45

Hawayen Bilyatsho

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

Nau'ikan

يا أميرة الزمن المفقود. •••

في مأساة تراجيدية، يرحل السندباد في طقس عاصف.

أمواج كالجبال المتلاطمة، ظلام دامس لا ينيره إلا البرق.

وصمت لا تسمع فيه إلا عويل الرعد. «تلك هي أسطورة العشق بين الفارس والرومانسية، وتبقى الأسطورة لكل العصور لأنها حلم البشرية الأبدي برومانسية الحب وأخلاق الفرسان التي تحمل سيف العدل.»

جلسة عائلية في الحديقة

1

جلس الدكتور محمود بسيوني على الأريكة الحديدية الصدئة في الحديقة المهجورة منذ سنين، كان يحس بإعياء شديد يتصاعد كألسنة البخار الكثيف من كل أعضائه ومفاصله، كما يتسرب من دماغه المضطرب بالهموم والأحزان والذكريات التي تتصادم كالخفافيش مع الأشعة الشحيحة التي بدأت تنسكب حوله من سماء فجرية ملتفة في عباءة الضباب الرمادية، ومن بقايا آماله وأشواقه ومشروعاته الطموحة التي لم يستطع معول الزمن أن يهيل عليها التراب.

قضى اليوم السابق بطوله في تنفيض البيت القديم من التراب الذي أثارت زوابعه المقشات والمكانس والخرق البالية والمنافض التي لم تدخر زوجته أنيسة وابنته الصغيرة نورة أي جهد في رزعها والخبط بها في كل مكان، وكان قد استدعى أم عبده، ابنة خادمتهم العتيدة التي كانت أمه تعاملها مثل أولادها سواء بسواء، ساعدهم بكل ما في وسعه في تنظيف قطع الأثاث وزجاج النوافذ بالفوط المبللة بالماء، وإزالة العناكب التي تمكنت في فترة غيابهم من احتلال السقوف والحيطان ومد شباك نسيجها الكابي المقزز حتى على الكتب والرفوف المزدانة بصفوف الأكواب والكئوس الفضية والتحف والتماثيل الصغيرة من كل الأشكال والأحجام والعصور والحضارات، وأدرك أن بعد أن أغفت زوجته وابنته وتصاعدت أنفاسهما كزفرات ماكينة الطحين القديمة في الطرف الأقصى من البلد، أدرك أن الإرهاق يولد الإرهاق، فلم يجد وسيلة أمامه إلا أن يهبط السلم الخشبي المتداعي وينزل إلى الحديقة لعله يتنفس نسمة رخية صافية.

ها هو ذا أخيرا أخيرا قد خطا أول خطوة على طريق حلمه العتيق الذي لم يذبل في نفسه مثلما ذبلت شجيرات هذه الحديقة وورودها وزهورها التي لم يبق منها حتى الفروع والبراعم التي كانت تزدهر عليها وتنظر إليه في صباه وشبابه أثناء الإجازات كأنها وجوه أطفال بريئة ترحب به وتحييه، لقد سوى حالته بعد ثلاثين سنة أمضاها في التعليم الجامعي والتأليف عن الحضارات القديمة والوسيطة، وانخرط في متاعب التعليم الذي احتوته ظلال همومه ومنغصاته، وإن لم تخل من لحظات بهجة قليلة كانت تمر سريعة كما جاءت، ولحظات سعادة ورضا بأداء الواجب ربما كانت أطول منها عمرا وأعمق جذورا، وها هو ذا يجد نفسه في مواجهة أحلامه الموءودة منذ أن اشتغل بالتدريس وتحمل مسئولياته، تلفت حوله ومد بصره إلى بقايا السور المتآكل وأحواض الزهور الخربة وقال لنفسه: هل سأستطيع أن أحقق شيئا من هذه الأحلام؟ هل سيمكنني أن ألمس طرف ثوبها الذهبي الأخضر الذي طالما تخايل لعيني ولف قلبي بسحر وعوده؟ أيرجع إلي طائر الشعر القديم بعد أن هجرته فهجرني؟ وإذا استحال علي إغراؤه فهل أتمكن من كتابة سيرة حياتي واستخراج الكنوز الراقدة في كهف أيامي وأعمالي؟ وحتى إذا لم أنجح في ذلك، ألا تستحق الأفكار التي خرجت بها من تأملاتي وبحوثي عن مصائر الحضارات وصعودها وسقوطها، أن أعطي لها البقية الباقية من عمري المهدد في كل لحظة؟!

خيل إليه أنه سمع صوت أنين ينفذ من مكان مجهول - رفع رأسه إلى السماء فأبصر غرابا يدور فوق رأسه وقال لنفسه: ربما يكون صوت هذا الغراب الذي أراد أن يحييني أو تعود على الحديقة وفاجأه الآن وجودي - ثم حانت منه التفاتة إلى الباب الخشبي المؤدي إلى السلم وخطر له أنه يمكن أن يكون صوت أنيسة التي تكلم نفسها كثيرا في النوم، خصوصا بعد يوم شديد الإرهاق، أو صوت نورة التي ورثت عنها هذه العادة، وعاد يقلب عينيه في جنبات الحديقة، كأنه يتأمل وجه حبيبة قديمة تنتظره ولا تمل الانتظار، أخذ يعاتبها وقد سرح خاطره إلى اليونان القديمة: إيه يا بنيلوب! هل سقط ثوب الوفاء من يديك الجافتين وأكلته الهوام والعناكب والحشرات؟ ونسيجه المطرز بالأزهار والأوراق الخضراء، كيف استطاعت رياح الزمن أن تأتي عليه ولا تبقي على أثر واحد من آثاره؟ هل قسا قلبك أيتها الحديقة الحبيبة أم حسبت أن راعيك التائه في بحار التاريخ وكهوفه لن يعود؟!

Shafi da ba'a sani ba