104

Duroos of Sheikh Muhammad Isma'il Al-Muqaddim

دروس الشيخ محمد إسماعيل المقدم

Nau'ikan

تأثير سوء الخلق في الصد عن سبيل الله
وبمناسبة هذه الكلمة التي قالها أبو سنان لـ سعيد بن جبير: المجوسي يوليني من نفسه ويسلم علي أفأرد عليه؟ فقال: سألت ابن عباس ﵄ عن نحو من ذلك، فقال: لو قال لي فرعون خيرًا لرددت عليه.
يعني: فإذا كان الإحسان في مقابلة إحسان كمن أدى إليك خدمة معينة فلا مانع من أن تشكره بأن تقول له: شكرًا لك، حتى لا يكون دعاءً وهو لا يستحق ذلك، لكن اذكر له أي عبارة فيها نوع من المجاملة؛ فهذا الخلق هو الذي يليق بالمسلم.
وأتذكر حادثة حصلت بسبب سوء فهم بعض الإخوة لهذا الأمر؛ لأنه كان يظن أن حسن الخلق مع الكافر تنازل في الدين أو ضعف في الإيمان، وذلك أني كنت في بريطانيا، فحكى لي بعض الإخوة الأفاضل قصة حصلت من شابين ضلا الطريق في منطقة معينة، وكانا يبحثان عن العنوان، والناس هناك فيهم صفة جيدة في موضوع دلالة الناس الذين يبحثون عن الطريق مثلًا، أو يحتاجون معرفة شيء معين.
المهم أنهما سألا رجلًا كبيرًا في السن عن العنوان أو المكان الذي يبحثان عنه، فالرجل لم يكتف بأن شرح لهما خريطة المكان أو الموضع الذي يطلبانه، وإنما سار معهما مسافة كبيرة واصطحبهما حتى أوصلهما إلى المكان الذي يريدان، فوقف الرجل فإذا بالأخوين ينصرفان عمدًا، فالرجل استنكر هذا الموقف جدًا، فأراد أن يعاتبهما عتابًا يسيرًا فقال لهما: عندنا نحن معشر الإنكليز أن من أدى إلينا معروفًا فإننا نقول له: نشكرك، وكأنه يريد أن يقول: فماذا عندكم فالأخ قال له: أنا أعرف هذا جيدًا، وأنا متعمد ألا أقول لك: شكرًا؛ لأنك كافر! إلى آخر هذا الأسلوب، وبلا شك أن هذا تنفير.
وأنا لا أريد أن أخرج عن الموضوع؛ لأننا حتى الآن لا نزال في المقدمة، ولكن بلا شك أن سوء الخلق بالذات يكون له تأثير ضار في الصد عند سبيل الله ﷿، فلا تظن أنك إذا فعلت ذلك أنك في عافية، قال الله ﷿ في أواخر سورة النحل: ﴿وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل:٩٤]، فهذه آية في غاية الروعة في الحث على حسن الخلق حتى مع الكفار، فقوله: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ)، أي: إياكم أن تستغلوا الأيمان والحلف باسم الله ﷾ وتجعلوها وسيلة لخداع الناس، فالناس حينما يرونكم تحلفون وتعظمون اسم الله ﷿ يثقون أنكم صادقون فيما تريدون، وأنكم ملتزمون بما تحلفون عليه، فإياكم أن تستغلوا الأيمان والحلف وتجعلوها سبيلًا للإفساد بينكم ونقض العهود والمواثيق.
وقوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، أي: أن أول ضرر أنه تزل قدم بعد ثبوتها، فبعدما كنتم ثابتين على الصراط المستقيم تزلون وتنحرفون عنه، وهذا انحراف يخصكم أنتم في أنفسكم، وليس هذا فحسب، بل تفقدون اسم الإيمان والتقوى والاستقامة إلى الاعوجاج والزلل، وأيضًا تذوقون السوء، ولكم عقاب عند الله ﷿؛ لأنكم بسوء خلقكم ونقضكم العهود واتخاذ الأيمان للإفساد وخداع الناس تنفرون عن الدين، فالكفار إذا رأوكم تفعلون ذلك قالوا: لو كان في دينهم خيرًا لأدبهم، ولزجرهم عن هذا الشر الذي فعلوه وعن هذه الخديعة والخيانة، فهذا يترتب عليه تشويه الدين في نظر هؤلاء الناس الذين يفترض أنكم تدعونهم بسلوككم وأخلاقكم أكثر مما تدعونهم بأقوالكم، فيترتب على ذلك أن ينفر هؤلاء الناس عن الإسلام، وبالتالي ستبوءون أنتم بوزر صدهم عن سبيل الله؛ ولذلك يقول ﵎: ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل:٩٤] أي: بسوء الخلق.
وفي واقعة ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه ما يدل على أثر حسن الخلق؛ فإنه كان شديد العداوة للإسلام وللنبي ﷺ، وكان النبي ﵊ خير معلم على وجه الأرض، فأتي بـ ثمامة بعد أن أسر، فأمر به أن يوثق ويقيد في سارية من سواري المسجد، وبقي على ذلك ثلاثة أيام.
إنها حكمة عظيمة من خير معلم وخير مربٍ في تاريخ البشر كلهم أجمعين ﵊، هذه الحكمة هي أن ثمامة بن أثال ربط في المسجد حتى يعلم أن المسجد هو مجلس الوزراء وهو مجلس الشعب ومجلس الشورى وغرفة العمليات ومكان العبادة ومكان التدريب على الجهاد، وكل شيء كان يتم في المسجد، فأراد أن يلقنه درسًا في كيفية أخلاق المسلمين، وفي كيفية تعامل الصحابة مع بعضهم البعض، وكيف يعبدون الله؟ وكيف يحيي بعضهم بعضًا؟ وهكذا، فإنه إذا رأى هذا فسيكون سبيلًا إلى اقتناعه بالإسلام.
وبالفعل أن هذا هو الذي تم، (فلما سأله أول يوم: كيف تجدك يا ثمامة! قال: إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وفي اليوم الثاني قال: إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وفي اليوم الثالث عفا عنه النبي ﵊ وأطلقه، فذهب ثمامة إلى مكان معين فاغتسل، ثم أتى وشهد شهادة الحق، رضي الله تعالى عنه).
الشاهد من هذا: أنه لولا أنه عاش وانغمس في مجتمع الصحابة ورأى أخلاقهم وسلوكياتهم لما كان انجذب إلى الإسلام.
يقول ﵊: (وخالق الناس بخلق حسن) أي: كل الناس، وليس فقط المسلمين؛ فحسن خلق المسلم -كما سنتناوله إن شاء الله تعالى- يتعدى حتى يشمل البهائم والحيوانات.

6 / 7