بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا ان يتم نوره ولو كره الكافرون والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي نصر دينه بالجلاد والجدال وتكفل لأمته ان لا يزالوا على الحق ظاهرين حتى يقاتل آخرهم الدجال وعلى آله الطيبين وأصحابه الذين وصفهم بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم وألحق التابعين بإحسان في رضاه بالسابقين الاولين من المهاجرين والانصار وسلم تسليما كثيرا.
اما بعد فانه لما أحدث ابن تيمية ما احدث في اصول العقائد ونقض من دعائم الاسلام الاركان والمعاقد بعد ان كان مستترا بتبعية الكتاب والسنة مظهرا انه داع الى الحق هاد الى الجنة فخرج عن الاتباع الى الابتداع وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة الاجماع وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة وان الافتقار الى الجزء ليس بمحال وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى وان القرآن محدث تكلم الله به بعد ان لم يكن وانه يكلم ويسكت ويحذث في ذاته الارادات بحسب المخلوقات وتعدى في ذلك الى استلزام قدم العالم (والتزامه ) بالقول بانه لا اول
Shafi 6
للمخلوقات فقال بحوادث لا أول لها فأثبت الصفة القديمة حادثه والمخلوق الحادث قديما ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نحلة من النحل فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين التي افترقت عليها الامة ولا وقفت به مع أمة من الامم همة ، وكل ذلك وان كان كفرا شنيعا مما نقل جملته بالنسبة الى ما أحدث في الفروع فان متلقي الاصول عنه وفاهم ذلك منه هم الاقلون والداي اليه من أصحابه هم الارذلون واذا حوققوا في ذلك انكروه وفروا منه كما يفرون من المكروه ، ونبهاء اصحابه ومتدينوهم لا يظهر لهم الا مجرد التبعية للكتاب والسنة والوقوف عند ما دلت عليه من غير زيادة ولاتشبيه ولا تمثيل.
واما ما أحدثه في الفروع فامر قد عمت به البلوى وهو الافتاء في تعليق الطلاق على وجه اليمين بالكفارة عند الحنث وقد استروح العامة الى قوله وتسارعوا اليه وخفت عليهم احكام الطلاق وتعدى الى القول بان الثلاث لا تقع مجموعة اذا أرسلها الزوج على الزاوجة وكتب في المسألتين كراريس مطولة ومختصرة أتى فيها بالعجب العجاب وفتح من الباطل كل باب ، وكان الله تعالى قد وفق لبيان خطاه وتهافت قوله ومخالفته لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجماع الامة، وقد عرف ذلك خواص العلماء ومن يفهم من عوام الفقهاء ، ثم بلغني انه بث دعاته في اقطار الارض لنشر دعوته الخبيثة وأضل بذلك جماعة من العوام
Shafi 7
ومن العرب والفلاحين وأهل البلاد البرانية ولبس عليهم مسالة اليمين بالطلاق حتى أوهمهم دخولها في قوله تعالى " لا يواخذكم الله باللغو في أيمانكم " الآية وكذلك في قوله تعالى " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" فعسر عليهم الجواب وقالوا هذا كتاب الله سبحانه وبقي في قلوبهم شبه من قوله حتى ذاكرني بذلك بعض المشايخ ممن جمع علما وعملا وبلغ من المقامات الفاخرة الموصلة الى الاخرة أملا ورأيته متطلعا الى الجواب عن هذه الشبهة وبيان الحق في هذه المسالة على وجه مختصر يفهمه من لم يمارس كتب الفقه ولا ناظر في الجدل فكتبت هذه الاوراق على وجه ينتفع به من نور الله قلبه وأحب لزوم الجماعة وكره تبعية من شذ من الشياطين وبالله استعين وعليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل.
وقد رتبت الكلام على ثلاثة فصول : الفصل الاول في بيان حكم هذه المسألة ، الفصل الثاني : في كلام اجمالي يدفع الاستدلال المذكور ، الفصل الثالث : في الجواب عن ذلك الاستدلال بخصوصه تفصيلا
Shafi 8
(الفصل الاول)
اعلم ان الطلاق يقع على وجه محرم ويسمى طلاق البدعة كالطلاق في الحيض ، وعلى وجه غير محرم ويسمى الطلاق السني ، وقد اجمعت الأمة على نفوذ الطلاق البدعي كنفوذ السني الا ما يحكى في جمع الثلاث على قولنا انه بدعي فاذا طلق امراته على الوجه المنهي عنه وهذا ليس فيه بين الامة خلاف يعتبر الا ان الظاهرية الذين يخالفون الاجماع في مسائل من الطلاق وغيره خالفوا في هذه المسالة وهم محجوجون بالاجماع والحديث فقد طلق ابن عمر رضي الله عنهما امرأته وهي حائض فسال عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم ان شاء أمسك وان شاء طلق قبل ان يمس فتلك العدة التي أمر الله ان تطلق لها النساء وهو في الصحيحين وفي لفظ قال ابن عمر فطلقها وحسبت لها التطليقة التي طلقها وهو في الصحيح مع ان أهل الظاهر يقولون لو طلقها في الحيض ثلاثا نفذ وكذلك لو طلقها فى طهر مسها فيه ، والقصد ان الطلاق في الحيض على وجه البدعة نافذ على ما دل عليه الحديث المذكور، وما ورد في بعض روايات هذا الحديث ان عبد الله بن عمر قال فردها علي ولم يرها شيئا متاول عند العلماء ومحمول على معنى الرواية الاخرى وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما من
Shafi 9
غير وجه الاعتداد بتلك الطلقة وانفاذها عليه وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز "يا ايها الذين آمنوا اذا طلقتم النساء فطلقوهن العدتهن " يعني لقبل عدتهن وقد قرئ كذلك والمراد ان يوقع الطلاق على وجه تستقبل المرأة العدة بعده واذا وقع الطلاق في الحيض لم تعتد المرأة بايام بقية الحيض من عدتها فتطول عليها العدة وقيل ليطلق في الطهر فربما كان الطلاق في الحيض لعدم حل الوطء فيه وقد جاء في بعض الفاظ هذا الحديث " فتلك العدة التي امر الله ان تطلق لها النسا " يعني في هذه الآية فقد دل الكتاب والسنة على ان الطلاق في الحيض محرم ومع ذلك فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بنفوذه والاعتداد به وان كان قد خالف الوجه الذي شرع الطلاق فيه فرأينا الشرع أوقع بدعة الطلاق كما أوقع سنته وما ذلك الا لقوة الطلاق ونفوذه وكذلك اذا جمع الطلقات الثلاث في كلمة فهو مخالف لوجه السنة في قول جماعة من السلف بل اكثرهم ومع ذلك يلزمونه الثلاث، وقد أتى ابن العباس رجل فقال ان عمي طلق امرأته ثلاثا فقال ان عمك عصى الله فاندمه الله ولم يجعل له مخرجا ، وعن انس قال كان عمر رضي الله عنه اذا اتى برجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد اوجعه ضربا وفرق بينهما ، وعن عمران بن حصين رضي الله عنه انه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس قال أثم وحرمت عليه امراته، وعن نافع ان ابن عمر رضي الله عنهما
Shafi 10
قال من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه وبانت منه امرأته فهذه أقوال الصحابة في اثم من جمع الطلقات الثلاث لمخالفته السنة ومع ذلك يوقعونها عليه وما ذلك الا لقوة الطلاق ونفوذه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاث جدهن جد وهزهن جد النكاح والطلاق والرجعة" قجعل هزل الطلاق جدا ولم نعرف بين الامة خلافا في ايقاع طلاق الهازل وما ذلك الا لانه أطلق لفظ الطلاق مريدا معناه ولكنه لم يقصد حل قيد نكاح امرأته بذلك ولا قصد ايقاع الطلاق عليها بل هزل ولعب ومع ذلك فلم يعتبر الشارع قصده وانما الزمه موجب لفظه الذي أطلقه وواخذه به وما ذلك الا لقوة الطلاق ونفوذه.
ثم ان الطلاق يكون منجزا ويكون معلقا على شرط فالمنجز كقوله انت طالق والمعلق كقوله اذا جاء رأس الشهر فأنت طالق وان دخلت الدار فأنت طالق، وقد أجمعت الامة على وقوع المعلق كوقوع المنجز فان الطلاق مما يقبل التعليق ، لم يظهر الخلاف في ذلك الا عن طوائف من الروافض ، ولما حدث مذهب الظاهرية المخالفين لاجماع الامة المنكرين للقياس خالفوا في ذلك فلم يوقعوا الطلاق المعين ولكنهم قد سبقهم اجماع الامة فلم يكن قولهم معتبرا لان من خالف الاجماع لم يعتبر قوله وقد سبق اجماع الامة على وقوع الطلاق المعلق قبل حدوث الظاهرية وانما اختلف العلماء اذا علق الطلاق على امر واقع او مقصود كقوله
Shafi 11
إذا جاء رأس الشهر فانت طالق هل يتنجز الطلاق من حين علق ولا يتأخر الى وقوع الشرط وهو مجيء رأس الشهر أو يتأخر الى مجيء راس الشهر فيه قولان للعلماء مشهوران لانه لما علق على شرط واقع فقد قصد ايقاع الطلاق ورضي به فتنجز من وقته وهذا ابن تيمية لم يخالف في تعليق الطلاق وقد صرح بذلك فليس مذهبه كمذهب الظاهرية في منع نفوذ الطلاق المعلق ، ثم ان الطلاق المعلق منه ما يعلق على وجه اليمين ومنه ما يعلق على غير وجه اليمين فالطلاق المعلق على غير وجه اليمين كقوله اذا جاء رأس الشهر فانت طالق او ان اعطيتني ألفا فانت طالق ، والذي على وجه اليمين كقوله ان كلمت فلانا فأنت طالق أو ان دخلت الدار فأنت طالق وهو الذي يقصد به الحث أو المنع أو التصديق فاذا علق الطلاق على هذا الوجه ثم وجد المعلق عليه وقع الطلاق وهذه المسالة التي ابتدأ ابن تيمية بدعته وقصد التوصل بها الى غيرها ان تمت له وقد اجتمعت الامة على وقوع الطلاق المعلق سواء كان على وجه اليمين او لا على وجه اليمين هذا مما لم يختلفوا فيه واجماع الأمة معصوم من الخطا وكل من قال بهذا من العلماء لم يفرق بين المعلق على وجه اليمين او لا على وجه اليمين بل قالوا الكل يقع وقد لبس ابن تيمية بوجود خلاف في هذه المسألة وهو كذب وافتراء وجرأة منه على الاسلام وقد نقل اجماع الامة على ذلك ائمة لا يرتاب في قولهم ولا يتوقف في صحة نقلهم فممن نقل ذلك الامام
Shafi 12
الشافعي رضي الله عنه وناهيك به فانه الامام القرشي الذي يملأ طبق الارض علما " وثناء امام هذا المبتدع الذي ينتسب اليه وهو بريء من بدعته - وهو الامام احمد رضي الله عنه - على الشافعي معروف وتبعيته له ومشيه في ركابه وأخذه عنه مشهور، وممن نقل الاجماع على هذه المسالة الامام المجتهد أبو عبيد وهو من ائمة الاجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهما وكذلك نقله أبو ثور وهو من الائمة ايضا ، وكذلك نقل الاجماع على وقوع الطلاق الامام محمد بن جرير الطبري وهو من ائمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة ، وكذلك نقل الاجماع الامام أبو بكر بن المنذر ونقله ايضا الامام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد بن نصر المروزي ونقله الامام الحافظ ابو عمر بن عبد البر في كتابيه " التمهيد" و" والاستذكار" وبسط القول فيه على وجه لم يبق لقائل مقالا ونقل الاجماع الامام ابن رشد في كتاب "المقدمات" له ونقله الامام الباجي في " المنتقى" وغير هؤلاء من الائمة ، وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق وهذا مستقر بين الامة والامام احمد اكثرهم نصا عليها فانه نص على وقوع الطلاق ونص على ان يمين الطلاق والعتاق ليست من الإيمان التى تكفر ولا تدخل فيها الكفارة وذكر العتق وذكر الاثر الذي استدل به ابن تيمية فيه وهو خبر ليلى بنت العجماء الذي بنى ابن تيمية حجته عليه وعلله ورده وأخذ بأثر آخر صح عنده وهو
Shafi 13
اثر عثمان بن حاضر وفيه فتوى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجابر رضي الله عنهم بايقاع العتق على الحانث في اليمين به ولم يمعل بأثر ليلى بنت العجماء ولم ببق في المسالة إلباسا رضي الله عنه بل كان قصده الحق ، واذا كانت الامة مجمعة على وقوع الطلاق لم يجز لأحد مخالفتهم فان الاجماع من اقوى الحجج الشرعية وقد عصم الله هذه الامة عن ان تجتمع على الخطا فان اجماعهم صواب وقد اطلق كثير من العلماء القول بأن مخالف اجماع الامة كافر وشرط المفتي ان لا يفتي بقول يخالف اقوال العلماء المتقدمين واذا افتى بذلك ردت فتواه ومنع من اخذ بقوله، ودل الكتاب والسنة على انه لا يجوز مخالفة الاجماع قال الله تعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا" فقد توعد على مخالفة سبيل المؤمنين واتباع غير سبيلهم بهذا الوعيد العظيم، ومخالف اجماع الامة متبع غير سبيل المؤمنين فكيف يعتبر قوله ، وقال تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" والوسط الخيار والشهداء على الناس العدول عليهم فلا يجتمعون على الخطأ ، وقال تعالى " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر هذا يدل على ان مجموعهم يامرون بكل معروف وينهون عن كل المنكر فلو اجمعوا على الخطا لامروا ببعض المنكر ونهوا عن بعض المعروف ومحال ان يتصفوا بذلك وقد وصفهم الله يخلافه ، وقد
Shafi 14
ورد في الاحاديث ما يدل مجموعه على عصمة جماعتهم عن الخطا والضلال والمسالة مبسوطة مقررة في موضعها والقصد هنا ان الامة مجتمعة على وقوع هذا الطلاق فمن خالفهم فقد خالف الجماعة وخالف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بلزوم الجماعة وكان الشيطان معه فان الشيطان مع الواحد . ثم ان هذا المبتدع ابن تيمية ادعى ان هذا القول قال به طاوس واعتمد على نقل شاذ وجده في كتاب ابن حزم الظاهري "عن مصنف عبدالرزاق" ولم ينقل هذا القول عن احد بخصوصه في الطلاق الا عن طاوس كما ذكر وعن اهل الظاهر اما طاوس فقد صح النقل عنه بخلاف ذلك وقد افتى بوقوع الطلاق في هذه المسالة ونقل ذلك عنه بالسند الصحيح فى عدة مصنفات جليلة منها كتاب "السنن" لسعيد بن منصور ومنها مصنف عبد الرزاق * الذي ادعى المخالف ان النقل عنه بخلاف ذلك وقد وضح كذبه في هذا النقل فان المنقول في مصنف عبد الرزاق عن طاوس خلاف هذا الذي نسبه اليه ابن تيمية والاثر الذي نقله عن طاوس انما ذكره عبد الرزاق في طلاق المكره فلبس ابن حزم الظاهري النقل وتبعه هذا المبتدع ، وعن كلام طاوس لو صح عنه اجوبة كثيرة غير هذا مبينة في كتابنا (الرد على ابن تيمية) واما اهل الظاهر فيقولون ان الطلاق المعلق كله لا يقع ولم يقل ابن تيمية بذلك وهم مخالفون للاجماع لا يعتبر قولهم ، ويقولون ان الطلاق المعلق على وجه اليمين لا كفارة فيه ولم يقل ابن تيمية
Shafi 15
بذلك فهو مخالف لهم في بدعته متمسك بقولهم الذي لا يعتبر ، وقد قال ابن حزم ان جميع المخالفين له لا يختلفون في ان اليمين بالطلاق والعتق لا كفارة في حنثه بل إما الوفاء بالمحلوف عليه او باليمين ، وقال هذا المبتدع ان هذه المسألة لم يتكلم فيها الصحابة لانه لم يكن يحلف بالطلاق في زمانهم : ثم بعد هذا القول نسب الى الصحابة رضوان الله عليهم انهم يقولون بقوله فكذب اولا وآخرا اما كذبه اولا فلأنه قال ان الصحابة لم تتكلم في هذه المسالة وليس كذلك ففي صحيح البخاري فتوى ابن عمر رضي الله عنهما بالايقاع قال البخاري قال نافع طلق رجل امرأته البتة ان خرجت فقال ابن عمر ان خرجت فقد بنت منه وان لم تخرج فليس بشيء وهذه فتوى ظاهرها في هذه المسألة بايقاع الطلاق البتة ان خرجت وهو وقوع المعلق عليه وبه يحصل الحنث فأوقع ابن عمر الطلاق على الحالف به عند الحنث في يمينه، ومن مثل ابن عمر رضي الله عنهما في دينه وعلم ه وزهده وورعه وصحة فتاويه ، ولا يعرف احد من الصحابة خالف ابن عمر في هذه الفتوى ولا انكرها عليه ، وقد قضى علي رضي الله عنه في يمين بالطلاق بما يقتضي الايقاع فانهم رفعوا الحالف إليه ليفرقوا بينه وبين الزوجة بحنثه في اليمين فاعتبر القضية فرأى فيها ما يقتضي الاكراه فرد الزوجة عليه لأجل الاكراه وهو ظاهر في انه يرى الايقاع لولا الاكراه ، وفي " سنن البيهقي" بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته ان فعلت
Shafi 16
كذا وكذا فهي طالق ففعلته قال هي واحدة وهو أحق بها فاوقع الطلاق واحدة عند الحنث بمقتضى اللفظ ولم يوجب كفارة، ومن مثل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قال النبي صلى لله عليه وسلم "كنيف ملئ علما" وقال "من اراد ان يقرأ القرآن غضا كما انزل فليقرأ على قراءة ابن ام عبد" ولم يخالفه آحد من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك ، وقول الصحابة حجة شرعية في قول جمهور العلماء وقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم انهم كالنجوم يهتدى بهم فلا هدي اتم من هديهم ، وأما كذبه ثانيا فلانه قال لم يكن يحلف بالطلاق في عهد الصحابة وهذه وقائع فيها الحلف بالطلاق ونقلت ايضا حكومة اخرى وقعت عند علي رضي الله عنه في رجل حلف بالطلاق انه لا يطا امرأته حتى يعظم ولده بل نقل عن بعض الصحابة انه حلف بالطلاق وهو ابو ذر رضي الله عنه لما سالته امرأته عن الساعة التي يستجاب الدعاء فيها يوم الجمعة واكثرت فقال لها زيغ الشمس يشير الى ذراع فان سألتني بعدها فأنت طالق فحلف عليها بالطلاق ان لا تعاود المسالة، وفي ذلك آثار كثيرة غير هذا مذكورة في المصنف المبسوط" وأما كذبه آخرا فلأنه نسب الى الصحابة رضوان الله عليهم القول بأن الطلاق لا يقع وأنه تجب الكفارة مع اعترافه ان ذلك لم يقع في عهدهم وهذه مكابرة قبيحة وكذب صريح وقد قالت عائشة رضي الله عنها كل يمين وان عظمت ليس فيها طلاق ولا عتاق ففيها كفارة يمين فاستثنت يمين الطلاق
Shafi 17
ويمين العتاق من الكفارة ، وهذا الاثر نقله ابن عبد البر في "التمهيد) وفي "الاستذكار " بهذا اللفظ مسندا ، ونقله هذا المبتدع فاسقط منه قولها ليس فيها طلاق ولا عتاق لتوهم ان عائشة رضي الله عنها تقول بالكفارة في يمين الطلاق والعتق فويل لهم مما كتبت ايديهم وويل لهم مما يكسبون فهذا عصر الصحابة لم ينقل فيه الا الافتاء بالقوع وأما التابعون رضي الله عنهم فأئمة العلم منهم معدودون معروفون وهم الذين تنقل مذاهبهم وفتاويهم ولم ينقل هذا المبتدع عن احد منهم بعينه نصا في هذه المسالة غير ما نسبه الى طاوس مع انه يدعي اجماعهم على قوله مكابرة كما فعل في الصحابة ، وقد نقلنا من الكتب المعروفة الصحيحة كجامع عبد الرزاق" ومصنف ابن ابي شيبة" و" سنن سعيد بن منصور" و " السنن الكبرى للبيهقي" وغيرها فتاوى التابعين أئمة الاجتهاد وكلهم بالاسانيد الصحيحة انهم اوقعوا الطلاق بالحنث في اليمين ولم يقضوا بالكفارة وهم : سعيد بن المسيب أفضل التابعين والحسن البصري وعطاء والشعبي وشريح وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد وقتادة والزهري اوابو مخلد والفقهاء السبعة فقهاء المدينة وهم : عروة بن الزبير والقامم ابن محمد بن ابي بكر وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد وأبو بكر بن عبد الرحمن وسالم بن عبد الله بن عمر وسليمان بن يسار ، وهولاء اذا اجمعوا على مسالة كان قولهم مقدما على غيرهم ، وأصحاب ابن مسعود السادات وهم : علقمة
Shafi 18
والاسود ومسروق وعبيدة السلماني وأبو وائل شقيق بن سلمة وطارق ابن شهاب وزر بن حبيش وغير هؤلاء من التابعين مثل ابن شبرمة وأبو عمرو الشيباني وابو الاحوص وزيد بن وهب والحكم وعمر بن عبد العزيز وخلاس بن عمرو كل هؤلاء نقلت فتاويهم بايقاع الطلاق لم يختلفوا في ذلك ، ومن هم علماء التابعين غير هؤلاء فهذا عصر الصحابة وعصر التابعين كلهم قائلون بالايقاع ولم يقل احد ان هذا مما يجري به الكفارة، وأما من بعد هذين العصرين فمذاهبهم معروفة مشهورة كلها تشهد بصحة هذا القول كابي حنيفة وسفيان الثوري ومالك والشافعي واحمد واسحق وابي عبيد وابي ثور وابن المنذر وابن جرير الطبري وهذه مذاهبهم منقولة بين أيدينا ولم يختلفوا في هذه المسالة فاذا كان الصدر الاول وعصر الصحابة رضي الله عنهم وعصر التابعين هم باحسان بعدهم وعصر تابعي التابعين لم ينقل عنهم خلاف في هذه المسالة" وهذا المبتدع يسلم ان بعد هذه الاعصار الثلاثة لم يقل امام مجتهد بخلاف قولنا فكيف يسوغ مخالفة قول استقر من زمن النبي صلى الله عليه وسلم والى الآن بقول مبتدع يقصد نقض عرى الاسلام ومخالفة سلف الامة أكان الحق قد خفى عن الامة كلها في هذه الاعصار المتتابعة حتى ظهر هذا الزائغ بما ظهر به هيهات هيهات وهذا واضح لذوي البصائر وأرباب القلوب المنورة بنور اليقين افمن شرح الله ضدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله
Shafi 19
أولئك في ضلال مبين ولكن قد عميت البصائر والناس سراع الى الفتنة راغبون في المحدثات وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كل محدثة ضلالة" .
(الفصل الثاني) في كلام اجمالي يدفع الاستدلال المذكور
وذلك ان الناس على قسمين : عالم مجتهد متمكن من استخراج الاحكام من الكتاب والسنة أو عامي مقلد لأهل العلم ، ووظيفة المجتهد اذا وقعت واقعة ان يستخرج الحكم فيها من الادلة الشرعية ووظيفة العامي ان يرجع الى قول العلماء ، وليس لغير المجتهد اذا سمع ىية أو حديثا أن يترك به اقوال العلماء فانه اذا رآهم قد خالفوا ذلك مع علمهم به علم انهم انما خالفوه لدليل دلهم على ذلك وقد قال الله تعالى " فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون" وقال ولو ردوه الى الرسول والى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستبطونه منهم" وللمفسرين في الآية كلام ليس هذا موضع ذكره والقصد ان غير العالم المجتهد ولا سيما العوام اذا سمعوا آية فيها عموم او اطلاق لم يكن لهم ان ياخذوا بذلك العموم او الاطلاق الا بقول العلماء ولا يعمل بالعمومات والاطلاقات الا من عرف الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والحقيقة والمجاز فاذا سمع قوله تعالى " او مما ملكت ايمانكم" وأخذ
Shafi 20
بعمومه في الجمع بين الاختين المملوكتين كان مخطئا فاذا سمع معه قوله تعالى " وان تجمعوا بين الاختين" قال هذا يعم الاختين المملوكتين والمنكوحتين فيتحير بأي العمومين يعمل فاذا سمع قول عثمان رضي الله عنه أحلتها آية وحرمتها آية والتحريم أولى علم ان العمل على دليل التحريم وله ترجيحات أخر غير هذا يعرفها العلماء فيعلم العامي انه لا يمكنه الاستقلال بأخذ الحكم من الكتاب وكذلك اذا سمع الادلة الدالة على تحريم اللواط والتأكيد وسمع قوله تعالى " او ما ملكت أيمانكم" فقد يخطر له ان هذا يقتضي حل المملوك ، وقد خطر ذلك لبعض الجهال فاذا أخذ بهذا العموم ضل ، وقد قال بعض اصحاب الشافعي رضي الله عنه ان من تاول هذا التاويل سقط عنه الحد وأخطا في هذا القول خطا عظيما ، وكذلك اذا سمع ان قائلا قال يحل وطء الزوجة في الدبر مستندا الى قوله تعالى " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم انى شئتم" ظن ذلك صحيحا وان القرآن دل على حل ذلك وهو مخطئ لان هذا القول شاذ يقال انه رواية عن مالك ولم يصح والمالكية ينكرونه وصح عن مالك تحريم ذلك والآية دالة على التحريم بخلاف ما يظن الجهال فان الحرث لا يكون الا في موضع البذر، والحديث الصحيح في سبب نزول الآية يوضح المعنى وهو ان اليهود كانوا يقولون ان الرجل اذا اتي امراته في قبلها من دبرها جاء الولد احول فأنزل الله هذه الآية "نساؤكم حرث لكم
Shafi 21
فاتوا حرثكم أنى شئتم" اي كيف شئتم ، وفي الحديث الصحيح "في صمام واحد" وفي لفظ " غير ان لا تاتوا في غير الماتى" فاذا لم يجمع الالسان بين الادلة وبين الكتاب والسنة ويعرف سبب نزول الآية ومحملها لا ينبغي ان يأخذ بظاهر من فهمه لا يعرف ما وراءه واذا سمع العامى الحديث "من شرب الخمر فاجلدوه" الى ان قال في الرابعة " فان شربها فاقتلوه" فعمل به وقتل الشارب في الرابعة كان مخطئا لان الامة اجمعت على ترك العمل بهذا الحديث وكذلك اذا سمع حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في المدينة من غير خوف ولا مطر وقد رواه مسلم من طرق عدة فيقول العامي بهذا الحديث ولا يعلم ان الامة أجمعت على ترك العمل به الا ما يروى عن ابن سيرين انه يجوز الجمع في الحضر للحاجة، وقد روى ابو العالية ان عمر رضي الله عنه كتب الى ابي موسى الاشعري رضي الله عنه : واعلم ان جمع ما بين الصلاتين من الكبائر إلا من عذر ، وقد اخرج هذين الحديثين الترمذي وقال في آخر كتابه : ليس في كتابي هذا حديث ترك العمل به بالاجماع سوى حديثين فذكر هذين الحديثين ، وكذلك حديث ابن عباس كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابي بكر وصدر من خلافة عمر الثلاث واحدة فلما رآهم عمر قد تتابعوا فيه قال أجيزوهن عليهم، وهذا الحديث متروك الظاهر بالاجماع ومحمول عند العلماء على
Shafi 22
معان صحيحة ، وقد صحت الرواية عن ابن عباس بخلافه من وجوه عدة فاذا سمعه العامي وحده وقف عنده ولم يعلم انه معارض بما يفعه ومردود الظاهر باجماع الامة، وأحاديث المتعة صحيحة وقد صح فعلها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وضح النهي عنها فابيحت مرتين ونسخت مرتين فاذا سمع العامي الاحاديث الصحيحة باباحتها ظن انها مباحة ولم يعلم ان ذلك نسخ ، وقد وقع هذا للمأمون وهو خليفة فنادى بتحليل المتعة فدخل عليه القاضي يحيى ابن اكثم وقال له احللت الزنا وعرفه الحديث الصحيح في النسخ ولم يكن سمعه فنادى من وقته بتحريم المتعة ، وحديث قدامة بن مظعون رضي الله عنه صحيح وكان قد شرب الخمر فرفع الامر الى عمر رضي الله عنه فاعترف وذكر انه انما شربها متأولا قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" فرد عليه عمر وقال أخطأت التأويل ألم يقل الله سبحانه "اذا مااتقوا وامنوا" ولم يجعل تاويله موجبا لاسقاط الحد بل حده لانه لم يستنبط الحكم استنباطا صحيحا ولكنه اخذ بعموم نفي الجناح في كل مطعوم وغفل عن القيد المخصص وهو قوله "اذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات" الى آخر الآية، وهذا يوضح ان العمل بالعموم بمجرده من غير نظر في ادلة التخصيص والتقييد خطا من العامل به ، وأمثلة ذلك كثيرة لا نطيل بذكرها ، والآية التي احتج بها هذا المبتدع وهي قوله تعالى "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم
Shafi 23
الأيمان" الى آخر الآية والآية الاخرى وهي قوله تعالى "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" اذا سمعها العامي يظن دخول يين الطلاق في ذلك وقال هي يمين والله جعل في كل يمين كفارة واعتقد صحة قول هذا المبتدع وتلبس عليه باطله فاذا اعترف انه لا ينبغي له ان يعمل بالعموم حتى يعرف هل له مخصص ويعرف ما يعارضه من الادلة فوض الأمر الى أهله وعلم ان فوق كل ذي علم عليم ، وكذلك لا ينبغي ان يأخذ بأدلة الكتاب حتى يعلم ما في السنة مما ببينه أو يخصصه أو يقيده قال الله تعالى "وأنزلنا اليك الكتاب لتبين للناس ما نزل اليهم " وقال صلى الله عليه وسلم " لا ألفين احدكم متكئا على أريكته يأتيه الامر من أمري فيقول لا ادري ما سمعنا في كتاب الله اتبعناه " الحديث ، والحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الانصار وأمرهم ان يسمعوا له ويطيعوا فاغضبوه في شيء فقال اجمعوا لي حطبا فجمعوا له ثم قال أوقدوا لي نارا نأوقدوا ثم قال ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تسمعوا لي وتطيعوا قالوا بلى قال فادخلوها فنظر بعضهم الى بعض وقالوا انما فررنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا " وقال "لا طاعة في معصية الله انما الطاعة في المعروف"
Shafi 24
ولم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم في الاخذ باطلاق قوله "اسمعوا له وأطيعوا" لما دلت الادلة على ان الطاعة انما تكون فيما وافق الحق ولا طاعة في المعصية مع انهم قد لا يكونون ممن سمع تلك الادلة فان الممتنعين من الدخول فيها لم يأخذوا الا بانهم انما أسلموا ليسلموا من النار فكيف يومرون بالدخول فيها فقيدوا اطلاق الامر بالسمع والطاعة بدليل قياسي ومع عدم علمهم بتلك الادلة لم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بل حكم باستمرارهم بالنار لو دخلوها لتقصيرهم في البحث عن الادلة في محل الاشكال فمن لم يعرف الكتاب والسنة وأقوال الائمة لم يكن له ان يقف عند دليل يسمعه من غير امام يرشده وقد نقل عن جماعة من الائمة انه ليس في القرآن عموم الا وقد دخله التخصيص الا قوله تعالى "والله بكل شيء عليم" وقوله تعالى "كل شيء هالك الا وجهه" اذا اريد بالوجه الذات والصفات المقدسة حتى قالوا في قوله " خالق كل شيء" ليس محمولا على عمومه بل هو مخصوص فان الله سبحانه شيء وليس مخلوقا تعالى عن ذلك ، وفي هذا ومثله كلام لا يليق بهذا الموضع فعلمنا من ذلك ان قوله تعالى " ولكن يواخذكم بما عقدتم الايمان الآية وقوله "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" لا يعمل بعمومه حتى ننظر فيما يخصصه أو يعارضه من كتاب أو سنة فاذا تحقق المراد منه وأي مخرج خرج تبين ما فيه من الدليل أو عدمه، ولكن هذا
Shafi 25