ولقد وضع لظروفه الخاصة التي حاولنا شرحها آنفا شيئا من القوانين الحجرية والقواعد الحديدية، أحكم نحتها وصقلها وأجاد تهذيبها وتنقيحها، وقضى على نفسه باتباعها والتزامها مهما كانت العاقبة. ولم يحفل البتة بماذا يكون من شعور الفتاة وعواطفها وإحساساتها تحت تأثير تلك القوانين الحجرية القاسية، والقواعد الحديدية العاتية، إلا كما تحفل أنت - أيها القارئ - بشعور حزمة من الأمتعة تعالج حبكها وحزمها بحبل من الليف أو المسد، تعتقد أنه غاية في المتانة والإحكام والحصافة.
لقد كان يرى أن من الخسة والنذالة أن يعد الرجل فتاة بالاقتران بها إذا كان لا يوقن أنه قادر، ومصمم على تنفيذ ذلك الوعد في القريب العاجل.
ويرى أيضا أن من لؤم النحيزة، وسقوط الكرامة أن يخطب الرجل الفتاة إذا كانت ذات مال وكان معدوما. ويرى كذلك أن من الأنانية الممقوتة أن يعمد الرجل إلى فتاة في عيشة رغد فسيحة، فيحولها إلى ما هو أضيق وأنكد مهما حلفت له أنها تفضل الثانية على الأولى. ويرى أيضا أنه ليس من الصواب والحكمة لأسباب شتى أن يبالغ في تحبيب نفسه إلى الفتاة، أو أن يجعل لها إلى خفايا إحساساته، وخبايا عواطفه من الأدلة إلا أخفاها وأغمضها.
لا يسمح مطلقا أن تعطى الفتاة أدنى وعد؛ فإن شعورك نحوها رهن التغير وعرضة للتقلب - إذا طالت مدة الانتظار - فخير للفتاة والحالة هذه أن لا تربطها بك أدنى رابطة.
وبناء على ذلك قرر في نفسه أن يسلك مع الفتاة الخطة الآتية: أن يكثر من زيارتها، ويطيل ملازمتها تسلية للناظرين وتعجيبا للمشاهدين، وأن يذكي لهيب غرامها باللحظات والتلمحيات، وأن يهيج وجدها وصبابتها بالتودد والازدلاف والمغازلة كلما آنس في نفسه ميلا إلى ذلك، ولكنه يردها ويصدها إذا حاولت هي أن تصنع معه مثل هذا، وأن يعاملها كما لو كان خطيبها، ولكن يحتج عليها بشدة إذا زعمت أن منزلته منها أكثر من منزلة الصاحب المعتاد. هذه مبادئه وخطته.
مر أسبوع كان الفتى يكثر أثناءه من التردد إلى الفتاة، فكان يزورها ثلاث مرات أو أربعا في الأسبوع أو أكثر، ومع أن العلائق الظاهرية بينهما كانت على حالها، فقد كانت ثائرة الوجد تشتد في أحشائهما، وكربة الكمد تتلظى وتلتهب.
وكان لفرط سخطه على سوء حظه، ولشدة ألمه من نكد طالعه، ربما تسرب إلى صوته أثناء تحدثه إليها شيء من الغلظة والقسوة، وتطرق إلى لهجته نوع من العنف والفظاظة. وكانت بصيرة الفتاة النقاذة تتغلغل إلى سر ذلك، كما أنه كان يفهم بحدة ذكائه علة ما كان يبدو أحيانا على وجه الفتاة من دلائل الوهن والفتور والخور، ويفيض به قلبها المضنى وجوانحها الملتهبة من زفرات البث والأسى، ولكن الأمر بينهما كان مقصورا على ذلك.
لم يدر بينهما شيء من أحاديث الغزل الرقيق والنسيب الحلو، ولم يتجاوبا كحمامتي الأيكة الناضرة بشهي ألحان الغرام ، وشجي أنغام الصبابة، ولم يتساقيا كئوس المؤانسة، والمطايبة، والمعابثة، والمداعبة، والمشاكاة، والمعاتبة؛ شأن الأحباب والعشاق في كل آن ومكان، ولم ينطبق عليهما قول الشاعر:
إذ جانب العيش طلق من تآلفنا
ومورد اللهو صاف من تصافينا
Shafi da ba'a sani ba