Educational Milestones for Aspiring High Religious Authorities
معالم تربوية لطالبي أسنى الولايات الشرعية
Nau'ikan
معالم تربوية لطالبي أسنى الولايات الشرعية
لصاحب الفضيلة الدكتور
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
الأستاذ المساعد بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
والمدرس بالمسجد النبوي الشريف
جمعها واعتنى بها ورتبها
أحد طلاب العلم
تم عرضها على فضيلة الشيخ/ محمد واستحسن ما فيها
الإهداء
إلى طلاب العلم (١) [١]) ...
إلى خلَفِ الأئمة.. فإنه لا زال الخير فيهم.. فإن أئمة هذا الدين وعلماءه حين خرجوا من هذه الدنيا، خلّفوا وراءهم أممًا تشابههم، وطلاب علم يسيرون على نهجهم، خرجوا من الدنيا وارتحلوا، وقد بلّغوا أماناتهم ومسؤولياتهم لطلاب العلم.
يا طلاب العلم.. ما أعظم الأمانة التي حُمّلتموها من العلم والعمل، هذه الأمانة العظيمة التي تنتظركم بها أمم لا يعلمها إلا الله، ينتظركم الضالّ بإذن الله أن تهدوه، والحائر بإذن الله أن ترشدوه، تنتظركم أمم بفارغ الصبر..
فأنتم معقد الأمل بعد الله ﷿ في حمل الرسالة المحمدية وتبليغ الدعوة النبوية، أنتم خلفاء العلماء الأئمة الدعاة والهداة إلى الله، لذلك أحبتي في الله.. ما أعظم المسؤولية التي يحملها طالب العلم، وما أجلّها عند الله ﷿.
إذا وافقت رجلًا حكيمًا، صالحًا برًا مستقيمًا، يعي حقوق الله وحقوق عباده، فحملها بحقها، وأدّاها قربة لله ﷿ على وجهها، فنِعْمَ -والله- الطالب، ونِعْمَ -والله- الراغب، لذلك فإن طالب العلم الصادق في طلبه يحتاج في كل زمان ومكان إلى من يذكره بأمانة العلم، إلى من يذكره بمسؤولية وحق هذا العلم، الذي إذا أعطي حقه كان سببًا في عفو الله ومرضاة الله، لذلك فإن خير ما ينتظره طالب العلم، كلمة تَدُلُّه، ونصيحة تقدم له فالله الله يا طلاب العلم في هذه الرسالة العظيمة التي حمَّلتموها من الله.
_________
(١) من محاضرة للشيخ محمد -حفظه الله- بعنوان (وصايا لطلاب العلم) .
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
حمدًا لله، وصلاةً وسلامًا دائمين على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، وترسم خطاه إلى يوم نلقاه ... وبعد:
لا غرابة اليوم في كثرة المتحدثين عن آداب الطلب وطالب العلم، ولا غضاضة في كثرة ما تقذفه لنا المطابع من مؤلفات في هذا الموضوع.
ففي ظلال هذه الصحوة المباركة، راجت بضاعة العلم الشرعي بعد كسادها، وتلهفت على طلبه نفوس بعد خمولها، ولم نزل نرى -ولله الحمد- إقبالًا متزايدًا من شباب الأمة وكهولها عليه.
وكثرة الكتب والأشرطة فيه ظاهرة صحية -كما يقولون-، وكثرة اختلاف وجهات نظر المتحدثين حول قضاياه من اختلاف التنوع المحمود.
بَيْدَ أن الحديث عن العلم وآدابه يحلو ويزدان، ويَلَذّ سماعه حينما يكون من أهله الذين بذلوا كليتهم له، وحينما تسمعه من عالم رباني يسّر الله له الأخذ بمجامع القلوب، ألا وهو الشيخ محمد بن الشيخ محمد المختار.
وليست النائحة الثكلى كالمستأجرة.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ... ولا الصَّبَابة إلا من يُعانيها
ولما كان الشيخ محمد كثيرًا ما يتناول آداب الطلب وطالب العلم ما أتت له مناسبة، أو عند استهلال واستئناف دروسه، وتأتي توجيهاته ووصاياه مسددةً موفقة تَطْرَبُ لها الأسماع، أدركت أهمية ما يرمي إليه من توجيهات ومعالم وآداب يتربى عليها طلاب العلم، تهذب أخلاقهم، وتنفي زغل العلم عن طباعهم.
فخطر ببالي أن لو جُمِعَتْ هذه التوجيهات والمعالم المتناثرة من ثنايا أشرطة الدروس والمحاضرات، لانتظمت منها قطعة أدبية بليغة، وموعظة روحانية رقيقة، فعرضت الأمر على الشيخ عام (١٤١٤هـ)، فدعا وبرّك، فكانت الخطوات التالية:
أولًا: فرغت من الأشرطة جميع المحاضرات التي خصصها الشيخ للحديث عن آداب طلب العلم وقضاياه، وعدتها ثمان محاضرات أُلقيت في سنوات متفاوتة، وأماكن متفرقة.
1 / 2
ثانيًا: تَتَبَّعتُ مظان الحديث عن موضوع آداب طلب العلم في جميع أشرطة المحاضرات العامة، وهي غالبًا إجابات على أسئلة تهم الموضوع في آخر بعض المحاضرات، وكذلك تتبعتها في أشرطة الدروس العلمية الموجودة عندي، فشملت:
- درس شرح كتاب عمدة الأحكام الذي بدأ الشيخ فيه عام (١٤١٠هـ)، وانتهى منه عام (١٤١٦هـ) .
- درس شرح عمدة الفقه، والذي بدأ الشيخ في شرحه للطلاب عام (١٤٠٩هـ)، وانتهى منه عام (١٤١٣هـ) .
- درس شرح بلوغ المرام (متوقف) .
- درس شرح زاد المستقنع، والذي بدأ فيه الشيخ عام (١٤١٤هـ) ليلة الأربعاء من كل أسبوع، ولا يزال مستمرًا فيه في جامع التنعيم بمكة المكرمة.
- درس تفسير سورة النور (متوقف) .
- درس شرح كتاب التوحيد (متوقف) .
- درس شرح سنن الترمذي الذي بدأ فيه الشيخ بتاريخ (٢/٦/١٤١٦هـ) بجامع الملك سعود بجدة ليلة الخميس من كل أسبوع، ولم ينتهِ بعد.
ثالثًا: آلفْتُ ونسقْتُ بين مواد هذه الأشرطة المجمعة لتصبح مادة مقروءة، وسقت عبارات الشيخ كما هي دون إضافة ولا زيادة، ولم أتصرف في كلام الشيخ إلا بحذف، خشية التكرار، أو تقديم أو تأخير اقتضاه السياق والسباق، أو جمع متفرق، من عدة أشرطة، وأجعله في موضع واحد.
رابعًا: وضعت عناوين للمعالم تسهل فهم المراد، وجعلت هذا الكتاب في تمهيد وخمسة فصول. أخذت فكرة التقسيم من محاضرة حلية طالب العلم التي ألقاها فضيلته في قاعة المحاضرات بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة بتاريخ (٢٣/٦/١٤١٣هـ) .
ولكي يستفيد طلاب العلم بشتى مستوياتهم، ضَمَّنْتُها فصلين ماتعين هما ألصق بما نحن فيه من غيره، وهما: الرابع والخامس.
فصارت حلة الكتاب كالتالي:
- تمهيد في شرف العلم ومكانة العلماء.
- الفصل الأول: معالم في الأدب مع العلماء.
- الفصل الثاني: معالم في آداب طالب العلم في نفسه.
- الفصل الثالث: معالم في آداب طالب العلم في درسه.
- الفصل الرابع: معالم في آداب الفتوى.
1 / 3
- الفصل الخامس: أجوبة مهمة على أسئلة ملمة.
خامسًا: عزوت الآيات وخرجت الأحاديث، وحشّيتُ كلام الشيخ بما أراه يزيده إيضاحًا ويفيد منه القارئ الكريم، ولم أتقيد بطريقة كتابة البحوث العلمية ونظامها لحصول المقصود دون التقيد بذلك.
سادسًا: لم أعتمد ما وجدته من تعليقاتي وتقيدات زملائي أثناء دروس الشيخ تبيّن آراءه في بعض جوانب موضوعنا؛ لأني بحثتُ عن الأشرطة، فلما لم أجدها أعرضتُ عن الأخذ من هذه التعليقات.
وكما هو مقرر معلوم أن تقيدات وطُرَر الطلاب عن الشيخ، لا يعتمد عليها في بيان آرائه وفتاويه؛ لمظنة خطأ الطلاب في الفهم والنقل، وعدم أمن اللبس؛ ولأن مقام التدريس ليس كمقام الفتوى.
قال العلامة النابغة الشنقيطي (ت:١٢٤٥هـ) ﵀ في طليحيته (١) [٢]):
وكلِ ما قُيد مما يُسْتَمَد ... في زمن الإقراء غيرُ معتمدْ
وهو المسمى عندهم بالطُّرةِ ... قالوا ولا يُفتى به ابن حُرةِ
لأنه يَهْدى وليس يُسْتَنَد ... عليه وحده مخافة الفَنَد (٢) [٣])
ولن تجد –أخي القارئ- بين طيات هذا الكتاب تنظيرًا ثقافيًا، أو أطروحة فلسفية في توجيه طلاب العلم، كلا، ولا حشدًا من النصوص والآثار –وما أكثرها- في فضل العلم ومكانة العلماء!!
_________
(١) منظومة في ثلاثمائة بيت، موضوعها المعتمد وغير المعتمد في المذهب المالكي من الكتب والشروح والحواشي ورجال المذهب والمفتين، سميت بالطليحية؛ لأن مؤلفها نظمها تحت شجرة طلح.
(٢) الفَنَد: الخطأ.
1 / 4
بل غاية ما ستجده –ولعلي أتعجّل النتيجة- كلماتٍ إيمانية تربوية عميقة، وإشاراتٍ قلبية رقيقة، ذاتِ طلاوة تمتنع على الترجمة من غير نقصان بهائها، وكأني بالشيخ محمد قد أرسل ألفاظها وانتقى كلماتها في أبها أيامه، وأثناء وصوله إلى ذروة صفاء حياته وأقصى انغماسه الإيماني، تخاطب قلب وروح طالب العلم قبل عقله، ونتائج تجربة عملية تربى عليها الشيخ –حفظه الله- يقدمها لطلاب العلم، وليس ذلك بدعًا عليه، وهو الذي تربى في بيت علم، ونهل من معين عالم جهبذٍ، ومحدث فقيه، ومؤرخ لغوي، ونسّابة، سِيَرِيّ (١) [٤])، وهو والده ﵀ الذي عرفته أروقة وسواري المسجد النبوي وعرفها، ولطالما دوى صوته بحديث رسول الله ﷺ فيه زهاء ثلاثين عامًا.
هو الشيخُ وابن الشيخ والشيخ جَدهُ ... ... ... فيا حبذا شيخٌ تناسلَ من شيخِ
يأتي هذا الكتاب لينير لطلاب العلم الشرعي الدرب، ويبصّرهم بمداخل الشيطان فيه، ويكشف لهم عن تجربة طويلة مع مراحل الطلب.
كل ذلك ببيانٍ يقوم على تحليل علمي رصين، وتشخيصٍ موفق دقيق، وسَيْرٍ وراء الدليل، واتباعٍ لأثارةٍ من علم السلف الصالحين.
أبدتْ نقُولُك ما أخفيت من حِكَم ... ... موروثةٍ عن جدود وأنجُمٍ زُهُرِ
وسميته (معالم (٢) [٥]) تربوية لطالبي أسنى الولايات الشرعية) .
ولعل في نشر هذه المعالم والتوجيهات خدمة لإخواني طلاب العلم، ورفعًا لهممهم، وتسديدًا لخطواتهم، ووفاءً لبعض حق الشيخ، فإنما العالم بطلابه.
وإن أنسى فلا أنسى التنبيه على أن مادة هذا الكتاب في الأصل مسموعة، فلا ضير أن يوجد التفاوت بين الأسلوبين: أسلوب الكتابة، وأسلوب الإلقاء.
_________
(١) نسبة إلى السيرة النبوية.
(٢) المعالم جمع مَعْلَم، وهو ما يُستدَلّ به على الطريق. قاله في القاموس والمنجد في اللغة.
1 / 5
وبعد -أخي القارئ الكريم- دونك جهد حولين كاملين، أحسب أني لم آل جهدًا في تهيئة مواده من مسموعة إلى مقروءة، فإن جُدتَ عليَّ بدعواتٍ طيبات، فذلك ما كنا نَبْغِ، وإلا فلا أقل من حسن الظن، وحسن الظن اليوم أعزُّ من الأبلق العَقوق -كما يقولون-. وطلاب العلم لهم حظ من تعديل الله لهم في آية آل عمران: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ» [آل عمران:١٨] .
طَلَبةُ العِلم على العدالة ... ... ... قد يُحملون نَجْل رُشْدٍ قالَهْ
والله الكريم أسأل أن يلطف بنا، ويعصمنا من الخطأ والزلل، وإرادة غير وجهه ﷿، وأن يجزي عنا الشيخ محمدًا بأفضل ما جزى به شيخًا عن تلامذته، وأن يَمُدَّ في أيامه، ويديم علينا وعليه سابغات إنعامه، وأن يغفر لنا وله ولوالديه ومشايخه والمسلمين أجمعين.
والله الهادي إلى سواء السبيل..
أحد طلاب العلم
المدينة المنورة (٢٦/٨/١٤١٦هـ)
تمهيد في شرف العلم ومكانة العلماء (١) [٦])
الحمد لله ذي الوحدانية والكمال، الحمد لله المحمود على كل حال، الحمد لله المتصرف في الأحوال، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من توكل عليه كفاه، ومن استعاذ به أغناه ووقاه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الذي اجتباه واصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه المبارك وارتضاه.
_________
(١) بتصرف من مقدمة محاضرة (حلية طالب العالم)، ألقيت في قاعة المحاضرات بالجامعة الإسلامية بتاريخ ١٦/١١/١٤١٢هـ. ومن افتتاحية محاضرة الغرور وأثره على طلاب العلم، ومن مقدمة دروس شرح سنن الترمذي، ومن إجابات أسئلة الشريط رقم (٤٣) من دروس شرح زاد المستقنع، للشيخ محمد -حفظه الله-.
1 / 6
العلم أمانة عظيمة، ومسؤولية جليلة كريمة، تُبلَّغ بها رسالةُ الله، وتقام بها الحجة على عباد الله، فكم هَدى الله ﷿ بالعلم من الضلالات، وكم أخرج به من الظلمات، كم هَدى الله به أُممًا حارت، وكم هَدى به أممًا ضلت، كم أبكى لله عيونًا، وكم أخشع لله ﷾ قلوبًا وجفونًا.
العلم الشرعي هو نور الله، وهداية الله، ورحمة الله لهذه البشرية، هو معدنها الصافي، ومنبعها الذي لا يغيض، إنه السبيل الذي من سار فيه انتهى به إلى مرضاة الله وجنته.
امتنّ الله ﷾ على نبيه ﷺ بالعلم، وشرّفه وكرّمه به، فكان به إمامهم وقدوتهم وهاديهم، صلوات الله وسلامه عليه.. وصدق الله إذ يقول: «وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا» [النساء:١١٣] .
قال بعض العلماء: كان فضل الله عليك عظيمًا حينما علمك ما لم تكن تعلم، وحينما أنقذك من الضلال، وهداك إلى الحق.. «مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ» [الشورى:٥٢]، فالله علّمه ودلّه وهداه.. جلّ سبحانه في علاه..!
العلم بصيرة؛ لأن العالم يُبصِر به الحق فيتبعه، ويُبصِر به الباطل فيجتنبه. قال تعالى: «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ» [يوسف:١٠٨] .
العلم بينة تنكشف بها الحقائق، ويَخْرسُ عند دلائلها كل متكلم وناطق. قال تعالى: «قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» [الأنعام:٥٧] .
العلم.. وما أدراك ما العلم.
شرّف الله به من شاء واصطفى من عباده، فشهد لمن حباه إياه أنه أراد به الخير الكثير، «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» [البقرة:٢٦٩] .
وكثير من الله ليست بالهينة، فمن تعلم انكسر قلبه لربه، ومن تعلم عرف الله بأسمائه وصفاته، وعرف حدوده فاتقاها، ومحارمه فاجتنبها، ومراضي الله جل وعلا فطلبها.
1 / 7
العلم فاتحة كل خير، وأساس كل طاعة وبر، فلا طاعة إلا بالعلم، وكلما أطاع العبدُ ربَّه على بصيرة وعِلم، كانت طاعته أرجى للقبول من الله ﷾..
العلم كالغيث للقلوب، يُحْيي الله به الأفئدة بعد موتها، ويوقظها بعد غفلتها، وينبهها من بعد منامها.
هذا العلم الذي عظم الله أهله، وجعلهم عنده في أعلى الدرجات، وأوجب لهم جزيل العطايا والهبات، «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ» [المجادلة:١١] .
لكن لهذا العلم رجال وأي رجال، لهذا العلم أمة فرغت أوقاتها ترجو به رحمة الله، وتطمع في عفو الله ﷾، لها أخلاق سمت بها إلى أعالي الفضائل، وتنزهت بها من أدران الرذائل، لهذا العلم طلابه، يعظمون شأنه، ويعرفون قدره، الذين غرس الله في قلوبهم إعظام هذا الدين، «وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ» [الحج:٣٠] .. «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» [الحج:٣٢] .
هذا العلم قيض الله رجالًا شرّفهم لحمله، واصطفاهم لتبليغه، إنهم العلماء.
فإن الله أحب من عباده العلماء، واصطفاهم واجتباهم ورثةً للأنبياء، وزادهم من الخير والبر حتى صاروا من عباده الأتقياء السعداء، وأثنى عليهم في كتابه، فشرّفهم وكرّمهم، فقال –وهو أصدق القائلين-: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» [فاطر:٢٨] .
لذلك أحبتي في الله، هذه المسؤولية العظيمة، وهذه الأمانة الجليلة الكريمة، حملها العلماء العاملون، والثقات المعَدَّلون، حملوها فبلغوها عن الله، وأقاموا بها حجة الله على عباد الله، حملها الدعاة والفقهاء والمحدثون، والأئمة المهديون، إنهم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، بهم بعد الله يُهتدى.. وبنهجهم يُحتذى ويُقتدى..
1 / 8
فيالله، كم من أمة بهم اهتدت، وبعروة الله استمسكت، وكم من طالب علم علموه.. وتائه عن سبيل الرشد أرشدوه، وحائر عن صراط الله دلوه، ويالله كم دارس من العلم أحيوه، وكم شارد من العلم قيدوه، وكم أصل من الكتاب والسنة حرروه وضبطوه.
نوّر الله بهم ضمائر العباد، ودلّ بهم على سبيل الحق والرشاد، حملوا هذا العلم جيلًا بعد جيل، ورعيلًا بعد رعيل، لم ينقطع لهم في الله ﷿ أثر ولا قيل، حملوا هذا العلم لله، وبلغوه لوجه الله وابتغاء مرضاة الله، رجال العلم والعمل، وأهل الخير والفضل، فرحمة الله عليهم أجمعين، وجزاهم بأحسن الجزاء إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله، أي مقام أشرف بأن تقوم يومًا من الأيام تخبر عن الله ورسوله ﷺ، وأي مقام أشرف حينما تصير أمينًا على دين الله ووحي الله.
فمن قرأ القرآن فأحل حلاله، وحرم حرامه، وعرف شرعه وفق أحكامه، فقد حمل النبوة بين دفتي صدره.
من حمل هذا العلم المبارك فقد حمل ميراث النبوة، وشرّفه الله بخير كثير.
لكن وقفة قبل أن نصير إلى تلك الرياض العطرة، وتلك المجالس الكريمة النضرة، وقفة لكي نشحذ الهمم إلى أمور ينبغي أن يراعيها كل طالب علم، فلمجالس العلماء حقوق، ولطلب العلم حقوق.
ما من إنسان يفي لله ﷿ بهذه الحقوق إلا بارك الله له في علمه، وشرح صدره، ويسّر أمره.
وقفة مع آداب طلاب العلم مع العلماء، حتى نؤدي لهذا العلم حقه، ونؤدي إلى حملة الكتاب والسنة حقهم وقدرهم.
والذي جعل بعض طلبة العلم يسأمون ويملون من طول الزمان في الطلب، هو أنهم يحملون العلم أحمالًا على ظهورهم دون استشعار روحه وآدابه، فتجد طالب العلم يجمع الأقوال في المسألة والمناقشات، ويشتغل بها اشتغالًا جامدًا يقسي القلب.
1 / 9
أما لو عرضت عليه المسألة، وتأملها ونظر الحق الذي فيها، وتعجب من فتح الله على العلماء، وأدرك فضل الله على هذا العالم في استنباطه ومناقشته، وسأل الله أن يفتح عليه كما فتح على ذلك العالم، وينظر في كتب السلف الزاخرة بهذه المسائل، ويقول: يا رب، كما وفقتهم وفقني بمثل هذه الروح والارتباط بالله جل وعلا، يزداد علمه وقربه إلى الله.
أيها الأحبة في الله، لقد تغيرت تلك الرياض الطيبة، وتغيرت تلك المجالس النيرة، التي كانت عامرة بالآداب والأخلاق، تغيرت بتلك الأخلاق الرديئة، تغيرت فأظلمت من بعد ضيائها، وتنكدت الأقدام في الدروب، وحادت عن علام الغيوب، لما فتنت بهذه المحنة العظيمة، وبليت الأمة في هذا العصر بداء الغرور، فسب السلف الصالح، وامتهنت كرامتهم، وأصبح العلماء يكابدون ويجاهدون من العناء والبلاء ما لا يُشكى إلا إلى الله وحده ﷿.
وأصبح العبد يجد الشقاء في الجلوس فيها، فكم من كلمة نابية تسمع، وكم من تصرفات ممقوتة تُرى، لا ترى لها رادعًا، ولا ترى لها منكرًا؛ لذلك جاءت أهمية هذا الموضوع.
نداء إلى القلوب الطاهرة، نداء إلى تلك النفوس الطيبة، نداء إلى تلك المعادن الزاكية، التي تعرف حق هذا العلم، وتعرف فضل العلماء، وحق السلف والخلف، نداء إلى تلك القلوب الكريمة، لكي تثبت على هذا السبيل القويم.
العلم يطالب بحقوق كثيرة وعظيمة، فمن أراد أن يطلبه فليأخذه بحقه.
1 / 10
الفصل الأول: معالم في الأدب مع العلماء
نص العلماء (١) [٧]) ﵏ على أنه ينبغي على طالب العلم أن يتحلى بأزين الحلل، وأن تكون فيه حلية طالب العلم في وقاره وفي خشوعه وسمته. قال الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة ﵀: (حق على طالب العلم أن تكون فيه سكينة ووقار، واتباع لأثر من مضى قبله) (٢) [٨]) .
إن طالب العلم إذا تزين بالآداب، وكان على أكرم الأخلاق، وجمّلها بالعلم، فإن الله يجمله بعد أن يصير عالمًا، ولذلك نجد بعض العلماء مُهابًا جليلًا محبوبًا، ولو نظرت إليه أثناء الطلب، لوجدته يهاب العلم ويجلّه، فبمقدار ما توفق إلى الآداب مع العلماء في مجلسهم ترزق من الطلاب مثله، فاجتهد -رحمك الله- في أن ينظر لك العالِم نظرة إجلال.
جلس الإمام أحمد بن حنبل يطلب العلم عند عبد الرزاق بن همام الصنعاني -رحمة الله عليهما- إمامان حافظان جليلان من علماء السلف وأئمتهم، حفظا سنة النبي ﷺ ووعياها، وكانا على جلال وفضل وكمال -رحمة الله عليهما-.
كان عبد الرزاق يتقي المزاح والطرفة إذا كان الإمام أحمد في مجلسه، وهذا أبلغ ما يكون من الوقار والجلال الذي ألبسه الله أهل العلم.
قال ابن عباس ﵄: (ذللتُ طالبًا وعززتُ مطلوبًا) (٣) [٩]) .
وكان بعض السلف يكره أن يستند الطالب في مجلس العلم، كل ذلك إجلال ووقار للعلم وهيبة للعالم، وكانوا يشددون في مدّ الرِّجْل في مجلس العلم، ويشددون في الأمور التي تشعر بالاستخفاف بالعالِم أو بمجلس العلم.
_________
(١) من محاضرة آداب طالب العلم للشيخ محمد، ألقيت في ٢٨/٤/١٤١٢هـ بمكة المكرمة.
(٢) رواه الحافظ ابن عبد البر ﵀ في جامع بيان العلم وفضله برقم (٨٩٩) (ص:٥٤٤) ط: دار ابن الجوزي بتحقيق أبي الأشبال الزهيري. وذكره الحافظ الذهبي ﵀ في السير (٨/٤٨-١٣٥) .
(٣) رواه الحافظ ابن عبد البر ﵀ في الجامع، وصححه المحقق الأستاذ الزهيري رقم (٧٥٦) (ص:٤٧٤) .
1 / 11
مكانك عند الله وكرامتك عند الله على قدر ما ينشرح له صدرك من تلقي العلم، ولذلك ما أحب الله العلماء بشيء مثل إقبالهم على كتابه وسنة رسوله ﷺ، فإياك ثم إياك أن تكون زهيدًا في كل علم تتعلمه، والله، كم من مسائل سمعناها من العلماء، ما كنا نظن إنه يأتي يوم من الأيام فيكون فيها نفع، حصل فيها من النفع ما الله به عليم، لا تزهد من العلم في شيء، فلعلك أن تسمع حكمة تنشرها، يحيي بها الله القلوب، ولعلك تسمع سنة فتحييها، فيكتب الله لك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
احرص على كل محاضرة وندوة ومجلس علم أن تحمل منه سنة من سنن رسول الله ﷺ، قولية أو فعلية أو اعتقادية، احرص على أن تتعلم ولو حديثًا واحدًا، والله تعالى تكفل في كتابه لأهل العلم برفع الدرجات، تخرج من الدنيا ومكانتك عند الله على قدر ما حفظت من العلم، فطوبى لأقوام حفظوا كتاب الله وحفظوا سنة رسوله ﷺ في صدورهم وقلوبهم، فخرجوا من الدنيا والله ﵎ راضٍ عنهم بذلك العلم والضبط، وبلغهم نفع ذلك العلم في قبورهم، فهم الآن في رياضها يتنعمون، وفي ما هم فيه من السرور والنعيم يغبطون (١) [١٠])، فالله الله أن يزهد إنسان في خير من الله، احرص على الخير، واحرص على الانتفاع، ولذلك ما انتفع إنسان بسنة إلا نفعه الله بها ونفع بها غيره.
وكان السلف الصالح إذا أرادوا طلب العلم وطّنوا أنفسهم بالآداب الكريمة التي تحببهم إلى صدور العلماء.
_________
(١) ١٠]) قال الشيخ السعدي ﵀ في الفتاوى السعدية (ص:١١٥) –ط السعيدية-: وقد أخبرني صاحب لي كان قد أفتى في مسألة في الفرائض –تعلمها على أحد مشايخه، وكان قد توفي-، فقال: المسألة الفلانية التي أفتيت فيها وصلني أجرها. اهـ.
1 / 12
قالت أم الإمام مالك بن أنس ﵀ لما ألبسته العمامة وأمرَتْه أن يذهب إلى مجلس ربيعة بن عبد الرحمن، قالت له: (أي بني: اجلس مع ربيعة، وخذ من أدبه ووقاره وخشوعه قبل أن تأخذ من علمه) (١) [١١]) .
فإذا وجدت طالب علم يحرص على الأدب في مجلس العلم، فاعلم أنه على سنة، ولربما فتح له العالم صدره وأقبل عليه؛ لأن الله جبل القلوب على محبة الأخلاق والآداب، وهي تدل على سمو النفوس وعلو همتها، وأنها تريد ما عند الله ﷿، فلا يليق بطالب العلم أن يجلس في تلك المجالس لا يبالي بحرمتها، ولا يحسن التأدب مع أهلها.
_________
(١) ١١]) ذكره ابن فرحون ﵀ في الديباج المذهب (ص:٢٠/ج١) .
1 / 13
قال بعض العلماء: أخشى على من أساء الأدب في مجلس العالم أن يحبط علمه وهو لا يشعر، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لأن الله تعالى يقول: «وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» [الحجرات:٢]، والنبي ﷺ يقول: (العلماء ورثة الأنبياء) (١) [١٢])، فاستنبط ﵀ من حكم الله ﷿ على من أساء الأدب في مجلس نبيه ﷺ أنه لا يَبْعُد أن يعامل بمثل ذلك؛ لأن العلم يعتبر في مقام النبوة، فمن أساء الأدب معه فقد انتهك حرمة تلك النبوة التي حواها صدره، كيف لا تتأدب مع العلماء وهم ورثة الأنبياء؟ كيف لا تتأدب معهم والله ائتمنهم على دينه وشرعه؟ كيف لا تخفض جناحك لهم وهم بمنزلة الوالدين، والله أمر بذلك في قوله تعالى: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» [الإسراء:٢٤]، بل ذهب بعض العلماء رحمة الله عليهم إلى أن حق العالم آكد من حق الوالد؛ لأن النسب الديني أعلى من النسب الطيني (٢)
_________
(١) ١٢]) جزء من حديث أبي الدرداء المشهور (من سلك طريقًا ...)، وهو في المسند وسنن الترمذي وأبي داود وابن ماجة وفي صحيح الترغيب والترهيب برقم (٦٧) .
(٢) ١٣]) مسألة: هل حق العلم آكد من حق الوالد؟ أشار إليها بعض الفضلاء من علماء الشناقطة بأبياتٍ منها:
تهاونٌ بالعلماء تهاونٌ
بالله والرسول لا تهاونوا
معظّم للعلماء معظّمُ
لربهم للعلماء عظموا
هل المعلم كوالدٍ أَم
دون أم الشيخ عليه قدّم
فيه خلاف والذي أقولُ
فيه على ما تقتضي النقولُ
تقديم حق عالِم عليه
مع كونه لديه ما لديهِ
كلاهما عقوقه محذّرٌ
منه ومن عقوق كلٍّ فاحذروا
لكن عقوقُ الوالدين يُغفَرُ
بتوبةٍ والشيخ لا لا فاحذرُ
ورد عليه العلامة أحمد فال الشنقيطي في أبيات، منها:
وكون حق الشيخ من حق الأبِ
ألزمَ لم أجده في قول النبي
ولم يكن يظهر لي في الحُكْم
ولم أجده في الكتاب المحكم
وكون ذا أصل الحياة الباقيةْ
والأب أصلٌ في الحياة الفانية
ليس به الدليل إذ للوالدينْ
أصلٌ لذين في ارتضاع المحتدين (*)
وكونه عقوقه لا يغفرُ
فخرْقُ الإجماع فمنه استغفروا
(*) تثنية مُحتِد، وهو الأصل، قاله في القاموس.
1 / 14
[١٣]) .
قال بعض العلماء في قوله تعالى: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» [الحج:٣٢]: المراد بالشعائر جمع شعيرة، وهي ما أشعر الله بتعظيمه، والله أشعر بتعظيم العلماء، فيدخلون في الآية، وليس المراد من تعظيم العلماء الغلو والخروج عن المنهج النبوي، وإنما المراد إعطاء تلك القلوب التي حفظت دين الله، وحفظت كتاب الله وسنة نبيه ورسوله ﷺ حقها وقدرها في مصافحتهم، وفي الحديث معهم وفي مجالستهم وفي مناقشتهم ومناظرتهم، وفي الأخذ عنهم، فما يليق بطالب علم أن يجلس بين يد عالمٍ فيسيء الأدب معه سواءً بالخطاب، أو في لحن القول والجواب، أو في غير ذلك مما يكون في مشهده وغيبته. فكم من طلاب علم مقتهم الله لسوء أدبهم مع العلماء والعياذ بالله.
وكان للسلف الصالح –﵏ قصب السبق في الأدب مع العلماء (١) [١٤]) ﵏، وكانوا يجلون العلماء وأهل العلم.
هذا ابن عباس ﵀ النير النبراس، وارث الكتاب والسنة، لما توفي رسول الله ﷺ أحَبّ أن يكون من طلاب العلم، فجاء إلى زيد بن ثابت وتعلق قلبه به، فكان يمسك بركاب زيد، وكان زيد يجل منه ذلك حتى قال له: ما هذا يا ابن عم رسول الله ﷺ؟ فقال ابن عباس: هكذا أمرنا بأن نصنع بعلمائنا (٢) [١٥]) .
_________
(١) ١٤]) ولما عوتب الإمام الشافعي ﵀ على تواضعه للعلماء، قال:
أهينُ لهم نفسي فهمُ يكرمونها ... ... ... ولن تكرمّ النفسُ التي لا تَهينها. اهـ.
تذكرة السامع والمتكلم (ص:٨٧)، ومناقب الشافعي، للبيهقي (ص:١٢٧) .
(٢) ١٥]) رواه الخطيب في (الجامع لأخلاق الرائي والسامع) (١/١٨٨)، وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة، والحافظ ابن عبد البر في الجامع (ص:٥١٤)، وصححه المحقق.
1 / 15
انظر إلى ابن عباس الذي علم سنة رسول الله ﷺ، ولم يقل: إن رسول الله ﷺ دعا لي بالعلم، فأنا عالم إن شاء الله، ولكن أهان نفسه لكي يكرمها عند الله، وأذلّ نفسه لكي يعزّها الله، فكان له ذلك من الله.
ولما توفي زيد، جاء ابن عباس –وكان وفيًا لأهل العلم- فحمل جنازته حتى سقطت عمامته من رأسه، ولم يزل فيها حتى دفنه. ثم لما دفن زيدًا، قام على قبره تختنقه العبرة، فبكى وقال: ألا من سَرّهُ أن ينظُرَ كيف يقبض الله العلم، فلينظر هكذا يقبض الله العلم بموت العلماء (١) [١٦]) .
ولذلك عزّت عند الله مكانته، ورفع الله قدره، وشرح صدره، وبلغ من العلم مبلغًا عظيمًا، حتى كان إمامًا لا يجارى، إذا وقف في كتاب الله يفسره، تفجرت ينابيع الحكمة في تفسيره ﵁ وأرضاه، حتى قام في يوم عرفة ففسر سورة النور. يقول الراوي: والله لو شهده الفرس والروم والديلم لأسلموا لله ﷿ (٢) [١٧]) .
كل ذلك لما ذل للعلم وحفظ للعلماء حقوقهم ﵁ وأرضاه.
والله، لا يحفظ حق العلماء إلا الموفق، ولا يقلل من شأنهم إلا من قلبه مرض وزيغ، وأهل البدع والأهواء –والعياذ بالله- يُعرفون بنقيصة العلماء.
قال بعض أهل العلم ﵏: إذا أردت أن تنظر إلى رجل في قلبه مرض، فانظر في من يطعن في العلماء أو يحتقر العلماء.
_________
(١) ١٦]) أخرجه الإمام الطبراني في الكبير (٥/٤٧٥١/١٠٩) . والحاكم في المستدرك (٣/٤٢٢) . وابن سعد في الطبقات (٢/٣٦١-٣٦٢) . والحافظ ابن عبد البر في الجامع، وصححه الزهيري رقم (١٠٣٥) (ص:٦٠١) .
(٢) ١٧]) رواه الحافظ ابن عبد البر ﵀ في الجامع عن شقيق (١/٥٤٣)، وصححه المحقق برقم (٧٣١) (ص:٤٦٧) .
1 / 16
قال العلماء في حديث عمر بن الخطاب ﵁ لما قدم جبريل على النبي ﷺ يسأله، فجلس بين يديه وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه. قال: في هذا دليل على مراعاة الأدب في المجلس لطلب العلم، وهكذا كان الصحابة ﵃، كان النبي ﷺ إذا وقف يعلمهم يقول أنس: (أطرقوا، وكأن على رءوسهم الطير) (١) [١٨])، أطرقوا أذلة لله، يرجون بذلك وجه الله وما عند الله، فما أجلها من نعمة أن يوفق الله طالب العلم للأدب.
والله ما رأيتَ طالبَ علمٍ يتأدب في مجالس العلماء ويتأدب مع أهل العلم إلا وجدتَ محبته في صدرك، وأن الله جمله بأدبه، فالأدب هو شريعتنا وما دل عليه ديننا، والله تعالى أدب الصحابة في مجلس نبيه ﷺ، فنهاهم أن يرفعوا الصوت عليه، ونهاهم أن يقوموا من مجلسه قبل استئذانه ﷺ. قال تعالى: «لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ» [الحجرات:٢]، وقال تعالى: «لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ» [النور:٦٢] . ذلك لكي يرسم المنهج الأمثل لكل من أراد أن يتعلم العلم النافع، وأن يحفظ حق العلم وآداب العلماء.
لطالب العلم أدب مع العلماء الذين مضوا إلى الله ﵎ وانتقلوا إلى الدار الآخرة، وأدب مع العلماء الأحياء..
أولًا: الأدب لأموات العلماء ﵏:
المَعْلَمْ الأول: ذكرهم بالجميل:
من حق العلماء الأموات على الأحياء أن يذكروهم بالجميل.
_________
(١) ١٨]) ذكره القاضي عياض ﵀ في "الشفا" عن أسامة بن شريك ﵁ ٢/٣٨- ط دار الفكر ١٤٠١هـ.
1 / 17
قال الإمام الطحاوي ﵀ وهو يبين عقيدة السلف الصالح رحمة الله عليهم حينما ذكر أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، من علماء الأمة من الصحابة والتابعين إليهم بإحسان، قال ﵀ عنهم: (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل) (١) [١٩]) .
أي: ضل سبيل الأمة الذي يعصم الله ﷿ به الإنسان من الزلل والهوى، فذِكر العلماء الأموات بالسوء، وتتبع عثراتهم بقصد التشفي والتشهير لا خير فيه، إنما يبحث الإنسان عن علم العالم، فإن كانت عنده أخطاءٌ بينها، وإن كان له مخرج من تأول دليل في كتاب الله وسنة النبي ﷺ، أنصفه وبيّن دليله، وبيّن حجته.
ينبغي على طالب العلم أن يحفظ حق العلماء، سواء طلب على يديهم العلم أو لم يطلبه عليهم، فحقٌ على كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، إذا جلس مجلسًا فذكر فيه عالمًا، أن يذكره بالجميل، وأن لا يذكره بغير ذلك، فذلك شأن من ضل السبيل.
ينبغي على الإنسان أن يحفظ غيبة العلماء، إن حفظ عرض المسلم الذي هو من عامة المسلمين فريضة ينبغي حفظها، فكيف بالعلماء، ولذلك قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا اغتاب العالم يخشى عليه حتى ولو سامحه العالم، فإنه لا يؤمن عليه أن يعاقبه الله؛ لأن غيبة العالم فيها حقان: حقٌ لله، وحقٌ للعالم.
_________
(١) ١٩]) متن الطحاوية بتعليق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ﵀ (ص:٥٩) .
1 / 18
أما حق العالم: فبأذيته بالكلام الذي لا ينبغي، وأما حق الله: فلأن تنقّص العلماء تنقيصًا للعلم الذي حملوه، فلا يجوز لإنسان أن يرضى عن من ينتقص العلماء، حتى ولو قال: إن فلانًا لا يحسن الاستدلال، أو لا يحسن العلم، فعندها ينبغي أن تأخذك حمية الدين، فتقول لمن يقول هذا الكلام: اتق الله في أهل العلم، فإنك قد اغتبتَ عالمًا، والله، إن غيبة العلماء عظيمة من جرائم الذنوب التي ينبغي للإنسان أن يحذر منها، وبمجرد ما تحس من الإنسان الذي أمامك أنه يريد أن ينتقص عالمًا، ففرّ بدينك قبل أن يسلب شيئًا من حسناتك، فلربما تجلس مجلسًا واحدًا تسمع فيه غيبة عالم تهون عند الله في ذلك المجلس، فمن عادى وليًا لله آذنه بالحرب.
فينبغي على الإنسان أن يحذر من سطوة الله في أذية العلماء، وإذا لم يغر لله على العلماء، فعلى من يغار، والمقصود من هذا كله أن تحفظ غيبة العلماء؛ لأنهم صفوة الله وأحباؤه من الخلق، وإذا أخطأ عالم في مسألة فينبغي أن يُبين الصواب لهذه المسألة، ولا حاجة إلى ذكر أسمائهم أو التعريض بها، كأن تقول قول فلان وتذكره وتسميه في معرض الردّ؛ لأن المقصود هو التوجيه والإرشاد والتعليم، لا انتقاص عباد الله وأكل أعراضهم.
ذكروا عن رجل من أهل العلم كان في مجلس من المجالس، فسمع رجلًا يغتاب عالمًا قاضيًا ويتهمه بالرشوة، فقال ذلك العالم الجليل –رحمة الله عليه- لذلك الرجل الذي تنقص واغتاب العالم: والله لا آمن عليك سوء الخاتمة، حلف بالله العظيم مَن نَقَل هذه القصة، قال: والله ما مرّت إلا مدة وجيزة شهدت وفاته، كانت على أسوأ حالة والعياذ بالله.
المَعْلَمْ الثاني: ذكرهم بالإجلال والإعظام:
1 / 19
تقول: قال الإمام ﵀، تذكره بالإمامة وتشرفه وتكرّمه؛ وتميزه عند ذكره عن عامة الناس بهذه الألقاب؛ لأن الله ﷾ أدّبَ أصحاب النبي ﷺ بذلك في قوله: «لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا» [النور:٦٣] .
لا ينبغي أن يدعوَ الإنسانُ رسول الله ﷺ باسمه مجردًا –صلوات الله وسلامه عليه-، وإنما يقول: يا رسول الله، ويا نبي الله –أي في حياته-، ولأن العلماء ورثة الأنبياء، فلا يقال: قال فلان وقال فلان ... يذكره باسمه مجردًا، وإنما يذكره بما يدل على علمه ورفعة قدره، وأنه ليس كعامة الناس، فهذا حق من حقوقه.
وقد قال ﷺ: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه) (١) [٢٠])، فكيف بإجلال العالم الحافظ لكتاب الله، والحافظ لسنة النبي ﷺ الذي أحيا الله به السنة، وأمات به البدعة، لا شك أنه أحق، وإجلاله إجلال للدين، وإذا ذكر العالم بوصف التشريف والتكريم أحست الناس بهيبة العالم، وأحست بمكانة العالم، وإذا ذُكِر كما يُذكر عوامّ الناس، لم يُفرّق بينه وبين العوام، فهذه مظلمة في حق العلماء –رحمة الله عليهم-، وهذا يستوي فيه الأحياء والأموات، ما دام أنه عالِم بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ، فينبغي أن يُجَل وأن يُكرّم.
المَعْلَمْ الثالث: أن يعتني بردّ الجميل لهم:
_________
(١) ٢٠]) رواه أبو داود من حديث أبي موسى ﵁، وحسنه الشيخ الألباني ﵀ في صحيح الترغيب والترهيب برقم (٩٣) .
1 / 20