في حين يذهب إيهاب حسن في آخر مقالة نشرت له إلى أن «ما بعد الحداثة صارت الآن شبحا ... وكلما نظن أننا قد تخلصنا منها، ينهض شبحها مرة أخرى.» ويستطرد قائلا: «ما زالت أفكار ما بعد الحداثة تتردد في خطاب الهندسة المعمارية، والفنون المختلفة، والعلوم الإنسانية، وأحيانا الفيزياء، كما أنها لم تقتصر على المؤسسات الأكاديمية، بل نجدها أيضا في الخطاب الشعبي، وعوالم السياسة والاقتصاد، والميديا، وصناعات الترفيه ، كذلك شاعت في لغة الأساليب الشخصية للحياة، مثل طريقة طهو ما بعد حداثية، ومطبخ ما بعد حداثي ... إلخ.»
35
والسؤال الآن: هل تمثل ما بعد الحداثة كسرا جذريا مع الحداثة، أم أنها ببساطة انتفاضة داخل الحداثة ضد شكل من أشكال الحداثة العليا؟ هل ما بعد الحداثة أسلوب أو طريقة للنظر في العالم والأشياء أم أنها تعتبر عصرا كاملا يحياه الغرب الآن؟ ومن ناحية أخرى هل تغيرت الحياة الاجتماعية في الغرب منذ مطلع السبعينيات حقا، وإلى الحد الذي يسمح بالقول إن الغرب يعيش الآن مرحلة ما بعد الحداثة؟ أم أن تيارات ما بعد الحداثة - يتساءل هارفي.
36
مجرد تيارات تضرب البنى العليا للثقافة، والتي ما انفكت توغل في الغرابة على وقع التغيير الذي يحدث دائما في «الموضة» الأكاديمية؟
يمكننا التمييز هنا بين رأيين متعارضين: الأول يرى أن «حركة ما بعد الحداثة تنتهج نهجا ينفي الحداثة ويعلن رفضه لكل أسسها ومبادئها.»
37
والثاني يرى أن «ما بعد الحداثة نوع خاص من التأزم داخل حركة الحداثة.» فحجم الاستمرار هو أكثر بكثير من حجم الاختلاف بين التاريخ الممتد للحداثة والحركة المسماة ما بعد الحداثة.
38
ويمثل الرأي الأول إيجلتون وهارفي وفريدريك جيمسون؛ أما الثاني فيمثله ليوتار ودولوز وفوكو. الرأي الأول يستند في دعواه إلى أن الخطاب ما بعد الحداثي هو نقيض الخطاب الحداثي فهو خطاب يتبنى مبادئ تقوم أساسا على هدم القيم التي أورثتها الحداثة مثل الواحدية، والنقاء، والشعور بامتلاك اليقين وأحكام القيمة والسلطة الأبوية بكل صورها؛ لا سيما أشكال السلطة التي أفرزها المجتمع الرأسمالي كالعقل الأداتي واللوجوس، وغيرها من مفردات الخطاب الحداثي الشهير. وكنقيض لهذه القيم، تبنت ما بعد الحداثة خطابا رافضا الكلي ومكرسا النسبي واليومي، مقابل الحتمي والتاريخي، متحررا من الزمن الخطي، وهادما التمايزات بين الاجتماعي والثقافي، وداحضا ومهشما الحدود الفاصلة بين الحقول المعرفية، كمحاولة لإقصاء السياسات وحيدة الجانب، وكرد فعل لتشظي المجتمع الراهن وتصدعه، ومن أجل التعبير عن تفكك العلاقات السائدة في الزمن الراهن. وكان أن نادى معظم منظري ما بعد الحداثة بتبني مفاهيم جديدة تحل محل مفاهيم الحداثة السائدة تجلت في ركائز ثلاث: الأولى هي الوعي بالفردانية واستقلال الذات عوضا عن النزوع الجمعي الشمولي القديم، والثانية تكريس مفهوم سقوط السلطة بكل أنواعها، وبالتالي نقض مفهوم المركزية والواحدية انتصارا للتعددية والتنوع. وهما معا الركيزة الثالثة. هذا هو رأي الفريق الأول الذي يرى في ما بعد الحداثة انفصالا عن المشروع الحداثي وانقلابا عليه.
Shafi da ba'a sani ba