53

Hawayen Bilyatsho

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

Nau'ikan

وكسر محمود حاجز الصمت الذي ارتفع بينهما بعد أن لاحظ القلق على وجه شقيقه الذي بدأ يتململ في جلسته فقال بصوت هادئ كأنه يستأنف حديثا طويلا في أمور عملية لا تخصه وحده: كما قلت لك يا أخي، لقد صممت على الرجوع للأصل، لن أكتفي بالجلوس تحت شجرة كما قلت، سأحاول أن أجدد الحديقة لتتسع لجلستنا العائلية، لا لا ، لن أكتفي بهذا أيضا، أريد أن تتسع لأهل بلدي أيضا، ثم ضاحكا ومعتذرا في آن واحد: سأجعلها حديقة أبيقور أخرى، منارة يشع منها الفن والمعرفة والدين أيضا، إنني أعتمد عليك في هذا، أليس كذلك؟ ربما تكون نواة لحدائق أخرى تنفي البلد من التلوث الفظيع، لمشروعات أخرى ستكون الخضرة ... قاطعه شقيقه وهو ينهض واقفا ويمد إليه يده: سيكون المشروع عندك اليوم، تأكد أنني لن أتأخر عن مد يدي إليك فيما يرضي الله ويحقق مصالح الأمة، وسأدعوه سبحانه في صلاة العصر أن يكلل جهودكم بالنجاح.

رفع الشيخ حامد يديه بالدعاء واستقبل القبلة، وسرعان ما أغمض عينيه واستغرق في الصلاة - ووقف محمود حائرا وعلى شفتيه أكثر من سؤال، كان يريد أن يعرف منه شيئا عن طبيعة المشروع، بل كان يريد أن يصول ويجول معبرا عن غضبه من إثارة الموضوع وحتى التفكير فيه قبل أخذ رأيه - ولو أمهله الشيخ قليلا لنفس عن ثورته التي أخذت سحبها المجنونة تتلبد في صدره، ولم يدر هل يصب غضبه على شقيقه الذي راح يؤدي صلاته في خشوع صامت وإن كان ينطق بعدم الاكتراث، أم يدخرها لسمير وجيله الذي تصرف في شيء لا يملكه وأعلن نفسه وصيا عليه؟ واستدار إلى باب المسجد وهو ينذر في سره ويتوعد: مشروع؟ أي مشروع هذا؟ هل مت حتى يرثوني؟ ألا ينتظرون حتى أكتب وصيتي؟

انحنى ليلتقط حذاءه، وأخذ يضرب الفردتين بقوة كأنه يلطم خدوده: أنا الذي رجعت لأجمع شمل العائلة الصغيرة والكبيرة في الحديقة؟ أين هي العائلة حتى تتجمع؟

ترك ساقيه تجرانه إلى الطرق المجاورة، وراح يتجول على غير هدى دون أن يستوقفه شيء، لا المدرسة الابتدائية التي تهدم سورها في أكثر من موضع وتحولت باحتها الواسعة، التي كان يلعب فيها ويصطف مع أترابه في طابور الصباح، إلى مقبرة دميمة لبراميل الزيت الفارغة وأشلاء السيارات ومقالب القمامة، ولا الترعة التي كان يمر على جسرها الحجري الصغير ويقذف الحصى في مائها الصافي فأصبحت تتمطى كجلد حوت متعفن نمت فوقه الطحالب والأعشاب الداكنة، ولا الأكواخ التي استبدلت بضلوعها الهشة من القش والمسك والجريد جدرانا

الأطفال بوجوه ضامرة مصفرة من سوء التغذية والأمراض المتوطنة، ولا الملل الأزلي الذي يرين على كل شيء ويلفه بأربطة التحنيط المشدودة إلى الأبد، ووقع بصره على صيدلية كانت أبوابها لا تزال مفتوحة فدخلها وطلب الدواء الذي وصفه صهره، وفجأة ارتسم المفتاح الأسود الكبير أمام عينيه فقال لنفسه وهو يتفجر غيظا: كيف أمكنني أن أنسى مفتاح المدفن ولا أسأل حامد عنه؟ كيف نسيت الأصل الذي رجعت من أجله؟

انتبه فجأة إلى أن الشمس قد غربت وبدأت ظلال المغيب زحفها على البلدة.

واتجه إلى البيت كالسائر في النوم يكلم نفسه، ولا يدري ماذا سيكون مصيره ولا من سيكون في انتظاره.

7

خطر له وهو يتقدم نحو البيت تحت ظلال الغروب الممتدة وقبل حلول الظلام أن يدور حول السور ويتفقد أحوال المنطقة ومعالمها، لكن زجاجة الدواء التي يحملها في يده جعلته يعدل عن نيته، ودفع الباب الحديدي الصغير الذي انبعث منه صرير باهت وصدئ مثله فاستقبلته بعض الأصوات الضاحكة والأشباح المختلطة التي تراءت لعينيه الكليلتين في الطرف الأقصى من الحديقة، هللت أنيسة وهي تعلن حضوره بصوتها المرح الرنان، فاستبشر خيرا: وصل المؤرخ القديم! ولم يجد صعوبة في التعرف على ابن شقيقه سمير الذي وقف لتحيته وعلى وجهه العريض ابتسامة أعرض منه، ومد ذراعه بالدواء إلى أنيسة التي غمرتها سعادة غير عادية قبل أن يغيب سمير في أحضانه، ثم يمد يده إلى شخص طويل صامت سلم عليه وهو يحني رأسه بأدب شديد ويتفرس فيه كأنه يشاهد معجزة، وانطلقت أنيسة بالدواء وجسدها الممتلئ قليلا يترجرج ويتوثب نحو مدخل البيت كنافورة جياشة بالقوة والحيوية: سأطمئن على البنت وأحضر الشاي في الحال.

تابعها الجميع وهم يغمغمون بالدعوات بالشفاء العاجل، فقال محمود مبتسما وهو يجلس إلى جوار ضيفيه على أحد الكراسي القش التي أنزلتها زوجته مع الطاولة بهمة تحسد عليها: والله زمان، جلسة عائلية في الحديقة ؟!

Shafi da ba'a sani ba