فتراجع الرجل إلى الداخل مقطبا، وهو يقول: يا ست نفيسة، لكل شيء وقته.
ونهض الحاج مصطفى فأزاحها عن النافذة، ثم أغلقها وهو يقول: عودي إلى الكنبة ووحدي الله.
وتمتم عبد العظيم وهو يكظم غيظه: البرد سيقتلنا، والمريضة في حالة خطيرة.
وقالت تفيدة بصوت متهدج: لم يعد في الدنيا ذوق!
فرجعت المرأة إلى مجلسها وهي تقول، بجفاء وتحد: حيلك يا ست هانم، إنها لا تعرف لها أهلا غيرنا، أما أنتم فلم تحضروا إلا عند الوفاة!
وأشار الحاج إلى تفيدة متوسلا أن تسكت، وخاطب نفيسة قائلا: يا ست نفيسة ما معنى هذا كله؟! هه؟ إن كان لك حق فما من قوة تمنعه عنك، أليس في البلد محاكم وقوانين؟ وعبد العظيم أفندي رجل موظف محترم، وكذلك الست أخته؛ فلا لزوم للكلام الفارغ.
وهمت العجوز بالكلام، ولكنه نهرها بحزم فأطبقت شفتيها. وسكت كل شيء، فلم يعد يسمع إلا عويل الريح في الخارج، ولغط بعض المارة في الطريق، وأنفاس الحاج مصطفى المحشرجة.
وشعر عبد العظيم بهواء بارد يتسرب إلى قدميه قادما من عقب الباب، فانكمشت أصابعه في الحذاء. وأخذ جو الحجرة بمرور الوقت يشحب، ثم يغمق رويدا مؤذنا بالمغيب. وركبهم اليأس، حتى الحاج مصطفى أشعل المصباح وهو يقول: «ما زال في العمر بقية، وحتى إذا وافى الأجل اليوم؛ فلا بد من الانتظار إلى الغد.» وتساءل عبد العظيم: «هل قضي عليهم بالبقاء في هذه الحجرة الكئيبة، وعلى مقربة من هذه العجوز الوقحة، طيلة ليل الشتاء البارد؟» ولم يعد مصطفى إلى مجلسه، ولكنه زرر معطفه استعدادا للذهاب، ثم قال: لا لزوم لي الآن، أنا ذاهب إلى بيتي فاستدعوني إذا حصل شيء.
ومضى تاركا عبد العظيم لمزيد من الكآبة والضيق. نظر إلى العمة بوجوم، وكانت راقدة في غير ما اكتراث لشيء في الوجود، أي شيء في الوجود. واشتد هبوب الريح، حتى انقلبت زئيرا، وتجسدت الكآبة كالجدران القاتمة. وشعر عبد العظيم بحنان عارم إلى مجلسه في البيت على كثب من الراديو بين زوجه وأولاده، إلى صخب الأولاد وشقاوتهم وتعلقهم العجيب به. وحملت الريح فيما حملت صوتا يغني في الراديو:
يا امه القمر ع الباب
Shafi da ba'a sani ba