73

Hawayen Bilyatsho

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

Nau'ikan

لكن ديوكليس لم ينتظر ولم يؤجل خلاصه، وعندما انتهى من إفراغ كيسه التفت نحوي وقد احاطت برأسه اللامع - كالمرأة المتموجة الألوان بحمرة الشفق المتوهج! - هالة النور التي تجلل كتيجان الغار الأبيض المجيد رءوس الأبطال الخالدين، عندها وقفت بعيدا وأنت تقلب عينيك بين جنون الأب وصديقه، حدقت في وجوهنا برهة قبل أن تشير بيديك وذراعيك إشارة يائسة ثم تدير لنا ظهرك وتحرك ساقيك نحو المدينة وأنت تقول بصوت مختنق بدموع الوداع وسورة الغيظ والاحتقار: معذرة يا أبي، هذه آخر مرة أراك فيها أو تراني. •••

آه يا ولدي الضائع المسكين! انطلقت لم تلتفت وراءك، دفعت مركبك الهارب الغاضب أمواج أعتى من أمواج البحر الذي وقفنا على شاطئه، لم تنظر مرة واحدة إلى الخلف لترى وجه أبيك المذهول من الصدمة، لم تلمح يديه وذراعيه اللتين مدهما نحوك وهو يقول ولا تسمعه: عد يا ولدي! إن لم يكن من أجل أبيك فمن أجل أمك!

حاول ديوكليس أن يخفف لوعتي ويسري عني بينما كنت أسير بجواره وأسمع أصواته ولا أسمعه. قال لي: سيرجع لا تقلق عليه. هذا الشباب الطموح الثائر بغير ثورة سيرجع يوما وليس معهم إلا حصاد المر والتراب والهشيم الذي يلقونه أمام آبائهم وهم يقولون: اغفروا لنا أيها العجائز، فالعالم خيب آمالنا كما فعل معكم! لا تبتئس يا صاحبي، ربما حبب إليه قلبه الطائش أن يذوق طعم المغامرة، وربما اتفق مع رفاقه أن يخرجوا ويجربوا، ألا ترى أنهم معذورون؟

قلت بامتعاض: أي عذر هذا الي يبرر لهم التخلي عن آبائهم العجائز؟ قال كأنه يفضي بسر هائل: ألا تشم رائحة العفن تتصاعد من المدينة وتطوقها وتخنقها كما يخنق القط الوحشي صغاره العميان قبل أن يلتهمهم؟ ألم تسمع فضائح الفساد التي ذاعت إلى حد الملل على كل لسان؟ وكيف يجد الشباب الضائع المضيع قوته وشرابه بعد أن يئس من العثور على حريته وكرامته وكف حتى عن الحلم؟ هل وصلتك أخبار المقدوني الزاحف؟

التقط عقلي المقفل على أحزانه هذه الكلمة فسألت: تقول المقدوني؟

قال متعجبا من غيبوبتي وجهلي الفظيع: أجل أجل! هذا المتهور الذي يسحب وراءه أبناء الإغريق لتحقيق أحلامه المخيفة.

لم أعلق بشيء، كنت أشعر تحت وقر السنين وتفاهة الحصاد أن لا شيء تغير أو يمكن أن يتغير، مع ذلك كان قلبي يتنبأ بقدوم العاصفة، ولا بد أن ديوكليس السمين اللزج الذي راح يتدحرج بجانبي ككرة الدهن الملطخ بالأوساخ قد استرق السر من الخاطر العابر فقال بصوت مشحون بالجدية: العاصفة قادمة يا صديقي، لكن من أين ستأتي وكيف؟ هذا شيء لا يعلمه مثلي أو مثلك، ولكنه سيهز بيت الطبيعة الذي تدعونا لسكناه. •••

اتجهت إلى الكوخ مضطرب الأحاسيس والخواطر بعد أن لم أجد في القوة على البحث عن عبدي أندروكليس. كنت أريد تسليمه مفتاح الكوخ حتى لا أسمح لنفسي بأن يملكها شيء تتصور أنها تملكه، وكانت هيباشيا مشغولة بإعداد طعامنا القليل قبل أن نستأنف لقاءنا اليومي تحت الأيكة أو ننطلق في جولة جديدة. بادرتني بابتسامتها المرحة وسؤالها الأكثر مرحا عن أحوال الكلبي الطيب وأحوال العالم الشرير، تجنبت النظر إلى وجهها الصغير المضيء رغم خطوط التجاعيد التي بدأت تنقش آثارها تحت العينين وفوق الجبهة الناصعة، كنت أغالب البكاء وأقاوم الارتجاف وأحاول أن أبدو أمامها طبيعيا وأرسم على وجهي كلما استطعت علامة الاستبشار والطمأنينة، قالت: تعال انظر ماذا أعددت لكم قبل أن يأتي بازيكليس، أطرقت برأسي وأغمضت عيني وراحت يدي المرتعشة تحرك العصا في دوائر متلاحقة، ورفعت رأسي وتأملت وجهها الصبوح المرهق وأنا أنطق الكلمات المبتورة بتأن ووضوح: بازيكليس، لن، يأتي. تجمدت ملامحها وسألت: ماذا تقول؟! لم أجد ما أقوله، ولكن القلق الذي شلها من الرعب حتم علي أن أفتح فمي: أنا لا أقول شيئا، هو الذي قال هذا وذهب.

أسندت رأسي على يد العصا وتلقيت السيل العارم من الصيحات والصرخات واللعنات والتأوهات، أدركت ساعتها كيف يتلاشى الذكر الجريح المهزوم أمام بركان الأنثى المتفجرة بالحمم المحرقة، لم تكن هذه هي هيبارخيا التي عرفتها وأحببتها وعلقت قدري بنظرتها الحنون وابتسامتها العذبة الشافية، لم أتوقع كذلك أن تكون اختطفت الشال السماوي الأزرق الذي أهدته إليها امرأة حداد مريضة سهرت عليها قبل أيام وخرجت كهبة ريح مسرعة من الكوخ، وبقيت مسندا رأسي وخدي إلى العصا، متجمدا كتمثال صبت عليه «الميدوزا» نظراتها القاسية وحولته حجرا بدلا من الذهب. •••

ماذا فعلت يا كراتيس بنفسك وماذا فعل العالم وكلاب العالم بك؟ هل خذلك كل شيء حتى ابنك الوحيد أم خذلت نفسك وكل شيء؟ ولماذا لم تنتبه عندما بدأت الأجراس تدوي في أذنيك كنواح الثكالى: انصراف أتباعك واحدا بعد الآخر وضآلة شأن وعدد المنضمين إلى جماعتك والمستمعين إلى عظاتك المؤثرة هناك تحت الأيكة وسط الخرابة؟ كيف لم تفطن إلى غليان صدر ولدك - كالإبريق الفائر - بالاحتقار لعيشتك وملبسك وحكمتك وحمقك والكوخ الذي قبلت أن تقضي فيه بقية أيامك وماضيك الذي تخليت فيه عن كل شيء وتخلى عنك الحاضر والمستقبل والابن الوحيد؟ ورجعت هيبارخيا كالشبح الخارج من أعماق الظلمات السفلية، لكن كم كان الشبه بعيدا بينها وبين أو يريديسيه، أبعد بكثير جدا من الشبه بيني وبين العازف الرائع على القيثار، هذا الذي اجتذب الوحوش فركعت أمامه وراحت تنصت لسحر أغانيه، بينما ينفض البشر والكلاب من حولك ولا يبقى معك حتى بازيكليس؟

Shafi da ba'a sani ba