قد يشابه الحيوان الإنسان ويشاركه في أمور كثيرة؛ فالببغاء تتكلم، ولكن عن تقليد لا إدراك، والنمل والنحل يعملان بحكمة وترتيب يثيران الدهش والإعجاب. ومنذ القدم أيام كان الإنسان يأوي إلى الكهوف، وينام في ظلال الأغصان الملتفة كان النحل فعلا يبني بيته بهندسة عجيبة؛ إلا أن الإنسان تقدم وارتقى، والنحل بقي مكانه.
والنسر يرى أبعد من الإنسان، ولكن الإنسان اخترع ما يفوق به النسر، فيرى بالتلسكوب أبعد الأجرام، وبالمكرسكوب أصغر الأجسام، والأسد أقوى من الإنسان، والإنسان يغلب الأسد بطلقة نار، والسنونو أسرع من الإنسان غير أن الإنسان استطاع أن يقرب الأبعاد ويقصر المسافات بما يسبق به السنونو، فيخاطب رفيقه من أقصى الأرض إلى أقصاها؛ ذلك لأن ذكاء الحيوان محدود وذكاء الإنسان لا قيد له ولا حد. تلك هي مزايا الطبيعة البشرية، بئر من الأسرار، عليها ألف ستار وستار. •••
إذا كان من منافع الأسفار العبرة والاختبار فما أحرى الواحد منا أن يطوف حينا بعد حين حول هذه الأرض القريبة البعيدة؛ فإن من أعظم فوائدها أنها تعلمنا أن يفهم بعضنا بعضا. أتدري ما الذي يسبب شقاء الناس ويدفعهم إلى الجور عن قصد السبيل ليسيئوا التصرف في معاملاتهم الاجتماعية؟ هو قبل كل شيء استهزاء الإنسان بأخيه الإنسان؛ فالناس بالإجماع لا تحترم الناس، ولا تقدر قدر هذا الكنز الثمين الذي يحمله كل منا؛ ولهذا نرمي بأنفسنا في مهاوي العار والخسة، لا نعرف سوى التباغض والتنافر والخصام الدائم، عابثين بحق الجسم علينا وحق العقل. لقد آثرنا العيش في الظلمات والمستنقعات والخوف، بدلا من الهواء الطلق والنور والطمأنينة والواقع الحقيقي، فصدق فينا قول شاعر الفرنسيس:
الإنسان ملاك ساقط لم يحفظ من السماء سوى التذكار
فلنتعلم منذ الصغر أن نفهم أنفسنا حق الفهم؛ فلا نحتقر رخيصا، ولا نحسد رفيعا، ولا نؤذي ضعيفا، ولا نستبد فيما نملك. ولنذكر أبدا أن في الطبيعة البشرية كنوزا عديدة لو استخدمنا جزءا منها لبدلنا وجه البسيطة، وغطينا ما عليها من الشقاء والفساد بالصحة والسعادة، والاحترام المتبادل، والحياة الطيبة.
جزيرة الأبالسة
ليست الأبالسة سوى فئة من الآلهة التي اعتنقتها الأديان البشرية من قديم الأزمان؛ فكان للخير آلهة هي منبع اللذات، وللشر آلهة هي الشياطين التي تجلب الآلام للعالم. ولهذه الشياطين وظائف مختلفة؛ ففي الهند شيطان للعقم، وشيطان للقحط، وشيطان لليبس، وعلى رأسهم «مارا» الذي يوحي الأفكار الباطلة والأقوال الخبيثة والأعمال الشريرة، ويجرب على الدوام بوذا وتلاميذه. وفي الفرس شياطين معروفة بالكذب والخداع تسكن القبور والجبال والأرض المقفرة، وتحاول إغراء البشر، ولا تطرد بغير الصلاة ودعاء الكهنة والمجوس. وفي بابل وآشور شياطين للطاعون والحمى والشلل والدم والنار، وهي تعالج أيضا بالصلاة والاستهواء؛ فكان الكهنة يراقبون العليل ويصغون إلى ما يقول في حالة الهذيان، فيكتشفون الداء وأحيانا اسم العدو الذي تجب محاربته. وفي مصر رئيس الشياطين هو «سيت» إله الظلمات، وما المرض سوى صراع بين الشيطان والإنسان، وعلاجه أيضا بالتعاون والرقى .
وكانت البغضاء القائمة على التعصب للدين والوطن تدفع الناس إلى احتقار آلهة أعدائهم واعتبارها من الشياطين؛ ولهذا قد تجد الاسم الواحد يطلق عند فريق على الإله، وعند فريق على الشيطان. وقد فعل اليهود كغيرهم فكانت آلهة أعدائهم الفينيقيين مثل: مولوك، وبعلزوب شياطين عندهم. ولنشأة بعلزوب هذا حديث طريف لا بأس من ذكره هنا.
لا يخفى اليوم على أحد خطر الذباب وتأثيره في نشر الأمراض كالحمى والكوليرا والملاريا ومرض النوم. ويروي كلوديوس أوليانوس الكاتب اللاتيني في مقتطفاته أن سكان شواطئ الاستبراس، وهو نهر في الحبشة، كانوا يضطرون كل عام إلى الهجرة هربا من أسراب الذباب الذي ينتشر كالضباب، فيحجب عنهم وجه السماء، هذا الذباب هو «تسي تسي» ناقل مرض النوم يعيش على شواطئ الأنهر في ظل الميموزا والموز، فتقفر من أجله شواطئ النيل الأعلى والاستبراس طوال ستة أشهر، إلى أن يأتي الخريف باعتدال أيامه ولياليه؛ ولهذا كان المصريون يؤلهون شمس الخريف لأنها تقهر الذباب، وانتقلت هذه العبادة إلى القيروان؛ حيث كان يسمى هذا الإله الخاص «أخورس»، ثم إلى فينيقيا فسمي بعل زبوب؛ أي «الإله الذباب»، ولكن اليهود حرفوا الكلمة إلى بل زبوب، وجعلوا الإله شيطانا والذباب كذلك.
وكان لوثر لا يزال يعتقد أن الذباب مشيطنة؛ فكان إذا وقع الذباب على وجهه أو على كتابه يغضب ويصيح: «إليك عني يا قرد إبليس وأتباعه، كلما فتحت توراتي تأتني أيها الذباب الخبيث بأقذارك كأنك تقول: هذا الكتاب لي وفي إمكاني أن ألوثه بدهني.»
Shafi da ba'a sani ba