Duroos of Sheikh Yusuf Al-Ghafis
دروس الشيخ يوسف الغفيص
Nau'ikan
المسألة الخامسة: عدم التلازم بين كون المقالة بدعة وبين تسمية القائل مبتدعًا على الإطلاق
وتبع لهذا التقرير أيضًا: عدم التلازم بين كون المقالة من مقالة المخالفين من أهل القبلة كفرًا، وبين كون القائل بها كافرًا.
لقد ذكر النبي ﵌ أن أمته ستختلف وستفترق، وبيِّن ﵌ فيما تواتر عنه: أنه (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ...)، وهذا حديث ثابت في الصحيحين وغيرهما، أما حديث: (افترقت اليهود) إلى قوله: (وستفترق هذه الأمة ...)، فهو حديث تكلَّم فيه بعض أهل العلم، وصححه بعضهم، وسواء صح أو لم يصح فإن النبي ﷺ أشار إلى الطائفة المنصورة في حديث صحيح متفق عليه متواتر عند الأئمة.
والمخالفون لسنة النبي ﷺ من أهل القبلة -أي: من المسلمين- عندهم مخالفات سمَّاها أئمة أهل السنة والجماعة من الفقهاء والمحدثين: بدعة، وعندهم بدع ربما سمَّاها بعض الأئمة كفرًا، فهل كل قول قال السلف أو الأئمة: إنه بدعة، يلزم منه أن من قال به يكون مبتدعًا، أو يسمى مبتدعًا تسمية مطلقة، ولا ينسب إلى السنة والجماعة؟
الجواب: ليس هناك تلازم، بمعنى: أن الإنسان قد يقول بدعة فيسمَّى مبتدعًا، كمن قال بنفي صفات الله، أو من قال: إن القرآن مخلوق، فهذا قال بدعة، ويسمَّى مبتدعًا؛ وذلك لأن هذه البدعة التي خالف فيها تُعدُّ من البدع المغلظة، التي فيها مفارقة بينة لمذهب أهل السنة والجماعة.
ومن ناحية أخرى: قد يقول بعض الناس -ولو من أهل العلم- بدعةً أو يفعل ما هو بدعة، من باب الاجتهاد، وهو لا يعلم أن هذا القول أو الفعل بدعة، فيمكن أن يصحح فعله، ويمكن أن يقال: إن فعله أو قوله بدعة، فلا جدل أن يسمَّى ما فعله بدعة بالدليل الشرعي الصحيح، لكن لا يجوز أن يسمى هذا القائل مبتدعًا، وذلك كقول حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة رحمهما الله، فلا يلزم من ذلك أن نسميهم من أئمة أهل البدع، لكون ما قالوه بدعة، مع أنه قد اتفق الأئمة أن كلمتهم بدعة، لكن لم يقل أحد من الأئمة: إنهم من المبتدعين الخارجين عن السنة والجماعة، إلا أئمة بلغتهم عن أبي حنيفة بلاغات لا تصح، فحكموا عليه بمجموع هذه البلاغات، التي ظنوا أنها بلاغات صحيحة.
إذًا لا تلازم بين هذا وهذا.
ومن ذلك أيضًا: أن الإمام أحمد قال -كما في رواية أبي طالب -: (من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع).
وصح عن البخاري أنه جعل اللفظ بالقرآن مخلوقًا، ومقصود البخاري: أن فعل العبد مخلوق، وهذا مقصود صحيح، لكن كلمته وحرفه ليس مناسبًا، فهل نقول: إن البخاري جهمي، أو يسمى جهميًا؛ لأن الإمام أحمد يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي؟ الجواب: لا، بل لا يجوز أن نقول: إن البخاري مبتدع، أو ما إلى ذلك.
فهذه مسائل لا بد فيها من الفقه، ولا سيما في النقل عن الأئمة ﵏.
ومثل ذلك مسألة الكفر:
فقد قال الأئمة عن كثير من المسائل الكبرى في مسائل أصول الدين: إن القول بخلافها كفر، كقولهم مثلًا: إن إنكار العلو كفر، والقول بخلق القرآن كفر، وتعطيل الصفات كفر
فهل معنى هذا القول الذي تواتر عن الأئمة، ونجده في كلام الأئمة الأربعة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم- هل معناه أن القائلين بذلك يسمون عند هؤلاء كفارًا، ويحكم عليهم بالكفر بأعيانهم، كما يحكم على عبدة الأصنام والأوثان والمشركين وغيرهم؟ الجواب: لا.
ولذلك نجد أن كتب السنة مليئة بالنقل عن الأئمة المتقدمين: أن القول بخلق القرآن كفر، ولكن لا نجد في كتبهم التصريح بأن فلانًا وفلانًا -مع كثرة من قال بخلق القرآن من الطوائف- كفار بأعيانهم.
قال الإمام ابن تيمية ﵀: (والإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، وإن تواتر عنهم تكفير الجهمية، إلا أنهم لم يكونوا مشتغلين بتكفير أعيانهم؛ لأن كون المقالة من مقالات الغالطين من أهل القبلة كفرًا، لا يلزم أن كل من قال بها أن يكون كافرًا، وفرق بين المقالة التي يكون موجبها الرد والإنكار، وبين المقالة التي تقع عن تأويل).
وهل يعني هذا أن من طريق الأئمة أنهم لا يكفرون المعين؟ الجواب: لا، ولكنهم يقولون: إنه لا يُحكم بكفره بعينه إلا إذا علم قيام الحجة عليه، فإن قال قائل: فإن لم نعلم قيام الحجة عليه؟ نقول: إذا لم نعلم قيام الحجة عليه قلنا: قوله كفر، والقائل لا يعد كافرًا، بل يعد على الأصل، وتجري عليه أحكام المسلمين.
فإن تُردد في شأن القائل: أهو كافر، أم ليس كافرًا؟ فهذا التردد ليس إشكالًا، فإن بعض الناس قد يكون حاله عند الله تعالى على غير حاله في حكم الناس في الدنيا، فقد قال الله تعالى لنبيه: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة:١٠١] وبعض الناس يظن أن من ضروريات ديانته أن يعرف حكم كل واحد من بني آدم: هل هو مسلم أو كافر؟ إن هذا الحكم ليس ضروريًا، ولو كان ضروريًا لفقهه الصحابة، بل إن النبي ﵊ لم يكن يعلم جميع المنافقين في المدينة وممن حولهم من الأعراب، بنص القرآن: ﴿لا تَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة:١٠١] وحتى من علمهم الرسول من أسماء المنافقين لم يبينهم لكل الصحابة، ولم يقل: إن فلانًا وفلانًا من المنافقين؛ بل ظل ذلك سرًا بينه وبين حذيفة، مع أنهم كانوا مختلطين بهم.
ولذلك يقول ابن تيمية: (ولما أجرى رسول الله ﷺ أحكام المسلمين على المنافقين، فإجراؤها على أهل البدع، الذين لم يُحكم بكفرهم بأعيانهم، وإن ضلوا في بدعهم وفارقوا السنة والجماعة، أو حتى أتوا قولًا كفريًا لم يحكم عليهم بموجبه، فإجراء هذه الأحكام على هؤلاء من باب أولى).
1 / 15