وقد يعرض له أن يتكلم عن المسائل الأدبية فيقول: إن الأدب هو الأصل، وإن الإيمان يأتي عن غريزة الواجب والتضحية. وليس الإنسان في حاجة إلى المذاهب الفلسفية ليحب الخير ويكره الشر، ولا سيما لأن من هذه المذاهب ما لا أدب فيه كالنفعيين مثلا، على أنه من الخطأ أن نعتقد أن أعمالنا الصالحة تفيدنا في هذا العالم؛ لأنه كثيرا ما يخدع الواجب فيذهب الإنسان ضحية لطيبة قلبه.
هذه هي بعض آراء رنان الفلسفية وما فيها من تناقض، وهو يخلع عليها لباسا من اللطف والأناقة، ويتحاشى فيها كل جدل، فلا يطعن ولا يدافع ولا يجزم. وكثيرا ما يلمح من خلالها أثر لتعاليم كانت وهجل وشوبنهور. يدرس كل الوجوه وكل المسائل، ولا يرضيه واحد منها؛ فهو على نقيض بانكلوس ، معلم كانديد في رواية فولتير. فقد قال بانكلوس مرة: إن كل شيء في العالم على أحسن ما يرام، فظن نفسه مقيدا بهذا القول وعليه أن يؤيده حتى في أشقى حالاته. أما رنان فهو أحرى بأن تكون له كلمة بنجمان كونستان: الحقيقة لا تكون كاملة إلا إذا أدخلت ضدها فيها.
لقد أضاع رنان آماله بمقدرة العلم، ورأى أن الحقيقة لا تنير وتهدي إلا من كان له من نفسه هاد، إما بالفطرة وإما بما ورثه من عادات الفضيلة عن آبائه المؤمنين. ولهذا كان يقول: إن الفضيلة في عصور الشك هي بقية باقية من عصور الإيمان، وإن حياته هو نفسه كانت مسيرة أبدا بإيمان قديم لم يبق منه في صدره إلا مثل ما يبقى من العطر في الإناء.
2
لم تكن الفلسفة عند رنان سوى ضرب من اللهو والتسلية، بخلاف التاريخ؛ فقد استغرق وقته وفكره واهتمامه، فكان من الحق أن يسمى مؤرخا قبل أن يسمى شيئا آخر.
أراد رنان بعد أن عرف كيف تنتهي العقائد، باختباره ذلك في نفسه، أن يعرف كيف تبتدئ. ولكن أفكاره كانت متجهة في الوقت عينه إلى تاريخ الحاضر، فانصرف أيام الملكية إلى بعثاته ودروسه، بينما كانت الحياة العمومية في هدوء كأنه شبه اختناق، إلى أن نشبت الحرب السبعينية؛ فاضطر إلى الخروج من سكونه، وأحس بالاضطراب والقلق والجزع على مستقبل بلاده.
جاءت هذه الحرب ضربة قاضية على أحلامه وأوهامه. فقد كان يظن أن في الإمكان اتحاد ألمانيا وفرنسا عقلا وأدبا وسياسة اتحادا يجذب إليه إنكلترا؛ فتمشي هذه الأمم الثلاث في طليعة الحضارة والرقي، ولكنه وقع في الخطأ الذي وقعت فيه مدام ستايل، التي لم تكن تعرف من الألمان سوى شعرائهم ومفكريهم، فآمن بأساتذته هجل وهرور وستروس حتى جاء بسمارك بخيله ورجله فكشف القناع عن الحقيقة وفسر له تعاليمهم أبلغ تفسير.
لقد طعن الفتح الألماني رنان في الصميم، فكان يرى في الطريق شاردا يائسا، دامع العينين يلعن الحرب ومسببيها. وقد أسرع بقطع صلاته مع ألمانيا كما قطعها من قبل مع الكنيسة برسالة بليغة بعث بها إلى الدكتور ستروس، وأصبح بعد أن كان لا ينظر إلى العالم إلا نظرة المتفرج دون أن يخطر على باله إصلاحه، أصبح ولا هم له سوى البحث عن وسائل هذا الإصلاح؛ فألف كتابه «الإصلاح الفكري والأدبي».
كان رنان في كتابه الأول «مستقبل العلم» ديمقراطيا يتعشق رجال الثورة وأسطورتهم التي بعثها من القبر سنة 1847 مثله ولون بلان ولامارتين ليسقطوا حكومة تموز، ولكنه عاد عن رأيه بعد أن شاهد فظائعها وأصبح يؤثر أحقر حكومة ملكية على أعظم حكومة انتخابية، منددا بالديمقراطية، مظهرا أخطار الثورة، طالبا الرجوع إلى ملكية عسكرية كما كانت بروسيا قبل يانا. وترك التصويت العام الذي وضعه غوغاء 1848، والتوفيق بين الكنيسة والتعليم الابتدائي؛ «لأن الدين يقوم عند عامة الشعب مقام العلم والفن»، وإعتاق التعليم الثانوي من بلاغة جوفاء تتخذ الألفاظ كأنها معان، والمعاني كأنها وقائع، وترقية التعليم العالي إلى أبعد ما يمكن. وكان يقول: إن قوة ألمانيا لم تقم إلا على ركنين: ثقافة الرؤساء ونظام الجنود.
ولم يطل عليه الوقت ليتبين أن إرجاع الملكية في فرنسا أمر مستحيل، فوجد نفسه مضطرا إلى تعليق آماله على جمهورية أسسها فلاحون، وتمنى أن تكون معتدلة عاقلة شريفة، وراح يتتبع خطواتها بعواطف متقلبة غلبت السخرية فيها، فألف «المحاورات»، و«المآسي الفلسفية»؛ ليفهم رجال السياسة الذين تسلموا مقاليد الحكم، والذين يحاولون بناء ثروتهم على مصائب الوطن مدى احتقاره القلبي لهم.
Shafi da ba'a sani ba