* الدرر الملتقطة
* في تفسير الآيات القرآنية
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد حمد من صيرنا من امة نبيه ، وشيعة عليه ، واحبة ذرية وليه ، الذين جعل مودتهم اجر الرسالة ، ومحبتهم في الثواب بمثابة الشهادة ، صلى الله عليهم وعلى من انتسب بالمودة اليهم.
فهذه فوائد وملتقطات تفسيرية ، التقطها من مجموعة ما وصل الينا من اثار المحقق المدقق العلامة المتتبع الشيخ محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الاصفهاني الخواجوئي قدس الله سره.
وترى في هذه الفوائد التفسيرية : مباحث لغوية ، وفقهية ، وكلامية ، وحكمية ، وحديثية ، وتفسير الآيات الاحكامية ، والتعرض لتفسير الآيات الواردة في اهل البيت عليهم السلام. وفيها مناقشة لاراء بعض المفسرين ، كالزمخشري والبيضاوي وغيرهما.
وقبل الخوض في المقصود نقدم خمس فوائد هامة في شأن القرآن الكريم ، وهي كلها للمؤلف قدس سره ، واليك نص عباراته والفاظه الى نهاية الكتاب :
Shafi 31
* 1 فائدة
[ القرآن افضل من كل شيء دون الله تعالى ]
قد بلغ القرآن في عظم شأنه ورفعة مكانه الى ان ورد انه افضل من كل شيء دون الله.
قال في جامع الاخبار في الفصل التاسع والعشرون في فضيلة القرآن وقراءته ، قال عليه السلام : القرآن افضل من كل شيء دون الله عز وجل ، فمن وقر القرآن فقد وقر الله ، ومن لم يوقر القرآن ، فقد استخف بحرمة الله ، وحرمة الله على القرآن كحرمة الوالد على ولده (1).
اقول : والله يعلم ، لعل المراد بتوقيره اعتقاد انه افضل كل شيء دون الله ، او العمل بما فيه من الاحكام ، والتصديق بحقية ما يشتمل عليه من الاخبار.
او احترامه بترك خلاف الادب بالنسبة اليه ، والى ما يتعلق به من الجلد والغلاف.
او تعظيمه بالقيام له عند حضوره ، وترك القارىء توقير غيره بانحناء وشبهه ، داخلا او خارجا ، ظاهرا او ناظرا.
وأما اذا كان الداخل او الخارج حاملا للقرآن ، فان كان الغرض الاصلي توقيره ، فالظاهر عدم الحرمة.
* 2 فائدة
[ تجلى الله لعباده في كلامه ]
قال الصادق عليه السلام : لقد تجلى الله لعباده في كلامه ، ولكن لا يبصرون (2).
Shafi 32
اقول : معناه انه سبحانه لقنهم في كتابه العزيز ادلة وجوده ووحدته وذاته وصفاته ووعدهم واوعدهم ، وبشرهم وانذرهم بما ينبغي ان يبشر وينذر.
وامرهم بالطاعات ، ونهاهم عن السيئات ، ودلهم على الحسنات ، وارشدهم الى طريق النجاة ، وحذرهم عما يؤدي الى الهلكات.
وبالجملة هداهم النجدين ، طريقي الشرور والخيرات ، فكأنه بذلك تجلى لهم في كلامه. ولكنهم لعدم تدبرهم فيه وتفكرهم لا يبصرون ، كما قال « افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها » (1).
يدل على ذلك كلام سيدنا امير المؤمنين سلام الله عليه في بعض خطبه : الحمد لله الذي بعث محمدا بقرآن قد بينه ، واحكمه ، ليعلم العباد ربهم بعد ان جهلوه ، وليقروا به بعد ان جحدوه ، وليثبتوه بعد ان انكروه ، فتجلى سبحانه لهم في كتابه ، من غير ان يكونوا رأوه بما اراهم من قدرته ، وخوفهم من سطوته (2).
* 3 فائدة
[ القرآن ذلول ذو وجوه ]
قال عليه السلام : القرآن ذلول ذو وجوه ، فاحملوه على احسن الوجوه (3).
اقول : في نهاية ابن الاثير : الذلول من الذل بالكسر ضد الصعب (4).
وفي مجمع البيان في فصل اللغة في كريمة « جعل لكم الارض ذلولا » (5):
Shafi 33
الذلول من المراكب ما لا صعوبة فيه (1).
فالظاهر في وجه الشبه ان يقال : كما ان الذلول من المراكب ينقاد لراكبه ويطيعه حيث يشاء ، والى اي وجه يريد انعطافه.
كذلك القرآن لما كان ذا وجوه كثيرة ، كما يشعر به الاتيان بصيغة جمع الكثرة يمكنهم حمله على اي وجه ارادوا واي مذهب شأوا.
ولذلك قال علي عليه السلام في وصيته لعبد الله بن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج : لاتخاصمهم بالقرآن ، فان القرآن حمال ذو وجوه ، تقول ويقولون ، ولكن حاججهم بالسنة ، فانهم لم يجدوا عنها محيصا ، كذا في نهج البلاغة (2).
ومن هنا ترى الامة بعد نبيهم صلى الله عليه وآله قد كثر اختلافهم في المذاهب والاعتقادات ، وكلهم يحتجوا بآي منه ، وقلت آية لم يذكروا فيها وجوها عديدة ومحامل سنية ، ولم ينقلوا فيها اقوالا ومذاهب ، كما يشهد به تتبع التفاسير والسير ، وخاصة التفسير الكبير (3) للامام الطبرسي رحمه الله.
لكن الواجب على ما دل عليه ظاهر الخبر ، ويؤيده قوله تعالى « فبشر عبادي الذي يستعمون القول فيتبعون احسنه » (4) حمله على احسن الوجوه ، وهو ما كان ظاهرا قريبا متبادرا محفوفا بشواهد شرعية ، مقرونا بقواعد عربية ، مطابقا للامر نفسه ، موافقا لميزان العقل وقانونه من غير كلفة وسماجة.
ولذا كان مدار الاستدلال بالآيات والروايات من السلف الى الخلف على
Shafi 34
الظاهر المتبادر ، لا ان يفسره بمجرد رأيه وميله واستحسان عقله من غير دليل ولا شاهد غير معتبر عقلا او نقلا.
كما يوجد في كلام المبتدعين ، فانهم يأولونه على وفق آرائهم ، ليحتجوا به على اغراضهم الفاسدة واديانهم الكاسدة. ولولا ذلك الرأي لم يكن لهم من القرآن ذلك المعنى.
وهذا يكون مع العلم تارة ، كالذي يحتج بآية على تصحيح بدعته ، وهو يعلم انه ليس المراد بها ذلك ، ولكن يلبس به على خصمه ، ومع الجهل اخرى.
ولكن اذا كانت الآية محتملة ، فيميل فهمه الى الوجه الذي يوافق غرضه ، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه.
وتارة يكون له غرض صحيح ، فيطلب له دليلا من القرآن ، ويستدل عليه بما يعلم انه غير مراد ، ولكن يقول به لتغرير الناس ودعوتهم على مذهب الباطل ، فينزل القرآن على رأيه ومذهبه على امر يعلم قطعا انه ما اريد به ذلك.
وذلك كما روى الصدوق في معاني الاخبار عن الصادق عليه السلام قال : من اتبع هواه واعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء العامة تعظمه وتصفه (1).
فأحببت لقاءه من حيث لا يعرفني ، لانظر مقداره ومحله ، فرأيته قد احدق به خلق كثير من غثاء العامة ، فوقفت منتبذا عنهم ، متغشيا بلثام ، انظر اليه واليهم ، فما زال يراوغهم (2) حتى خالف طريقهم وفارقهم ولم يقر ، فتفرقت العوام عنه لحوائجهم.
وتبعته اقتفي اثره ، فلم يلبث ان مر بخباز ، فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين
Shafi 35
مسارقة ، فتعجبت منه ، ثم قلت في نفسي : لعله معاملة.
ثم مر بعده بصاحب رمان ، فما زال به حتى تغفله ، فأخذ من عنده رمانتين مسارقة ، فتعجبت منه ، ثم قلت في نفسي : لعله معاملة ، ثم اقول : وما حاجته اذا الى المسارقة.
ثم لم ازل اتبعه حتى مر بمريض ، فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه ومضى ، وتبعته حتى استقر في بقعة من الصحراء.
فقلت له : يا عبد الله لقد سمعت بك واحببت لقاءك ، فلقيتك ولكني رأيت منك ما شغل قلبي ، واني سائلك عنه ليزول به شغل قلبي.
قال : ما هو؟ قلت : رأيتك مررت بخباز وسرقت منه رغيفين ، ثم بصاحب الرمان وسرقت منه رمانيتين.
قال فقال لي : قبل كل شيء حدثني من انت؟ قلت : رجل من ولد آدم عليه السلام من امة محمد صلى الله عليه وآله.
قال : حدثني من انت؟
قلت : رجل من أهل بيت رسولا الله صلى الله عليه وآله.
قال : اين بلدك؟
قلت : المدينة.
قال : لعلك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب صلوات الله عليهم.
قلت : بلى.
فقال لي : فما ينفعك شرف اصلك مع جهلك بما شرفت به ، وتركك علم جدك وابيك ، لئلا تنكر ما يجب ان يحمد ويمدح عليه فاعله؟
قلت : وما هو؟
قال : القرآن كتاب الله.
قلت : وما الذي جهلت منه؟
Shafi 36
قال : قول الله عز وجل « من جاء بالحسنة فله عشر امثالها وما جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها » (1) واني لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين ، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين ، فهذا اربع سيئات ، فلما تصدقت بكل واحد منهما كان لي بها اربعين حسنة ، فانتقص من اربعين حسنة اربع بأربع سيئات ، بقي لي ست وثلاثون حسنة.
قلت : ثكلتك امك ، انت الجاهل بكتاب الله ، اما سمعت انه عز وجل يقول : « انما يتقبل الله من المتقين » (2).
انك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين ، ولما سرقت رمانتين كانت ايضا سيئتين ، ولما دفعتهما الى غير صاحبيهما بغير امر صاحبيهما ، كنت انما اضفت اربع سيئات الى اربع سيئات ، ولم تضف اربعين حسنة الى اربع سيئات ، فجعل يلاحظني فانصرفت وتركته.
قال الصادق عليه السلام : بمثل هذا التأويل القبيح المستكره يضلون ويضلون.
وهذا نحو تأويل معاوية لما قتل عمار بن ياسر رحمه الله ، فارتعدت فرائص خلق كثير ، وقالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : عمار تقتله الفئة الباغية.
فدخل عمرو على معاوية وقال : يا أمير المؤمنين قد هاج الناس واضطربوا. قال : لماذا؟ قال : قتل عمار. فقال معاوية : قتل عمار فماذا؟ قال : اليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : عمار تقتله الفئة الباغية؟ فقال له معاوية : دحضت في قولك ، انحن قتلناه؟ انما قتله علي بن ابي طالب لما القاه بين رماحنا.
Shafi 37
فاتصل ذلك بعلي بن ابي طالب عليه السلام فقال : اذا رسول الله صلى الله عليه وآله هو الذي قتل حمزة لما القاه بين رماح المشركين.
ثم قال الصادق عليه السلام : طوبى للذين هم كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله : يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين (1).
وفي هذا الخبر احكام ، اذا تأملها عارف يعرفها.
وفي الخبر الاول دلالة ظاهرة على بطلان قول من لا يجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن الا بخبر وسمع « افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها » (2).
ونحن قد فصلنا القول فيه في تعليقاتنا على الآيات الاحكامية للفاضل المولى احمد الاردبيلي قدس سره ، فمن اراد الاطلاع عليه فليراجع اليه ، والى الله المرجع والمآب ، وهو يهدي من يشاء الى الصراط السوي والطريق الصواب.
* 4 فائدة
[ عدم تطرق التحريف الى القرآن ]
عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله : يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين ، وتحريف الغالين ، وانتحال الجاهلين ، كما ينفي الكير خبث الحديد (3).
اقول : فيه دلالة على ان الصحابة والصحابيات والتابعين لهم واللاحقين بهم ، وهكذا في كل قرن من القرون ، كانت طائفة منهم عدول بالغون حد التواتر ، ينفون عن القرآن تحريف المحرفين على وجه لا يشوبه شائبة تغيير ولا
Shafi 38
تبديل ، ولا زيادة ولا نقصان ، بوجه من الوجوه ، وبطريق من الطرق ، كما يصرح به التشبيه المذكور.
ويدل عليه ايضا ما في خبر آخر : يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين (1).
وحمل العدول على الائمة عليهم السلام يدفعه « في كل قرن » لانه لا يكون فيه الا واحد منهم ، وهو عدل لا عدول. والدين يشمل القرآن ، بل هو مبنى اصول الديانات وفروعها ، ومنه يستنبط مسموعها ومعقولها.
ويدل عليه ايضا قوله تعالى : انزلت عليك كتابا لا يغرقه الماء ولا تحرقه النار.
اذ ليس المراد به ظاهره ، فانا نرى عيانا ان القرآن يغرقه الماء وتحرقه النار.
روي عن الصادق عليه السلام انه قال : وقع مصحف في البحر ، فوجدوه وقد ذهب ما فيه ، الا هذه الآية « الا الى الله تصير الامور (2)» (3).
بل المراد به ان شياطين الانس والجن اللذين هما كالنار في ازالة احكام الله وآياته ، لا يقدرون على تحريفه حروفا ، وان كانوا يحرفونه حدودا.
كما دل عليه ما في روضة الكافي في رسالة ابي جعفر عليه السلام الى سعد الخير : وكان من نبذهم الكتاب ان اقاموا حروفه وحرفوا حدوده (4).
او المراد انه كلوء عن التغيير ، محفوظ عن الزوال ، على وجه لو فرض القاؤه على الماء والنار لا يؤثران فيه ، لحفظه تعالى اياه ، كما اخبر عنه بقوله
Shafi 39
تعالى : « نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون » (1). فيكون كناية عن صونه من جميع انحاء شوائب التغيير والزوال.
او انه لما كان محفوظا في الصدور ، يتلوه اكثر الامة ظاهرا ، كما قال الله تعالى : « بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم » (2) ولذا جاء في صفة هذه الامة : صدورهم اناجيلهم.
بخلاف سائر الكتب السماوية ، فانها ما كانت تقرأ الا من المصاحف ، كما ذكره صاحب الكشاف (3)، لا يقدر احد على تحريفه وتغييره ، فكأنه تعالى لما جعله محفوظا في الصدور ، جعله على وجه لا يغرقه الماء ولا تحرقه النار.
وفي نهاية ابن الاثير : فيه انه قال فيما حكى عن ربه : وانزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان ، اراد انه لا يمحى ابدا بل هو محفوظ في صدور الذين اوتوا العلم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكانت الكتب المنزلة لا تجمع حفظا ، وانما يعتمد في حفظها على الصحف ، بخلاف القرآن ، فان حفاظه اضعاف مضاعفة لصحفه . وقوله « تقرؤه نائما ويقظان » اي : تجمعه في حالة النوم واليقظة. وقيل : اراد تقرؤه في يسر وسهولة (4) انتهى.
وفي حديث عقبة بن عامر : لو كان القرآن في اهاب ما اكلته النار (5).
قال ابو عبيد : اراد بالاهاب قلب المؤمن وجوفه الذي قد وعي القرآن فيكون المعنى من علمه الله القرآن لم تحرقه نار الاخرة ، فجعل جسم حافظ
Shafi 40
القرآن كالاهاب (1).
وقال ابن الانباري : معناه ان النار لاتبطله ، ولا تقلعه من الاسماع التي وعته ، والافهام التي حصلته ، كقوله في الحديث الاخر : وانزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. اي : لا يبطله ، ولا يقلعه من الاوعية الطيبة ومواضعه ؛ لان وإن غسله الماء في الظاهر ، لا يغسله بالقلع من القلوب.
وعند الطبراني من حديث عصمة بن مالك : لو جمع القرآن في اهاب ما احرقته النار (2).
وعنده من حديث سهل بن سعد : لو كان القرآن في اهاب ما مسته النار (3).
ولنا في تلك المسألة رسالة مفردة جامعة للاقوال ، محتوية على اكثر ما يمكن ان يتمسك في الاستدلال ، فليطلب من هناك حقيقة الحال ، والصلاة على محمد وآله خير آل.
* 5 فائدة
[ اول ما نزل من القرآن المجيد ]
مختار كثير من العلماء ان فاتحة الكتاب عندهم اول السور نزولا.
وفي رواية : اول ما نزل من القرآن « بسم الله الرحمن الرحيم * اقرأ باسم ربك » وآخره « اذا جاء نصر الله » (4).
وقيل : اول سورة نزلت هي المدثر.
وقيل : هي سورة القلم.
Shafi 41
وعن سيدنا امير المؤمنين عليه السلام قال : سألت النبي صلى الله عليه وآله عن ثواب القرآن ، فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء ، فأول ما نزل عليه فاتحة الكتاب ، ثم اقرأ باسم ربك (1).
وظاهر الفاضل العلامة يعطي انه نزل بهذا الترتيب المفتتح بالتحميد المختتم بالاستعاذة ، حيث قال في جواب مسألة : الحق انه لا تبديل فيه ولا تقديم ولا تأخير ، وانه لم يزد ولم ينقص ، نعوذ بالله من اعتقاد مثل ذلك ، فانه يوجب التطرق الى معجزة الرسول المنقولة بالتواتر (2).
وظاهر الكشاف حيث قال في ديباجته : وجعله بالتحميد مفتتحا وبالاستعاذة مختتما (3). انه يذهب الى هذا المذهب. وهذا هو الحق ، وما ينافيه : اما مؤول ، او مطروح.
Shafi 42
سورة الفاتحة
* بسم الله الرحمن الرحيم.
* الحمد لله رب العالمين.
اختلف في كلمة « الله » هل هو علم شخصي ، او من الصفات الغالبة المخصوصة به تعالى ، بحيث صار كالعلم له؟ فخليل بن احمد وسيبويه والمبرد على انه اسم غير مشتق ، انفرد الحق سبحانه به ، كأسماء الاعلام ، وعليه كثير من العلماء.
وقيل : انه من الاسماء المشتقة ، وعليه جمهور المعتزلة. واستدل الامام على كونه علما ، بأنه لو كان صفة مشتقة ، غلبت في الاستعمال على المعبود بالحق ، لم يكن قولنا « لا اله الا الله » صريحا في التوحيد ؛ لان المفهوم من المشتق هو الموصوف بالمشتق منه.
وهذا مفهوم كلي لا يمنع نفس تصوره عن وقوع الشركة فيه ، فثبت انه لو كان صفة لكان كليا ، ولو كان كليا لم يكن قولنا « لا اله الا الله » صريحا في التوحيد ، فعلم انه اسم علم وليس من الصفات.
واجيب بأنه وان كان في الاصل وصفا ، الا انه غلب عليه تعالى ، بحيث لا يستعمل في غيره ، وصار كالعلم له في عدم تطرق احتمال الشركة اليه ، فحصل التصريح بالتوحيد.
واستدل القائل بكونه صفة ، بأنه لو كان علما لذات مخصوصة لم يكن للحكم عليه بأنه احد فائدة ، وقد قال الله تعالى « قل هو الله احد ».
واجيب عنه : بأن المعنى انه احد في المعبودية بالحق ، لا يشاركه فيها أحد ، وهذه الصفة لازمة له تعالى مفهومة من لفظ « الله » كما يقال لزيد الذي هو
Shafi 43
العالم الكامل في البلد : ان زيدا واحد في البلد ، بمعنى انه واحد في العالمية على وجه الكمال ، بحيث لا يشاركه فيها احد في البلد.
على ان ما ذكره مشترك بين كونه علما وصفة غالبة الاستعمال في ذاته المخصوصة ، بحيث صارت كالعلم له ، ولا يطلق على غيره.
وقد يجاب : بأن المراد من الاحد ما لا جزء له بوجه ، لا الوحدانية الدال عليه الله.
والحق ان شيئا من الادلة لا تفيد الجزم بكونه علما ، او صفة ، فتأمل.
وأما حمده سبحانه على بعض صفاته ، كقول القائل حمد الله على علمه ، فراجع الى الحمد على آثاره المرتبة عليه من الافعال المحكمة المتقنة الدالة على ان فاعلها عليم حكيم ، وهو عين ذاته المقدسة.
خلافا للاشعرية القائلة بزيادة الصفات على الذات ، فهي مستندة الى الذات صادرة عنه من غير اختيار منه ، والا لزم منه : اما تقدم الشيء على نفسه ، او التسلسل ، فالحمد عليه ليس هو الثناء على مزية اختيارية ، فتأمل.
و « الحمد » لما عم الفضائل والفواضل ، فالمحمود لا بد وان يكون على احد من هذه الامور : اما كاملا في ذاته وصفاته ، او محسنا ، او مرجو الاحسان ، او يكون ممن يتقى منه ويخاف.
فذكر الصفات المذكورة بعد اسم الذات ، للاشارة الى ان المحمود في هذا المقام جامع للفضائل الكاملة والفواضل الشاملة ، فهو احق بالحمد والتعظيم من كل من يحمد ويعظم ، لجمعه جميع ما يحمد عليه ، بخلاف غيره من المحمودين.
* الرحمن الرحيم .
الرحمة رقة القلب وانعطاف ، اي : ميل روحاني يقتضي التفضل والاحسان ، واذا وصف الله تعالى بها ، كان المراد بها غايتها ، وهي التفضل
Shafi 44
والاحسان ؛ لان الرقة من الكيفيات المزاجية التابعة للتأثر والانفعال ، والله منزه عنها.
وهو : اما من باب المجاز المرسل ، بذكر السبب وارادة المسبب ، اذ الرحمة سبب التفضل والاحسان.
واما على طريقة التمثيل ، بأن شبه حاله تعالى بالقياس الى المرحومين في ايصال الخير اليهم ، بحال الملك اذا عطف على رعيته ورق لهم ، فأصابهم بمعروفه وانعامه ، فاستعير الكلام الموضوع للهيئة الثانية للاولى ، ومن غير تمحل في شيء من مفرداته.
وقيل : ان صفات الله التي على صيغة المبالغة كلها مجاز ؛ لانها موضوعة للمبالغة ، ولا مبالغة فيها ، فانها في صفات تقبل الزيادة والنقصان ، وصفاته تعالى منزهة عن ذلك.
فيه ان صيغ المبالغة قسمان : قسم تحصل المبالغة فيه بزيادة الفعل ، والثاني بتعدد المفعولات ، ولا شك ان تعددها لا يوجب للفعل زيادة ؛ اذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة ، وعليه تنزل صفاته تعالى ، ويرتفع الاشكال.
والرحمن ابلغ من الرحيم ، فعند اعتبار الابلغية فيه باعتبار الكمية ، نظرا الى كثرة افراد المرحومين ، يقال : يا رحمن الدنيا ورحيم الاخرة ، لشمول رحمة الدنيا للمؤمن والكافر.
وعند اعتبار الابلغية فيه باعتبار الكيفية ، وهي جلالة الرحمة ودقتها بالنسبة الى مجموع كل من الرحمتين ، يقال : يا رحمن الدنيا والاخرة ورحيم الدنيا ، لجلالة رحمة الاخرة بأسرها ، بخلاف رحمة الدنيا.
وباعتبار نسبة بعض افراد كل من رحمة الدنيا والاخرة الى بعض ، يقال : يا رحمن الدنيا والاخرة ورحيمهما ؛ لان بعضا من كل منهما أجل من بعض ، وبعضا من كل منهما أدق. وقد ورد كل ذلك في الادعية المأثورة عنهم عليهم السلام.
Shafi 45
وأما وجه تقديم الرحمن على الرحيم ، فقيل : لما كان الملتفت اليه بالقصد الاول في مقام العظمة والكبرياء ، جلائل النعم وعظائمها دون دقائقها ، قدم الرحمن واردف بالرحيم كالتتمة ، تنبيها على ان الكل منه ، وان عنايته شاملة لذرات الوجود ، كيلا يتوهم أن محقرات الامور لا تليق بذاته ، فيحتشم عنه من سؤالها.
ففيه اشارة الى ان العاقل ينبغي له ان يرجع في حوائجه كلها اليه وينزلها به ، جليلة كانت او حقيرة ، ولا يأنف من رفع المحقرات اليه ، فانه غاية التوكل عليه.
يا موسى سلني كل ما تحتاج اليه حتى علف شاتك وملح عجينك.
* مالك يوم الدين .
لما وصف الله سبحانه نفسه بالرحمن الرحيم الدالين على كمال لطفه واحسانه وجوده وامتنانه على العباد في الاخرة والاولى ، اوجب ذلك غرورا ، وغلب به الرجاء على الخوف ، بل صار رجاء بحتا ، فكان موضع طغيان ومحل عصيان.
فعقب ذلك بما يدل على غاية قدرته ، وكمال سطوته في يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يؤمئذ لله ، دفعا لذلك الغرور ، وحسما لمادة الشرور.
فهذه الاضافة والتخصيص للتهويل والتخويف ، وبذلك يصير الرجاء معادلا للخوف ، بحيث لا يرجح احدهما على الاخر.
فهذا في الحقيقة اشارة الى اسباب الخوف والرجاء ، فالرحمن الرحيم ينشأ منهما الرجاء ، ومالك وملك يوم الدين يورثان الخوف لمكان الجزاء.
Shafi 46
* اياك نعبد واياك نستعين .
« اياك نعبد » مدحة وثناء لله رب العالمين ؛ لانه بيان للحمد « واياك نستعين » مسألة ودعاء وطلب حاجة ؛ لانه مبين ب « اهدنا الصراط المستقيم ». ومن شرائط اجابة الدعاء تقديم المدحة لله والثناء عليه قبل المسألة ، كما ورد في غير واحد من الاخبار : اذا طلب احدكم الحاجة ، فليثن ربه وليمدحه ، فان الرجل منكم اذا طلب الحاجة من السلطان هيأ له من الكلام احسن ما يقدر عليه (1).
وفي حديث سيدنا امير المؤمنين سلام الله عليه : المدحة قبل المسألة (2).
فهذا منه سبحانه تعليم للعباد ، وارشادهم الى طريق المسألة ، وكيفية الدعاء ، وطلب الحاجة منه عز اسمه.
وأما ايثار صيغة المتكلم مع الغير على المتكلم وحده ، فلعل النكتة فيه ارشاد الله تعالى الى ملاحظة القارىء دخول الحفظة ، او حضار صلاة الجماعة ، او جميع حواسه وقواه الظاهرة والباطنة ، او جميع ما حوته دائرة الامكان واتسم بسمة الوجود.
وذلك لان هذه السورة نزلت لتعليم العباد ، وارشادهم الى طريق الاخلاص ، وسبيل الاختصاص ، والاقبال عليه تعالى.
فكأنه قال لهم : قولوا اياك نعبد بصيغة المتكلم مع الغير ، ارشدهم الى ان عبادته سبحانه لا يبنبغي ان تكون بمجرد اللسان ، حتى تكون منزلة صلاة الفذ ؛ بل به وبالجنان المستلزم لمتابعة القوى والاركان ، فيتحقق به مصداق صيغة
Shafi 47
المتكلم ، فحينئذ تكون تلك الصلاة بمثابة صلاة الجماعة.
بيان ذلك : انه لما كانت بين الجوارح والقلب علاقة شديدة ، يتأثر كل منهما بالاخر ، كما اذا حصلت للاعضاء آفة ، سرى اثرها الى القلب فاضطرب ، واذا تألم القلب بخوف مثلا سرى اثره الى الجوارح فارتعدت ، كان القلب بمنزلة السلطان ، والجوارح بمنزلة العسكر.
فمتى توجه القلب الى جناب الله تعالى ، كان كل جارحة على الوجه المطلوب في احوال الصلاة ، بأن لا يطرق رأسه ، وينظر حال القيام الى موضع سجوده ، ولا يسمع الى كلام احد غير ما يقوله مع معبوده ، وتكون يده ورجله وحركاته وسكناته على الوجه المطلوب ، بأن لا يلتفت الى غير جنابه الاقدس ، وبذلك تصير الصلاة صلاة جماعة ، فيحقق مساغ نون المتكلم مع الغير ، فيصح له ان يقول : اياك نعبد واياك نستعين.
والحاصل : انه انما اختار صيغة المتكلم مع الغير على صيغة المتكلم وحده ، ليدل بذلك على عظم شأن عبادة الله تعالى ، لما فيه من الاشارة الى ان هذا الامر العظيم والخطب الجسيم مما لا يمكنه ان يتولاه وحده ، بل يحتاج الى معاون ونصير وممد وظهير. وكذا الكلام في طلب الاعانة.
وأما ما قيل بلزوم الاحتراز بذلك عن الكذب الظاهر ، وما نقل عن مالك بن دينار انه قال : لولا اني مأمور بقراءة هذه الآية ما كنت قرأتها قط ، لاني كاذب فيها.
فهو غير لازم ؛ لان نبينا واوصياءه عليهم السلام كانوا يقرؤون هذه الآية مع استعانتهم بغير الله تعالى في الامور الدينية والدنيوية ، وهذا مما لا يمكن انكاره.
كيف؟ والانسان مدني بالطبع يحتاج بعضهم في امور معاشه ومعاده الى بعض. فالاستعانة بغيره تعالى من حيث انه جعله سببا ، وابى ان يجري الاشياء الا بأسبابها ، راجعة الى الاستعانة به تعالى ، ولا يلزم منه كذب ولا
Shafi 48
تهور ، فان لكل امرء ما نوى ، وانما الاعمال بالنيات.
وكذا الكلام في الخضوع لاهل الدنيا من الملوك والوزراء ونحوهم ، فانه ان كان من باب التقية ودفع الضرر ، فظاهر انه لا ينافي دعوى حصر الخضوع في الله.
وان كان من باب التعظيم ورعاية الادب من حيث ان لوجودهم مدخلا في حفظ بيضة الاسلام وترويج شريعة سيد الانام عليه وآله السلام ، فكذلك.
ولذلك جوز بعض علمائنا السجود الذي هو اقصى غاية الخضوع للملوك والابوين والاخوة ، كما وقع في اخوة يوسف عليه السلام على قصد الادب والتعظيم ، واعتقاد انهم عبيد مخلوقون.
فان الخضوع للانسان يقع على وجه الادب والتعظيم ، ويكون راجحا اذا كان في العرف تركه اهانة والانسان اهل التعظيم ، لانه عبد الله ، فتعظيمه تعظيم الله.
وبالجملة الاستعانة بغير الله وتعظيمه وتكريمه بالقيام له ، بل الخضوع ونحوه اذا كان اهلا له ، او من باب التقية ودفع الضرر ، او لان له مدخلا في تحصيل المعاش والمعاد ونحو ذلك ، لا ينافي دعوى حصر العبادة والاستعانة في الله تعالى ، بعد ان كانت نيته صادقة وغرضه ما ذكرناه ، فتأمل.
اقول : والعبادة نسبة بين العابد والمعبود ، فتحققها ذهنا وخارجا موقوف على تحققهما ، لكن المعبود ادخل في ذلك من العابد ، اذ لولاه لما عبد العابد ، فلم يتحقق العبادة.
فينبغي للعابد ان يعبده كأنه بحضرته ويراه ، فان لم يكن يراه فانه يراه ، كما قال سيد الاوصياء وسند الاتقياء سلام الله عليه وعلى ذريته الاصفياء : اعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك.
فينبغي لك التبتل والانقطاع اليه بتجافيك عن دار الغرور ، وترقيك الى عالم النور ، ومؤانستك به ومجالستك له ومكالمتك معه ، فتكون صلاتك
Shafi 49
بذلك معراجك ، تعرج فيها الى سماء الحقيقة.
كما ورد في الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وآله عدد قطرات المطر : الصلاة معراج المؤمن.
فانه يعرج فيها بنعت بعد نعت ، ووصف بعد وصف ، من مرقاة الى مرقاة ، ودرجة الى درجة ، حتى اذا بلغ محل الحضور وعالم النور ، يرفع عنه الحجاب ، ويقام على الباب ، ويرخص في الخطاب ، فيقول بلسان ذليق طليق اياك نعبد واياك نستعين.
فيصير جليسا لربه ، دثارا لخالقه ، مقترحا على رازقه ، منادما لمالك دار الفناء ودار البقاء ، مشرفا بحضرة سلطان السماء ، فيقول : اهدنا الصراط المستقيم.
فيكون حاله حال راهب لما قيل له : ما اصبرك على الوحدة؟ قال : انا جليس ربي ، اذا شئت ان يناجيني قرأت كتابه ، واذا شئت ان اناجيه صليت.
* اهدنا الصراط المستقيم .
الهداية هي الدلالة على ما من شأنه الايصال الى البغية من غير ان يشترط في مدلولها الوصول ، ولذلك كانت الدلالات التكوينية المنصوبة في الافاق والانفس ، والبينات الواردة في الكتب السماوية على الاطلاق ، بالنسبة الى البرية كافة برها وفاجرها هدايات حقيقية فائضة من الله تعالى.
وهداية الله تعالى انما يتحقق باحداثه الشوق في السالك ، واهتياجه قلبه وجذبه الى ارادته ومحبته والمواظبة عليه.
فان الشوق وهو ادراك لذة المحبة اللازمة لفرط الارادة الممتزجة بالم المفارقة ، يكون في حال السلوك بعد اشتداد الارادة ضروريا.
وربما كان حاصلا قبل السلوك ، وذلك اذا حصل الشعور بكمال المطلوب ، ولم تنضم اليه القدرة على السير ، وقل الصبر على المفارقة ، وكلما ترقى السالك
Shafi 50