وتخلص من أفكاره منتبها إلى الطريق فتساءل أين يمضي الرجل؟ ليس هذا هو السبيل إلى المبيضة، لعله يقصد إلى درب سعادة، لم لم يذهب إلى وكالته؟ إنه ذاهب إلى هذا البيت الذي يقيمون سرادقا أمامه. جاء الرجل ليشيع جنازة. هذا واضح، فيا له من صباح!
وفعلا قصد الحاج عبد الصمد بيت الميت فعزى أهله بحرارة، ثم توارى وراء الباب. واستمر بيومي في سيره نحو نهاية الطريق، وعيناه تفتشان عن مكان يستقر فيه إلى حين. وامتدت يده إلى اللحم البارد المكوم في جيبه كالتين المجفف، فتناول قطعة وراح يمضغها. ونازعته نفسه إلى جرعة كونياك، ولكنه قاوم ذلك وأجله إلى الساعات الحاسمة. وترامى إليه الصوات في موجات متقطعة، وبدرجات متفاوتة بين الشدة والاعتدال، لكنه اشتد جدا حوالي الحادية عشرة، منذرا باختفاء إنسان نهائيا من الدنيا. وخرج النعش محمولا على الأعناق، ومشى الحاج عبد الصمد وراءه في الصف الأول، وهو يجفف عينيه بمنديل كبير، وتوقف بيومي عن التفكير مأخوذا بشدة الصراخ واكفهرار الوجوه ورهبة المنظر.
وتخفف من مشاعره في الطريق، ونظر إلى صاحبه وهو ما زال يجفف عينيه، ثم تساءل مرة أخرى لم يريدون قتله؟! لو مات الآن لكفاه قتله، لكن تضيع الأربعون، بل وربما طولب بالعربون! ولم يشأ أن يتبع النعش حتى المدفن، فوقف عند أول الطريق.
ووردت على ذهنه فكرة غريبة، وهي أن يعمل ترابيا. هي مهنة رابحة فيما يظن، ولن يسأل - فيما يظن أيضا - إذا تقدم لها عن ماضيه، ولن يجد صعوبة في زيادة دخله بتجارة الكيف، وما أروجه بين القبور! ومضى يحلم من جديد مستعينا بذلك على قتل الوقت، حتى رأى الحاج عبد الصمد راجعا، ثم تبعه حتى رآه يدخل الوكالة بالمبيضة، فمال إلى قهوة عند رأس الطريق وجلس . احتسى الشاي ودخن أكثر من جوزة، وأكل عددا من قطع اللحم، وهو يراقب مدخل الوكالة دون انقطاع تقريبا. ورأى شخصا يغادرها فلم يصدق عينيه. المعلم الدهل محمود نفسه! الرجل الرهيب الذي لحسابه سيقتل عبد الصمد. بل رأى الحاج عبد الصمد وهو يودعه خارج الوكالة، رآهما يتبادلان الضحكات، وتواصل ذلك حتى استقر المعلم الرهيب في عربته وانطلقت به. إذن لم تنقطع بينهما المودة! يا له من وغد ذلك الجبار الرهيب! هو جبار بلا ريب، لكنه لا ريب كذلك في أنه يفكر فيه - هو المسكين - طيلة وقته. ينتظر على قلق نتيجة عمله، يتمنى له النجاح والتوفيق، يجري اسمه على لسانه مرات، ويطوف بذهنه عشرات المرات، ألا ما أخطر شأنك يا بيومي هذه الأيام! واليوم أخطرها جميعا وهو آخرها أيضا، أما الغد؟! وشدت قبضة على قلبه. غدا سيكون شيئا من آلاف الأشياء، من ملايينها، أو لا شيء! وإذا فشل سيجد نفسه هدف نقمة وانتقام، وستضيق به الأرض. والمسألة في حقيقتها العارية أنه سيقتل رجلا لا يعرفه، ولم تتصل بينه وبينه الأسباب على أي وجه كان لحساب أناس يمقتهم لحد المرض.
لبث في القهوة حتى الرابعة مساء، وهنالك صدرت عن الوكالة حركة تنذر بالختام. دخلت إليها عربات اليد، وتتابع خروج العمال، وأغلقت النوافذ، ثم خرج الحاج عبد الصمد يتبعه أربعة من الموظفين. تأهب بيومي للقيام، ولكنه رأى الجماعة مقبلة نحو القهوة، ثم جلسوا على بعد أذرع من مجلسه والحاج يقول: فكرة، أستريح هنا قليلا، قبل أن أذهب إلى المأتم.
وجاءت المشروبات وراحوا يحتسون القهوة والشاي، ثم تنهد الحاج عبد الصمد وقال: الله يرحمك يا سي عبده، من يتصور أنك دفنت اليوم!
فقال أحد رجاله وهو يتحلب ريقه: كان بالأمس يجلس بيننا في مثل هذه الساعة. - وكان ذلك كل يوم.
واسترق بيومي إليه نظرة، فرآه حزينا مكتسبا من الذكرى كآبة واضحة، غير أن صحته بدت قادرة على جرف الأحزان جميعا. وله وجه مليء وعنق مكتظ وكرش ضخمة، فلن يجد صعوبة في إصابته. سينتهي كل شيء آخر الليل، عند عودته من المأتم، وفي الموضع الذي اختاره بعناية بعد معاينة مسكنه، والطريق المفضية إليه.
وتساءل أحد رجاله: أسافر غدا إلى الصعيد؟
فقال الحاج: نعم إنها صفقة تزن ثقلها ذهبا، ولم نكن نحلم بها. - ولحد كم أدفع؟ - كما اتفقنا بصفة عامة، ولك أن تزيد حتى المائة. إنها صفقة مضمونة.
Shafi da ba'a sani ba