما فرضه الشرع من القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الفرق التي ظهرت، ما من فرقة منها إلا وقد قامت مبادئها على كثير من المنكرات، وهي تدعي أنها هي المحقة وما عداها على الضلال، فألبسوا الحق بالباطل، وأظهروا مروقهم وخروجهم وفجورهم عن منهج الكتاب والسنة في أثواب براقة لترويج بدعهم، والدعوة لها.
_________
(١) رواه مسلم (١٩٢٠).
1 / 3
خامسًا: إن عدم دراسة الفرق والرد عليها وإبطال الأفكار المخالفة للحق، ففيه إفساح المجال للفرق المبتدعة أن تفعل ما تريد، وأن تدعو إلى كل ما تريد من بدع وخرافات دون أن تجد من يتصدى لها بالدراسة والنقد كما هو الواقع؛ فإن كثيرًا من طلاب العلم- فضلًا عن عوام المسلمين- يجهلون أفكار فرق يموج بها العالم، وهي تعمل ليلًا ونهارًا لنشر باطلهم، ولعل هذه الغفلة من المسلمين عن التوجه لكشف هذه الفرق المارقة لعله من تخطيط أولئك المارقين الذين نجحوا في حجب الأنظار عنهم وعن مخططاتهم الإجرامية. ولا أدل على ذلك من أنك تجد بعض الأفكار وبعض العبارات يرددها كثير من المسلمين دون أن يعرفوا أن مصدرها إما من المعتزلة (١)، أو من الصوفية (٢)، أو البهائية (٣)، أو القاديانية (٤)، أو الخوارج (٥)، أو الشيعة (٦)، إلى غير ذلك. ومن المعلوم أن ذلك إنما يعود إلى الجهل بأفكار هذه الطوائف (٧).
_________
(١) مثل تقديس المعتزلة للعقل، وجعله هو الحكم الفاصل في كل قضية، وتقديمه على النصوص.
(٢) مثل إطلاق لفظ العشق على الله أو الرسول ﷺ كقولهم: «عاشق النبي يصلي عليه».
(٣) مثل تقديس العدد ١٩.
(٤) مثل تأويل آيات القرآن بالهوى.
(٥) مثل تكفير المجتمعات الإسلامية.
(٦) مثل بغضهم الصحابة، ومثل انتظار محمد بن الحسن العسكري، ومثل المبالغة في حب الحسين ... إلخ.
(٧) انظر: كتاب مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم، تأليف محمد العبدة، وطارق عبد الحكيم ص٢٧، ٢٨ وكذا ص٣٦ - ٣٨.
1 / 4
المبحث الأول: تعريف الافتراق لغة واصطلاحا
الافتراق لغةً: خلاف الجماعة والاجتماع والجمع، قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:١٠٣]، أي: بعد الاجتماع، فالافتراق نقيض الاجتماع، ومنه قول الرسول ﷺ: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» (١) أي: عن مجلسهما فينفصل أحدهما عن الآخر، والافتراق: الانقسام، والفرق: الفلْق، والفلق من الشيء إذا انفلق منه، ومنه قوله تعالى: فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:٦٣]، والمفارقة: المباينة، وفارق الشيء مفارقةً وفراقًا: باينه، والاسم الفرقة، وتفارق القوم: فارق بعضهم بعضًا، والفرقة: الطائفة من الناس، والفريق أكثر منه، وفِرَقٌ: جمع فرقة، والفِراق: التفريق بين الشيئين والفصل بينهما، والتفرق والافتراق سواء، ومنهم من يجعل التفرق للأبدان، والافتراق في الكلام، يقال: فرّقتُ بين الكلامين فافترقا وفرّقت بين الرجلين فافترقا، والتفرق والتفرقة: التبديد والتمزيق، يقال: فرّقه تفريقًا وتفرقه أي بدده. وفي الجملة: أن الافتراق في اللغة يدور حول معاني: المفارقة، الانقطاع، التفرق، المفاصلة، الانفصال، الشذوذ، المباينة، الانقسام والتيه، والضياع، والضلال، المقاطعة، التشعب، الخروج عن الجادة وعن الأصل وعن الأكثر وعن الجماعة، التغيير (٢).
الافتراق في الاصطلاح:
يطلق على أمور منها: ١ - التفرق في الدين والاختلاف فيه ومن ذلك قوله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تفرقوا [آل عمران:١٠٣]، وقوله: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ [آل عمران:١٠٥]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام:١٥٩]، ومن ذلك قوله ﵊: «إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب» (٣).٢ - الافتراق عن جماعة المسلمين وهم عموم أمة الإسلام في عهد الرسول ﷺ والصحابة وهم أهل السنة ومن كان على هديهم بعد ظهور الافتراق فمن خالف سبيلهم في أمر يقتضي الخروج عن أصولهم في الاعتقاد أو الشذوذ عنهم في المناهج أو الخروج على أئمتهم أو استحلال السيف فيهم فهو مفارق، وفيه قوله ﵊: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاش من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس مني» (٤).
فذكر ﵊ أصنافًا من المعارضين الخارجين: ١ - المفارقون للجماعة (٥).
٢ - الخارجون عن الطاعة.
٣ - الخارجون عن الأمة بالسيف.
٤ - المقاتلون تحت راية عمية وهو الأمر الأعمى الذي لا يستبين وجهه، ومنه قتال العصبية، والفتنة، والقوميات، والشعارات، والحزبيات ونحوها.
فالخروج عن أهل السنة والجماعة ولو في أصل واحد من أصول الدين الاعتقادية أو العملية المتعلقة بالقطعيات، أو بمصالح الأمة العظمى أو بهما معًا فإنه يعتبر تفرقًا؛ فالضابط في الافتراق أنه يؤدي إلى الفتن، والتفرق، والقتال، والبغي، والبدع، وبذلك يتضح أن أهل الافتراق هم أهل الأهواء والبدع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: والبدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة كما يقال: أهل البدعة والفرقة. ثم قال: وإنما المقصود هنا التنبيه على وجه تلازمهما: موالاة المفترقين، وإن كان كلاهما فيه بدعة وفرقة (٦).
المصدر:تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة لعفاف بنت حسن بن محمد مختار – ١/ ٣٩
- الضابط في الافتراق:
يحكم بالمفارقة على كل من خرج عن سبيل أهل السنة والجماعة في أصل مما عدوه من أصول الدين، أو قاعدة من قواعده أو خالف في فروعٍ كثيرة وجزئيات متعددة مخرجة عن سمة أهل السنة وهديهم؛ كبدع الشعائر والعبادات إذ كثرت، وهذا ما وضحه شيخ الإسلام ﵀ من جعل العادة التي يتقرب بها إلى الله بدعة كاتخاذ لبس الصوف عبادةً وطريقًا إلى الله.
المصدر:تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة لعفاف بنت حسن بن محمد مختار – ١/ ٤٦
_________
(١) رواه البخاري (٢٠٧٩)، ومسلم (١٥٣٢). من حديث حكيم بن حزام ﵁.
(٢) «لسان العرب» لابن منظور، و«الصحاح» للجوهري. مادة (فرق).
(٣) رواه مسلم (٢٦٦٦). من حديث عبد الله بن عمرو ﵄.
(٤) رواه مسلم (١٨٤٨). من حديث أبي هريرة ﵁.
(٥) «الافتراق مفهومه، أسبابه» للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل (ص٦).
(٦) «الاستقامة» (١/ ٤٢).
1 / 5
المبحث الثاني: الفرق بين الافتراق والاختلاف
تعريف الاختلاف في اللغة:
تدور مادة خلف في اللغة حول أصول ثلاثة: ١ - أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه (١)؛ قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً [الفرقان:٦٢] فالليل يجيء بعد النهار ويقوم مقامه، والنهار يجيء بعد الليل ويقوم مقامه. وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ [الأنعام:١٦٥] أي: أمة تجيء بعد أمة وتقوم مقامها.٢ - عكس قدام (٢)؛ قال تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:٢٥٥]، ومنه التأخر لقصور المنزلة، كما في قوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الأعراف:١٦٩]. ٣ - التغير؛ ومنه قوله ﵊: «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (٣)، أي لتغير رائحة فم الصائم بسبب خلو المعدة عند الله أطيب من ريح المسك. والأصل الأول هو المقصود هنا، يقال: اختلف الناس في كذا أي: مختلفون لأن كل واحدٍ منهم ينحّي قول صاحبه ويقيم نفسه مقام الذي نحاه.
الاختلاف في الاصطلاح: أُطلقت (٤) كلمة الاختلاف في اصطلاح التدوين على العلم الذي يبحث في الاختلافات الشرعية الفقهية خاصة؛ واشتهر عندهم بعلم الخلاف وعُرِّف بأنه (٥): علم باحث عن وجوه الاستنباطات المختلفة من الأدلة الإجمالية أو التفصيلية الذاهب إلى كل منها طائفة من العلماء، ثم البحث عنها بحسب الإبرام والنقض. وعُرِّف أيضًا بأنه: علم يعرف من كيفية إيراد الحجج الشرعية ودفع الشبهة وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية (٦).ومن التعاريف: هو منازعة تجري بين المتعارضين لتحقيق جواز إبطال باطل (٧).وعرَّفه الراغب بقوله: الخلاف والاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الأول في فعله أو حاله (٨).
فالتعريف في الاصطلاح لم يخرج عن المعنى اللغوي ولكنه جاء خاصًا بالمقاصد الشرعية والفقهية على الخصوص فالاختلاف يكون في الفقه، والافتراق في العقيدة، ولذا يظهر إدراك الفرق بين الاختلاف والافتراق حيث يجب أن يُعنى به أهل العلم، حيث نجد بعض الدعاة وبعض شباب الصحوة الذين لم يكتمل فقههم في الدين لا يفرّقون بين مسائل الخلاف ومسائل الافتراق.
ومن هنا قد يرتب بعضهم على مسائل الاختلاف مسائل الافتراق وهذا خطأ فاحش أصله الجهل بأصول الافتراق، ومتى يكون؟ وكيف يكون؟ ومن الذي يحكم بمفارقة شخص أو جماعة ما؟ ولذا يجب ذكر بعض الفروق بين الاختلاف والافتراق ومنها (٩):
١ - إن الافتراق أشد أنواع الاختلاف بل هو من ثمار الخلاف إذ قد يصل الخلاف إلى حد الافتراق وقد لا يصل، فالافتراق اختلاف وزيادة لكن ليس كل اختلاف افتراق.
_________
(١) «معجم مقاييس اللغة» (٢/ ٢١٠ - ٢١١)، «التوقيف على مهمات التعاريف» (ص٣٢٢ - ٣٢٣).
(٢) انظر: «بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز» لمجد الدين الفيروزآبادي (٢/ ٥٦١ - ٥٦٢).
(٣) رواه البخاري (١٨٩٤)، ومسلم (١١٥١). من حديث أبي هريرة ﵁.
(٤) «مقدمة ابن خلدون» لابن خلدون (ص٤٢١ - ٤٢٢).
(٥) «أبجد العلوم» لصديق حسن خان (٢/ ٢٧٨).
(٦) «الكليات» (ص٧١٠ - ٧١١).
(٧) «التوقيف على مهمات التعاريف» (ص٣٢٢).
(٨) «المفردات في غريب القرآن» (ص١٥٥ - ١٥٧).
(٩) «الافتراق» للدكتور ناصر العقل (ص٨).
1 / 6
٢ - إن الافتراق غالبا يكون بعد العلم بالبينات كما قال تعالى إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: ١٩] وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران: ١٠٥].٣ - إن الافتراق يؤدي إلى الهلاك لصاحبه ومن يتبعه كما قال رسول الله ﷺ: «لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا، وفي رواية: فأَهلَكُوا» (١) - بفتح اللام وفي رواية بضم أوله وكسر اللام - وأما الاختلاف لا يوصل صاحبه إلى التهلكة لكونه لم يقصد الفرقة وإنما حصل ذلك لسوء فهم أو تأويل، أو جهل، قال تعالى: فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:٢١٣]، وقال: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ [النحل:٦٤].٤ - إن الاختلاف قد يكون عن اجتهاد وعن حسن نية وقد يؤجر المخطئ، بينما الافتراق لا يكون عن حسن نية، وصاحبه لا يؤجر بل هو مذموم وآثم على كل حال. لقول الرسول ﵊: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد» (٢).٥ - إن من الاختلاف ما لا يصل إلى حد الافتراق ولا التنازع في الدين، يقول الشاطبي: ووجدنا أصحاب رسول الله ﷺ من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين، ولم يتفرقوا ولا صاروا شيعًا لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فيما أذن هم من اجتهاد في الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصًا (٣).أما الافتراق فيؤدي إلى التنازع والقتال والتكفير ومن ثم دخول النار، كما قال رسول الله ﷺ: «وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» (٤).
_________
(١) رواه البخاري (٢٤١٠). من حديث عبد الله بن مسعود ﵁. والرواية الأخرى رواها البخاري (٥٠٦٢) بلفظ: (أهلكهم) وليس (أهلكوا).
(٢) رواه البخاري (٧٣٥٢)، ومسلم (١٧١٦). من حديث عمرو بن العاص ﵁.
(٣) «الاعتصام» للشاطبي (٢/ ٢٣١ - ٢٣٢).
(٤) رواه ابن ماجه (٣٩٩٣)، وأحمد (٣/ ١٢٠) (١٢٢٢٩)، وأبو يعلى (٧/ ٣٢)، كلهم بلفظ: (ثنتين وسبعين فرقة)، والطبراني في «الأوسط» (٨/ ٢٢) واللفظ له. من حديث أنس بن مالك ﵁. قال العراقي في «الباعث على الخلاص» (١٦): إسناده صحيح، وقال ابن كثير في «نهاية البداية والنهاية» (١/ ٢٧): إسناده جيد قوي على شرط الصحيح. وقال السخاوي في «الأجوبة المرضية» (٢/ ٥٦٩): رجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه». والحديث روى شطره الأول أبو داود (٤٥٩٦)، والترمذي (٢٦٤٠) وابن ماجه (٣٩٩١)، وأحمد (٢/ ٣٣٢) (٨٣٧٧). من حديث أبي هريرة ﵁، بلفظ: «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. وقال الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه»: حسن صحيح. والحديث روي أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵁ بلفظ: «وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي (٢٦٤١) وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه .. وقال البغوي في «شرح السنة» (١/ ١٨٥): ثابت. وحسنه الألباني في «صحيح سنن الترمذي». ومعاوية بن أبي سفيان ﵁ بلفظ: «وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة». رواه أبو داود (٤٥٩٧)، وأحمد (٤/ ١٠٢) (١٦٩٧٩)، والطبراني (١٩/ ٣٧٦)، والحاكم (١/ ٢١٨). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام به الحجة في تصحيح هذا الحديث. وصححه أحمد شاكر في «عمدة التفسير» (١/ ٤٠٠) – كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال شعيب الأرناؤوط محقق «المسند»: إسناده حسن وحديث افتراق الأمة منه صحيح بشواهده. وحسنه الألباني في «صحيح سنن أبي داود». وعوف بن مالك ﵁ بلفظ: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسبعون في النار». رواه ابن ماجه (٣٩٩٢)، وابن أبي عاصم في «السنة» (٦٣). قال ابن كثير في «نهاية البداية والنهاية» (١/ ٢٧): إسناده لا بأس به. وقال الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه»: صحيح.
1 / 7
٦ - إن كل افتراق اختلاف، وليس كل اختلاف افتراق، فكثير من المسائل التي يتنازع فيها المسلمون هي من المسائل الخلافية، ولا يجوز الحكم على المخالف فيها بالكفر ولا المفارقة ولا الخروج من السنة.
٧ - الافتراق مذموم كله والاختلاف ليس كله مذمومًا.
٨ - الاختلاف يعذر صاحبه إذا كان مجتهدًا والافتراق لا يعذر صاحبه، لأنه لا يكون إلا عن اتباع هوى أو ابتداع أو تقليدٍ مذمومٍ.
٩ - الافتراق إنما يكون في الأصول الاعتقادية والقطعيات التي لا يسع الخلاف فيها والتي تثبت بنص قاطع، أو بإجماع، أما الاختلاف يكون فيما دون الأصول مما يقبل التعدد والرأي.
١٠ - إن الافتراق يتعلق به الوعيد وكله شذوذ، أما الاختلاف فليس كذلك.
١١ - الافتراق يكون دائمًا عن هوى أو بدعة أما الاختلاف فلا يلزم منه ذلك. ١٢ - الاختلاف قد يكون رحمةً وأهله ناجون إن شاء الله تعالى، والفرقة عذاب وأهلها متوعدون، يقول شيخ الإسلام ﵀: والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شرٍ عظيم من خفاء الحكم (١).
١٣ - إن مسائل الاختلاف قد تكون من الأمور المأذون فيها بالاجتهاد، أما مسائل الافتراق فهي في الأمور التي حذر الشارع من الاقتراب منها.
١٤ - إن أهل الافتراق غالبًا يعتمدون على المتشابه من الأدلة كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [آل عمران:٧]، أما أهل الاختلاف فعادةً يكون بسبب عدم فهم الدليل أو غير ذلك. ١٥ - إن أهل السنة لا يذمون من اختلف وقصده الاجتهاد وكان معروفًا بالذكر الجميل والثناء الحسن مع العمل الصالح ونصرة السنة والذب عنها أما المفترق الذي قضى عمره في الصد عن سبيل الله ومحاربة السنة ونشر البدعة فيذمونه ويبدعونه (٢).
المصدر:تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة لعفاف بنت حسن بن محمد مختار – ١/ ٤١
_________
(١) «مجموع الفتاوى» (١٤/ ١٥٩).
(٢) «شرح العقيدة الطحاوية» (ص٣٢٢ - ٣٢٣).
1 / 8
المبحث الأول: النصوص التي جمعت بين الأمر بالجماعة والنهي عن الفرقة في موضع واحد لقد وردت نصوص عدة تأمر بالجماعة وتثني بالنهي عن الفرقة في موضع واحد مع أن الأمر بالجماعة يستلزم النهي عن الفرقة، والنهي عن الفرقة يستلزم الأمر بالجماعة ولو لم يذكر ذلك فكل من أمر بشيء فقد نهى عن فعل ضده، ومن نهى عن فعل فقد أمر بفعل ضده (١) مما يؤكد وجوب الأمر بالجماعة وترك الفرقة والنهي عنها، ومن هذه النصوص قول الله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: ١٠٣] ففي هذه الآية أمرنا الله ﷿ بالجماعة ونهانا عن التفرقة (٢) يقول الإمام محمد بن جرير الطبري في تأويل قوله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وتعلقوا بأسباب الله جميعا يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله. (٣) ويقول الإمام القرطبي ﵀ في معنى الآية: فإن الله يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة (٤). وقال ابن عباس ﵄ لسماك الحنفي: يا حنفي الجماعة الجماعة!! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله ﷿ يقول: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:١٠٣] (٥).وهذا الأمر بالجماعة عام للأمة في كل زمان وكل مكان هذا حالهم أن يكونوا مجتمعين بحبل الله، فالله ﷾ أمرهم بأن يعتصموا بحبل الله جميعا، وجميعا: منصوب على الحال أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام بحبل الله (٦).وفي هذه الآية وبعد أن أمرهم سبحانه بالجماعة والتمسك بها إذ به منعتهم وأمنهم، نهاهم عن الفرقة فقال ولا تفرقوا أي: لا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله ﷺ والانتهاء إلى أمره (٧).يقول عبدالله بن مسعود ﵁: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تستحبون في الفرقة (٨).
_________
(١) ([٣٢]) انظر «الفتاوى» لابن تيمية (١١/ ٣٦٨) و(١٠/ ٣٠٠) «روضة الناظر وجنة المناظر» لموفق الدين عبدالله بن قدامة المقدسي (٢٥ـ ٢٦).
(٢) ([٣٣]) انظر «تفسير ابن كثير» (١/ ٣٦٧) ٠ «فتح القدير» للشوكاني (١/ ٣٦٧).
(٣) ([٣٤]) «تفسير الطبري» (٤/ ٢١) وذكر المفسرون في المراد بحبل الله ستة أقول: فقيل إن المراد بالحبل: كتاب الله: القرآن، الثاني: إنه الجماعة، الثالث: إنه دين الله وهو الإسلام، الرابع: عهد الله، الخامس: إنه الإخلاص، والسادس: إنه أمر الله وطاعته. وهذا اختلاف في المراد بالحبل في الآية هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد إذ المعنى كله متقارب متداخل. انظر «زاد المسير في علم التفسير» لابن الجوزي (١/ ٤٣٣) وانظر «تفسير القرطبي (٤/ ١٠٢.
(٤) ([٣٥]) انظر «تفسير القرطبي» (٤/ ١٠٢).
(٥) ([٣٦]) انظر «تفسير القرطبي» (٤/ ١٠٥).
(٦) ([٣٧]) انظر «زاد المسير» لابن الجوزي (١/ ٤٣٣).
(٧) ([٣٨]) «تفسير القرطبي» (٤/ ٢١)
(٨) ([٣٩]) «تفسير الطبري» (٤/ ٢٢)، «الشريعة» للآجري (١/ ٢٩٩).
1 / 9
ومعنى نهيه تعالى عن الفرقة في قوله: ولا تفرقوا: أي لا تفرقوا في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة (١).ويجب أن يعلم المؤمن أن الاجتماع على الحق والبعد عن الفرقة مما أمرنا الله به ورضيه لنا ففي الحديث قال رسول الله ﷺ: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال» (٢).فالله سبحانه حثنا على الاجتماع وأمرنا بلزوم جماعة المسلمين وتألف بعضهم ببعض وهذه إحدى قواعد الإسلام (٣).
ولكن لا يكون الاجتماع لمجرد الاجتماع، فالأمر بالاجتماع ليس اجتماع على أي شيء أو اجتماع على لا شيء، بل اجتماع على الدين اجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله الاجتماع على طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ والعمل بنصوص الشريعة كلها.
وفي هذا رد على كل مدعٍ مطالب باجتماع الأمة لمجرد الاجتماع والسكوت عن باطل المخالف من أهل الأهواء وترك الإنكار عليه في بدعته حتى لا يتعكر صفو هذا الاجتماع أو التقارب المزعوم ورحم الله الإمام القرطبي إذ يبين الأساس الذي ينبغي أن يكون عليه الاجتماع وبه تتحقق وحدة الصف فيقول: فأوجب الله تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين والسلامة من الاختلاف. ويسبق الإمام محمد بن إدريس الشافعي ﵀ القرطبي في هذا المعنى ويبين أن اجتماع الأبدان ليس بمعتبر ولا مقصود بل المقصود والمعتبر الاجتماع على طاعة الله ورسوله الاجتماع على الحق فيقول بعد أن بين أن الأمر بلزوم جماعة المسلمين ليس له إلا معنى واحد ذلك أنه: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها (٤).
_________
(١) ([٤٠]) انظر «تفسير القرطبي» (٤/ ١٠٣).
(٢) ([٤١]) رواه مسلم (١٧١٥). من حديث أبي هريرة ﵁.
(٣) ([٤٢]) انظر «صحيح مسلم بشرح النووي» (١٢/ ١١) بتصرف.
(٤) ([٤٣]) «تفسير القرطبي» (٤/ ١٠٥).
1 / 10
ومما ورد في الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة في موضع واحد قوله تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:١٥٣] يقول عبدالله بن عباس ﵄ في قوله: فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:١٥٣] وقوله: أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: ١٣] ونحو هذا في القرآن قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله (١) يقول الإمام الطبري ﵀ في تفسير هذه الآية: وهذا الذي وصاكم به ربكم أيها الناس ... وأمركم بالوفاء به هو صراطه يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده مستقيما قويما لا اعوجاج به عن الحق فاعملوا به واجعلوه لأنفسكم منهاجا تسلكونه ولا تسلكوا طريقا سواه ولا تركبوا منهجا غيره ولا تتبعوا دينا خلافه من اليهودية والنصرانية والمجوسية وغير ذلك من الملل فإنها بدع وضلالات (٢)
نعم إن الجماعة والائتلاف لا تتحقق إلا بوحدة المعتقد ووحدة المنهج والسلوك عندها يتحقق للأمة الاجتماع على الحق والسير على الصراط المستقيم الذي وصاهم ربهم به
_________
(١) ([٤٤]) انظر «الرسالة» له تحقيق أحمد شاكر (٤٧٥) باختصار وتصرف.
(٢) ([٤٥]) «تفسير القرطبي» (٨/ ٦٤).
1 / 11
والفرقة تقع في الأمة حينما تتعدد المناهج وتتعدد الطرق لذلك بين الله ﷿ لهم أن طريق الحق واحد وأن السبيل إلى الاجتماع واحد وهو السير على الصراط المستقيم أما إن أبو ذلك فإن السبل ستتخطفهم ويتشعبوا في الضلالات والبدع وواقع الأمة الآن شاهد على ذلك. يقول الإمام إسماعيل بن كثير ﵀: قوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ [الأنعام:١٥٣] قال: إنما وحد سبيله لأن الحق واحد ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها (١) وهذه السبل بين معناها عبدالله بن عباس ترجمان القرآن ﵁ فقال: لا تتبعوا الضلالات (٢) وفي الحديث عن عبدالله بن مسعود قال: «خط لنا رسول الله ﷺ يوما خطًا، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها"ثم قرأ هذه الآية» (٣) ويفسر عبدالله بن مسعود ﵁ هذا الحديث وذلك أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال تركنا محمد ﷺ في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد وعن يساره جواد وثمّ رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة ثم قرأ ابن مسعود: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:١٥٣] (٤).وفي حديث النواس بن سمعان الأنصاري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران بينهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تتفرقوا، وداع يدعو فوق الصراط، فإذا أراد إنسان فتح شيء من تلك الأبواب قال له: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام، والستور: حدود الله، والأبواب: محارم الله، والداعي على رأس الصراط: كتاب الله تعالى والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم» (٥)
فانظر رعاك الله أيها المسلم كيف أمرنا الله ﷿ بسلوك هذا الصراط المستقيم والدخول فيه والاجتماع عليه إذ لا يحيد عنه إلا مفارق لهؤلاء المجتمعين عليه من المسلمين فقال: يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا.
نعم جميعا ولا شيء يجمع المسلمين بحق غير الإسلام الانقياد للإسلام والعمل بشرائعه كلها وتطبيق أحكامه على مناحي الحياة وعلى الأفراد سواسية ...
فدين الإسلام لا يقبل التجزئة وما حلت النكبات بالأمة وابتلوا وعذبوا بالفرقة إلا لما شابهوا أهل الكتاب في الإيمان ببعض الكتاب وترك البعض.
المصدر:موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص١٢١ - ١٢٧
_________
(١) ([٤٦]) «تفسير ابن كثير» (٢/ ١٨٢).
(٢) ([٤٧]) «تفسير القرطبي» (٨/ ٦٥).
(٣) ([٤٨]) رواه أحمد (١/ ٤٣٥) (٤١٤٢)، والدارمي (١/ ٧٨)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٦/ ٣٤٣)، والحاكم (٢/ ٣٤٨). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وحسنه ابن حجر في «هداية الرواة» (١/ ١٣١) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال أحمد شاكر في «المسند» (٦/ ٨٩): إسناده صحيح. وقال الألباني في «شرح العقيدة الطحاوية» (٥٢٥): صحيح.
(٤) ([٤٩]) «تفسير الطبري» (٨/ ٦٥).
(٥) ([٥٠]) رواه أحمد (٤/ ١٨٢) (١٧٦٧١)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ١٤٤). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولا أعرف له علة ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في «تفسيره» (١/ ٤٣): إسناده حسن صحيح. وقال الألباني في «صحيح الجامع» (٣٨٨٧): صحيح.
1 / 12
المبحث الثاني: الأمر بلزوم الجماعة والتحذير من الفرقة
تقدم في العنصر الأول أن النصوص سلكت مسلك الجمع بين ذكر الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة في موضع واحد لتغليظ الأمر في ذلك.
وكذلك سلكت النصوص مسلكا آخر حينما أمرت بالجماعة في نصوص ونهت عن الفرقة في نصوص أخرى، وقد سبق أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده والنهي عن شيء يستلزم الأمر بضده. ومن النصوص التي تحث على الجماعة وترغب بلزومها وتبين أجر من لزم ولم يفارق، وتؤكد أن العصمة في وقت الفتن والمحن هو في التمسك بجماعة المسلمين فهي المخرج والمنجي بإذن الله منها قوله ﷺ: «من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد» (١) فانظر عظم الأجر على لزوم الجماعة بل إن الخير كل الخير فيها كما قال رسول الله ﷺ: «يد الله مع الجماعة ...» (٢)
فيد الله مع الجماعة ويد الله على الجماعة ينصرهم ويؤيدهم ويسددهم وهو معهم معية خاصة: معية النصر والتأييد متى ما كانوا مجتمعين على الحق مجتمعين على طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ. ومما يبين فضل لزوم الجماعة ما رواه أنس بن مالك ﵁ عن رسول الله ﷺ قال: «نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه فحملها فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل الفقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله ﷿، ومناصحة أولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من روائهم» (٣)
ومعنى لا يغل: (بضم الياء وكسر الغين) هو من الأغلال: الخيانة في كل شيء.
ويروى يُغل بفتح الياء من الغِل وهو الحقد والشحناء: أي لا يدخله حقد يزيله عن الحق. وروى يُغل بالتخفيف: من الوغول: الدخول في الشر والمعنى: أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر ... (٤)
_________
(١) ([٥١]) رواه الترمذي (٢١٦٥)، وأحمد (١/ ١٨) (١١٤)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٥/ ٣٨٨)، والحاكم (١/ ١٩٧). من حديث عمر بن الخطاب ﵁. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وقال ابن حزم في «أصول الأحكام» (١/ ٥٩٣): لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحيح ولكنا نتكلم فيه على علاته. وقال ابن العربي في «عارضة الأحوذي» (٥/ ٢٦): حسن صحيح. وقال ابن كثير في «إرشاد الفقيه» (٢/ ٤٠١): له طرق أخر وهو حديث مشهور جدا. وقال الألباني في «صحيح سنن الترمذي»: صحيح.
(٢) ([٥٢]) رواه الترمذي (٢١٦٦). من حديث ابن عباس ﵄. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه. وقال ابن العربي في «عارضة الأحوذي» (٥/ ٢٨): وإن لم يكن لفظه صحيحا فإن معناه صحيح. وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي».
(٣) ([٥٣]) رواه ابن ماجه (٢٣٦)، وأحمد (٣/ ٢٢٥) (١٣٣٧٤). قال الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه»: صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق «المسند»: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن. والحديث روي عن جماعة من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وجبير بن مطعم والنعمان بن بشير ﵃ وغيرهم عدة.
(٤) ([٥٤]) انظر «النهاية في غريب الحديث والأثر» لابن الأثير (٣/ ٣٤١).
1 / 13
ولقد جعل رسول الله ﷺ هذه الأمور الثلاثة متوالية فلا بد من إخلاص العمل لله ﷿ يبتغي وجه ربه تعالى وهذا يدفعه لأن يلتزم أمر الله ﷿ وأمر رسوله ﷺ فيناصح ولاة الأمر. ففي الحديث عن رسول الله ﷺ قال: «الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (١) فجعل قاعدة الدين وما يمثله "النصيحة" والنصيحة وتشجيعهم على الحق إن سلكوه وطاعتهم على ذلك وهذا في حق القادرين عليه. وكذلك تكون النصيحة لهم بلزوم جماعتهم وهذا في حق كل أحد (٢) ولا تعني مناصحة ولاة الأمر الخروج عليهم بالسيف وقتالهم، فهذا منهي عنه لما يؤدي إليه من الفرقة والفتنة ففي الحديث عن رسول الله ﷺ قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم (٣) وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة» (٤) ولذلك عقب في حديث: «ثلاث لا يغل عليهن ...» (٥) عقب بعد المناصحة لولاة الأمر بالأمر الثالث وهو لزوم جماعتهم. ولقد أمر الله ﷿ نبيه وأمته تبع له بلزوم الجماعة ففي الحديث عن رسول الله ﷺ: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات ...» ثم قال رسول الله ﷺ: «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع» (٦)
_________
(١) ([٥٥]) رواه مسلم (٥٥). من حديث تميم الداري ﵁. والحديث روي عن عدد من الصحابة منهم: أبو هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس ﵃.
(٢) ([٥٦]) انظر «الفتاوى» (١/ ١٩)، «فتح الباري» (١/ ١٣٨)، «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي (١/ ٢٢٢).
(٣) ([٥٧]) معنى يصلون: أي يدعون: انظر «صحيح مسلم بشرح النووي» (١٢/ ٢٤٥).
(٤) ([٥٨]) رواه مسلم (١٨٥٥). من حديث عوف بن مالك ﵁.
(٥) ([٥٩]) رواه ابن ماجه (٢٣٦)، وأحمد (٣/ ٢٢٥) (١٣٣٧٤). قال الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه»: صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق «المسند»: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن. والحديث روي عن جماعة من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وجبير بن مطعم والنعمان بن بشير ﵃ وغيرهم عدة.
(٦) ([٦٠]) رواه الترمذي (٢٨٦٣)، وأحمد (٤/ ١٣٠) (١٧٢٠٩)، والحاكم (١/ ٥٨٢). من حديث الحارث الأشعري ﵁. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال محمد بن إسماعيل – البخاري - الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وحسنه ابن كثير في «تفسير القرآن» (١/ ٨٧)، وابن حجر في «هداية الرواة» (٣/ ٤٦٤) – كما أشار لذلك في مقدمته-. وقال الألباني في «صحيح سنن الترمذي»: صحيح.
1 / 14
فبهذه الكلمات الخمس التي أمرنا بها يلتئم شمل الجماعة ويستصلح المجتمع ويؤكد الحبيب المصطفى ﵇ أن النجاة والعصمة من وقوع الفتن يكون بلزوم الجماعة أما إذا انعدمت الجماعة إمامها في وقت الفتنة فلا خير في الفرق والسبل المتشعبة فتعتزل كلها ولا يلتزم بشيء منها لأن الجماعة غير موجودة. فعن حذيفة بن اليمان ﵁ قال: «كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن (١) قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت: يا رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قال فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (٢) ولقد بوب النووي ﵀ لهذا الحديث وغيره " باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة" (٣) ويقول ابن بطال ﵀ عن هذا الحديث: " فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور (٤).فتبين لك أيها المسلم أهمية لزوم الجماعة ومدى الحاجة إليها فهي من قواعد الدين، والخطر والشر في الفرقة لذا جاء النهي عن الفرقة والتحذير منها في أكثر من موضع: فعن عبدالله بن مسعود ﵁ قال: «سمعت رجلا قرأ آية وسمعت النبي ﷺ يقرأ خلافها فجئت به النبي ﷺ فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية وقال: كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» (٥) يقول الإمام أحمد بن حجر العسقلاني ﵀: " وفي هذا الحديث الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف" (٦)
ولقد كره رسول الله ﷺ اختلافهم لأن كلا القراءتين صحيحة حيث قال: «كلاكما محسن» فهو مصيب إذ قرأ ما أقرأه رسول الله ونهاهما عن ذلك فقال:
_________
(١) ([٦١]) المراد بالدخن: الدخان ويشير إلى كدر الحال وقيل الدخن كل أمر مكروه وفي معنى الدخن قيل هو الحقد وقيل الدغل ويشير إلى أن الخير الذي يجيء بعد الشر لا يكون خيرا خالصا بل فيه كدر. انظر «فتح الباري» (١/ ٣٦).
(٢) ([٦٢]) رواه البخاري (٣٦٠٦)، ومسلم (١٨٤٧).
(٣) ([٦٣]) انظر «صحيح مسلم بشرح النووي» (١٢/ ٢٣٧).
(٤) ([٦٤]) انظر «فتح الباري» لابن حجر (١٣/ ٣٧).
(٥) ([٦٥]) رواه البخاري (٣٤٧٦).
(٦) ([٦٦]) انظر «فتح الباري» (١٣/ ١٠٢).
1 / 15
«ولا تختلفوا» وعلل سبب النهي بقوله: «فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» فلما كان الاختلاف يؤدي إلى الفرقة المؤدية إلى الهلكة كرهه ﵊ ونهى عنه. بل ونهى عن كل سبب يؤدي إليه: ففي الحديث عن رسول الله ﷺ قال: «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه» (١).وقوله: «ما ائتلفت عليه قلوبكم» أي: اجتمعت، فاقرؤوه وأنتم مجتمعون عليه معانيه عندما تخشى عليكم الفرقة ووقوع النزاع بينكم فالواجب القيام عنه لذلك قال" فقوموا عنه" أي تفرقوا لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر (٢).ولقد كان ﷺ يغضب ويشتد غضبه عند اختلاف أصحابه في أمر من أمور الدين خشية ما يؤدي إليه من فرقة وهلكة ففي الحديث عن عبدالله بن عمرو قال: «هجرت إلى رسول الله ﷺ يوما فسمع أصوات رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا في آيَةٍ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعْرَفُ في وَجْهِهِ الْغَضَبُ فقال: إنما أهلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب» (٣).ولقد كان الصحابة الكرام ﵃ من أشد الناس تحذيرا من الفرقة ونهيا عنها وبيانا لأضرارها يقول عمر بن الخطاب ﵁ ناصحا ومرشدا لرعيته: إياكم والفرقة بعدي (٤).ويقول معاوية بن أبي سفيان ﵄ في إحدى خطبه محذرا من الفتنة التي تؤدي للفرقة يقول: إياكم والفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة وتورث الاستيصال (٥).ولقد نصح النعمان بن بشير ﵁ أهل المدينة حينما خلعوا بيعة يزيد بن معاوية في نهاية عام ٦٢هـ وحذرهم من عواقب الفرقة ومضارها وما ينتج عنها من سفك للدماء ودمار للديار فقال لهم ﵁: إن الفتنة يا نعمان على تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح الله من أمرنا؟ فقال له النعمان أما والله لكأني وقد تركت تلك الأمور التي تدعو إليها وقامت الرجال على الركب التي تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف ودارت رحى الموت بين الفريقين وكأني بك قد ضربت جنب بغلتك إلي وخلفت هؤلاء المساكين - يعني الأنصارـ يقتلون في سككهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم فعصاه الناس فلم يسمعوا منه فانصرف وكان الأمر والله كما قال سواء (٦)
المصدر:موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص١٢٧ - ١٣٣
_________
(١) ([٦٧]) رواه البخاري (٥٠٦١)، ومسلم (٢٦٦٧).
(٢) ([٦٨]) انظر «فتح الباري» (١٣/ ١٠١) بتصرف.
(٣) ([٦٩]) رواه مسلم (٢٦٦٦).
(٤) ([٧٠]) انظر «البداية والنهاية» لابن كثير (٨/ ١٢٧).
(٥) ([٧١]) انظر «البداية والنهاية» (٨/ ١٣٢).
(٦) ([٧٢]) انظر «البداية والنهاية» (٨/ ٢١٦) وقد حدث ما حذر منه النعمان ﵁ في وقعة الحرة في أول عام ٦٣هـ إذ أرسل يزيد بن معاوية لأهل المدينة مسلم بن عقبة المزني فقتل من قتل من أهل المدينة. انظر «البداية والنهاية» (٨/ ٢١٧ - ٢١٨).
1 / 16
المبحث الثالث: بيان حال أهل الفرقة والاختلاف
إن الحق أبلج، والباطل لجلج، فالحق هو الحق في كل زمان وكل مكان لا يختلف ولا يتغير ولا يتعدد بل هو واحد وما ذاك إلا لوحدة المصدر الذي يستقى منه، إنه من لدن حكيم خبير. لذلك نجد النصوص حين تذكر الصراط تذكره بصيغة الإفراد لأنه واحد كما قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:١٥٣] (١).
وبلزوم هذا الصراط تتحقق الجماعة ويلتئم شمل الأمة وبمخالفة هذا الصراط والبعد عنه تحدث الفرقة ويجانب المرء الحق والصواب ويرتكب الباطل، هذا الباطل المتعدد المتلون والذي حذرنا الله تعالى منه. قال ابن كثير ﵀ في هذه الآية "إنما وحد سبيله لأن الحق واحد ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها (٢).
نعم إنها السبل الضلالات المحدثات إنها متعددة متفرقة وهذا حال أهل الفرقة: من حاد عن الصراط المستقيم فهم في فرقة واختلاف وتنازع وشقاق كل واحد منهم يأخذ شقا وجانبا غير جانب وشق الآخر.
ولقد وصفهم الله ﷿ بقوله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: ١٧٦].
وقال سبحانه: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: ١٣٧]
وقال ﷿ عن الكافرين: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج: ٥٣].ففي الآيات السابقة يصف الله تعالى حال المخالفين للحق المفارقين له وأنهم في شقاق: شقاق مع الحق وشقاق مع القائمين به والداعين إليه والشقاق في هذه الآيات يأتي بمعان ثلاث (٣):١ـ الشقاق بمعنى الخلاف والمعاداة والمنازعة وأصله من الشق وهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه (٤) وهذا حال المجانبين للحق المفارقين له من أهل الكفر من الأديان والملل ومن أهل البدع أصحاب الفرقة فهم في شقاق في خلاف ومعاداة ومنازعة للحق وقد وصفهم الله تعالى بقوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص: ٢]. أي: الخلاف والعداوة لرسول الله ﷺ ووصف أهل الكتاب من اليهود والنصارى بقوله: فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة: ١٣٧] أي إنهم إنما هم في عصيان وفراق وحرب لله ولرسوله (٥).
ووصف أهل البدع أصحاب القلوب المريضة بأنهم واقعون في الشقاق فقال سبحانه: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج: ٥٣]. فيجعل الله ﷿ ما يلقيه الشيطان فتنة وضلالة (٦)
لطائفتين من الناس هما:
أـ الذين في قلوبهم مرض: الشك والنفاق. ب - والقاسية قلوبهم: وهم المشركون فإن قلوبهم لا تلين للحق أبدا ولا ترجع إلى الصواب بحال (٧).
_________
(١) ([٧٣]) «تفسير الطبري» (٨/ ٦٥).
(٢) ([٧٤]) «تفسير ابن كثير» (٢/ ١٨٢).
(٣) ([٧٥]) انظر «غرائب القرآن ورغائب الفرقان» لنظام الدين الحسن النيسابوري (١/ ٤٤١) بهامش «تفسير الطبري».
(٤) ([٧٦]) انظر «تفسير القرطبي» (٢/ ٩٧) «فتح القدير» للشوكاني (١/ ١٤٧).
(٥) ([٧٧]) انظر «تفسير الطبري» (١/ ٤٤٤).
(٦) ([٧٨]) انظر «فتح القدير» (٣/ ٤٦٢).
(٧) ([٧٩]) انظر «فتح القدير» للشوكاني (٣/ ٤٦٢) «تفسير ابن كثير» (٣/ ٢٢٤) «زاد المسير» (٥/ ٤٤٣)
1 / 17
ثم سجل على هاتين الطائفتين بأنهم ظالمون فقال: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج: ٥٣]. أي: عداوة شديدة (١)
فأهل الفرقة في شقاق وعداء للحق وكذلك هم في شقاق فيما بينهم قد تعددت أقوالهم وتناقضت آراؤهم واختلفوا فيما بينهم وهذا دليل على بطلان دعاويهم لأنهم إنما يتبعون السبل. لذلك وصف أهل الكتاب بقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: ١٧٦] ٢ـ المعنى الثاني للشقاق بأنه يأتي بمعنى الشق وهو الصدع (٢) أو الفصل في الشيء (٣) ويطلق على أهل الفرقة وذلك لأنهم فارقوا الجماعة وشقوا عصا الطاعة (٤)
فهم في شقاق بهذا الاعتبار.
٣ـ والمعنى الثالث للشقاق أن يطلق ويراد به المشقة وهي فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه.
وهذا دأب أصحاب الفرقة كما وصفهم سبحانه: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ [الحشر:١٤]
ولقد وصفهم الله ﷿ بوقوع العداوة والبغضاء فيما بينهم لمخالفتهم بعض ما جاء من الحق قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: ١٤]
ولقد ذكر الله ﷿ ذلك كله تنفيرا من الفرقة وحثا للأمة على الجماعة، لهذا جاء الوعيد الشديد للمفارق للجماعة الخارج عنها يقول ﷾: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: ١١٥]
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام: ١٥٩] ولقد وردت النصوص النبوية تتوعد الخارج عن الجماعة المفارق لها بأشد وعيد (٥) وقد أورد الإمام مسلم عدة أحاديث في (صحيحه) حول هذا الموضوع بوب لها الإمام النووي تحت قوله: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة (٦) وأورد تحتها عدة أحاديث منها: قوله ﷺ: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية» (٧). وقال أيضا ﵇: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية» (٨) وقال: «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» (٩) ويقول حذيفة بن اليمان ﵁: " والله ما فارق رجل الجماعة شبرا إلا فارق الإسلام " (١٠)
فهذا مما توعد الله به أهل الفرقة وما ذاك إلا لسوء فعلهم وفي هذا نهي عن الفرقة وردع عن سلوك سبلها أو السير خلف دعاتها ويتعين حينها لزوم الجماعة والتمسك بها هدانا الله للحق وبصرنا به.
المصدر:موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص١٣٤ - ١٣٨
_________
(١) ([٨٠]) انظر «فتح القدير» (٣/ ٤٦٢).
(٢) ([٨١]) انظر «القاموس المحيط» (١١٥٩).
(٣) ([٨٢]) انظر «النهاية في غريب الحديث والأثر» (٢/ ٤٣٩).
(٤) ([٨٣]) انظر «تفسير غرائب القرآن» للنيسابوري (١/ ٤٤١) بهامش «تفسير الطبري» «زاد المسير» (١/ ١٥١).
(٥) ([٨٤]) «شرح صحيح مسلم» (٢/ ٢٣٦).
(٦) ([٨٥]) «صحيح مسلم» كتاب الفتن باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين (١٢/ ٢٣٨ نووي).
(٧) ([٨٦]) رواه مسلم (١٨٤٨). من حديث أبي هريرة ﵁.
(٨) ([٨٧]) رواه البخاري (٧٠٥٤) ومسلم (١٨٤٩). من حديث ابن عباس ﵄.
(٩) ([٨٨]) رواه مسلم (١٨٥١). من حديث عبد الله بن عمر ﵄.
(١٠) ([٨٩]) انظر «حلية الأولياء» لأبي نعيم (١/ ٢٨٠).
1 / 18
المبحث الرابع: التأكيد على أسباب الاجتماع وبيان طرق تأليف قلوب المسلمين لقد سلكت النصوص الواردة في النهي عن الفرقة هذا المسلك للتأكيد على النهي عن الفرقة والأمر بلزوم الجماعة إذ الأمر بالجماعة والنهي عن الفرقة أصل من أصول الإسلام العظيمة وقاعدة من قواعد الدين يقول شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: " وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ومما عظمت به وصية النبي ﷺ في مواطن عامة وخاصة. (١) ويقول أيضا: وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين (٢)
والناظر في أركان الإسلام الخمسة يجد أن هذا الأصل قد تجلى بوضوح في هذه الأركان .... فالركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ﷺ، فعقيدة التوحيد هي أعظم ما يجمع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إذ هذه الكلمة ينطقها كل مسلم عربي أو غير عربي.
وبوحدة المعتقد تتحقق وحدة الجماعة ومتى ما كان المعتقد خالصا صافيا صائبا كانت الجماعة مجتمعة ملتئمة أما إن دب الخلاف في العقيدة تلاه اختلاف في الجماعة وتفرق. ثم إن وحدة المعتقد ووحدة الجماعة مما رضيه الله لنا ففي الحديث عن رسول ﷺ قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» (٣). فقرن هنا بين وحدة المعتقد على توحيد الله ووحدة الجماعة على الاعتصام بحبل الله.
أما الركن الثاني وهو الصلوات الخمس المفروضة فهي أنموذج أمثل للوحدة بين المسلمين في اتحادهم في عددها وأركانها وشروطها وكيفيتها مما يجمع المسلمين ومما يجتمعون عليه. بالصلاة يعرف المسلم من الكافر إذ هي عمود الدين ففي الحديث عن رسول الله ﷺ قال: «العهد الذي بيننا بينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» (٤) ثم إن في أداء الصلاة جماعة في المسجد مثال واضح لكيفية تأليف القلوب واتحاد الجماعة باتحاد الأبدان في أداء فعل واحد في مكان واحد خلف إمام واحد، لذلك جاء الأمر بتسوية صفوف الصلاة وإتمامها الأول فالأول، والإشارة إلى أن اختلاف الصف في الصلاة سبب لاختلاف القلوب وتنافر النفوس يقول الرسول ﷺ: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم» (٥) أي: إذا تقدم بعضكم على بعض في الصفوف تأثرت قلوبكم ونشأ بينكم الخلف ومنه الحديث الآخر: «لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» (٦) يريد أن كلا منهم يصرف وجهه عن الآخر ويوقع بينهم التباغض فإن إقبال الوجه على الوجه من أثر المودة والألفة (٧)
_________
(١) ([٩٠]) «الفتاوى» (٢٢/ ٢١١) وانظر «الاستقامة» له (١/ ٢٤).
(٢) ([٩١]) «الفتاوى» (٢٨/ ٣٣)، و«شرح صحيح مسلم» (١٢/ ١١) للنووي.
(٣) ([٩٢]) رواه مسلم (١٧١٥). من حديث أبي هريرة ﵁.
(٤) رواه الترمذي (٢٦٢١) والنسائي (٤٦٣) وابن ماجه (١٠٧٩) وأحمد (٥/ ٣٤٦) (٢٢٩٨٧). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وصححه أحمد شاكر في «عمدة التفسير» (١/ ٤٩٢) كما أشار لذلك في مقدمته. وقال الألباني في «صحيح سنن الترمذي»: صحيح.
(٥) ([٩٤]) رواه مسلم (٤٣٢). من حديث أبي مسعود ﵁.
(٦) ([٩٥]) رواه البخاري (٧١٧)، ومسلم (٤٣٦). من حديث النعمان بن بشير ﵁.
(٧) ([٩٦]) انظر «النهاية في غريب الحديث والأثر» (٢/ ٦٤).
1 / 19