60

Hawayen Bilyatsho

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

Nau'ikan

انصرف الشاب مسرعا وهو يهز حقيبة كتبه في يده ويخوض بصعوبة في الحفر وأكوام التراب والرمل والزلط ويتجنب أسياخ الحديد التي يوشك أن يتعثر فيها، وبقى حامد يتطلع إلى الأفق وإلى كل ما حوله. كان فيما يبدو قد ابتعد عن البيت دون أن يشعر، وكان الهدوء يسود كل شيء، إلا من نباح كلب عنيد توجس منه خوفا على ساقيه ولم يلمحه أبدا! وضوء القمر يتوهج فوق رأسه كعين شريرة وشديدة الاحمرار ومع ذلك تنشر حولها البساط السحري فوق جنة فقدت خضرتها القديمة، تعجب وهو يحدق في قرص القمر الناعم الناصع، وسأل نفسه هل هو أتون تتلمظ نيرانه غيظا في السماء، أم قارب أسطوري يمخر العباب الصافي وعلى متنه ملائكة ينشرون أجنحتهم الذهبية في بحر الزرقة غير مبالين به ولا بأي شيء؟!

آه! كل شيء يتفتت، العالم والبلد والعائلة والحديقة والبيت، كانت الحياة هي الكل الواحد الذي يتألف من وحدات كلية، تتألف بدورها من وحدات أصغر، وكان هناك الفرد المتحد بالأسرة والجماعة، والقرية المتحدة بالمدينة والوطن، والأوطان بالأرض والطبيعة والعالم، كلها وحدات في علاقة مع وحدات أكبر، وهذه مع الوحدة الكونية الكبرى، لم يكن هناك كل بغير أجزاء، ولا أي جزء بغير الكل، لكن الجزء يتصرف اليوم كأنه الكون بأسره، والأنا تتضخم وتتورم وتكتسح كل شيء كأن الآخر البشري والطبيعي والمطلق لا وجود له ولم يوجد أبدا، أصبح سرطانا يخرب في الظلام الجسم الحي الذي يغذيه ويئويه، والأنا تتلذذ بالنظر في مرآتها، لا تدري أنها تنظر في شظية مكسورة من مرآة أكبر، نسيت أنها لن تعرف نفسها ولن ترى ملامح وجهها الحقيقي إلا في مرايا الآخرين، أفرادا كانوا أو مجتمعات وشعوبا وحضارات، والجزء نفسه تفتت أيضا ولم يكتف بقطع الخيوط التي تصله بالكل، وإذا تذكره فلكي يستغله لصالحه أو ينبهه أو يسخره أو يقهره أو يقعى ذليلا عند قدميه حتى يلقي له لقمة أو عظمة فيختطفها ويفر بجلده إلى سجنه، ليعاود الخروج منه كلما حانت فرصة أو تشمم رائحة صيد جديد! انفصم كل جزء بعد أن انفصل الكل عن الكل، واغترب كل فرد عن كل فرد، وكل جماعة عن كل جماعة، بينما تساقطت القيم أشلاء وسط الأنقاض وانكفأت على وجوهها في الوحل والرغام والدماء والآثام، وها أنت أيها المؤرخ القديم تقف ضائعا بين أنقاض عالم مجدب ومهدد بالانقراض رغم ضجيج آلات البناء وصيحات التغيير ووعود التجديد ودعوات التحديث ودعاوى التنوير، تقف وحيدا تشاهد البيت يتصدع باسم الفندق ذي الثلاثة أو الخمسة نجوم ، وحديقة الطفولة والذكريات والأحلام والمشروعات التي كانت تحوم في رأسك كالفراشات التي تنتظر النور لترفرف فوق الزهور والوجوه المنسية، الحديقة التي تحدق بها عين البلدوزر الأعمى وهي تكحت وتجرف لتمد فوق جثتها موائد الكافيتريا للسياح والسادة الجدد، وتسعى وراء شمس الحلم والشمس في ظهرك، وتحاول أن تلم الشمل في الجلسة العائلية، بينما السماسرة يذهبون ويجيئون، والحفارات والبلدوزرات تتمطى وتتثاءب قبل أن تنقض وتنهش وتصنع الجنات الملعونة، وأنت تحت ضوء القمر، أمام البيت العجوز المحني الظهر، عار في مهب الرياح، مرتعش الجسد والروح أمام قضاة العصر ونجومه وجلاديه، خائف من أصوات الاتهام والإدانة بالرجعية والرومانسية، أأنت صوت الكل الغائب وضمير التاريخ المثقل بالذنب؟ وكيف يحق لك أن تقرع ناقوسا وسط العرس الصاخب وقدماك على شفا الحفرة الأخيرة، آه أيها البيت العجوز! يا بيت قصائدي التي كتبتها قديما وامحت، وقصائدي التي اشتاقت أن تولد وأجهضت، يا بيت الأحلام والضحكات والأعراس والمآتم والآلام والمآسي، ويا حديقة الذكريات الحلوة والمرة، والمشروعات الموءودة قبل أن تولد. أنت التي تمنيت أن يخرج جسدي منك إلى المقبرة القريبة، مشبعا برائحة الطين والعشب وشذا الأشجار والورود، أنت التي صمدت في غيابي تسقطين أمام عيني في غيابي الجديد، حتى حلم الخروج منك على النعش أصبح أبعد من القمر والنجوم التي تضحك علي الآن من عليائها. ما أوسع الفجوة بين الكلمة والفعل، ما أشد اتساعها يوما بعد يوم!

رجع منهك الخطى كأنه عنكبوت عجوز تتشبث بخيوط الضوء المنسكب وتتلفت حولها لتلقي آخر نظراتها على الانسجام الفضي الرائع حوله، ووضع يده على باب الحديقة الصغير ففاجأه صوت يخرج من الظلام كمواء قط يخمش عدوا بينما تقدح عيناه اللتان برزتا بغتة بالشرر المتطاير: بخ! وأدرك أن القط المهاجم ليس إلا نورة التي أرادت أن تحيي عبثها القديم، سألها في لهفة وهو يحتضنها: ما هذا؟ نسيت أن حرارتك عالية؟

قالت وهي تقبله: عرفت بنفسك أنها راحت؟

وضع يده على رأسها وكتفيها وهما يتجهان نحو الأريكة القش في أقصى الحديقة: هذا اسمه تهور يا ابنتي، تعلمين أننا سنسافر غدا وأنت في أشد الحاجة للنوم. قالت ضاحكة وهي تضغط على يديه: أولا أنا فتحت عيني ووجدت ماما نائمة ولم أجدك في أي مكان.

قال وهو يمر بكفه على كفها: وثانيا؟

قالت: لأن الكابوس رجع، تصور يا بابا، نفس الكابوس. قال وهو يتحسس رأسها: وهذا يؤكد أن الحرارة كانت مرتفعة، ألم يكشف عم صادق على اللوز؟ هتفت محتجة: اللوز بريئة من ذنب الكابوس، لقد جاءت وذهبت، أما الكابوس فيتردد علي لثالث مرة.

تجهم وجه محمود وقلب بصره في أرجاء الحديقة: سيختفي يا حبيبتي تماما عندما نرجع لمصر.

قالت مصححة: بل عندما يدوس البلدوزر على هذا البيت الذي وقع على رأسي وأنقذتني من تحت أنقاضه.

قال وقد ازداد شروده: أنا؟ من قال لك هذا؟

Shafi da ba'a sani ba