Addu'ar Tsuntsaye

Taha Husain d. 1392 AH
42

Addu'ar Tsuntsaye

دعاء الكروان

Nau'ikan

نعم! ولم يكن يأكل بيديه كما يأكل أهل الدار، وإنما كان يصطنع هذه الأدوات التي يصطنعها المترفون. وكان سيد البيت وسيدته يتحدثان بذلك منكرين له بأطراف ألسنتهما معجبين به أشد الإعجاب في قلوبهما، وكان الشبان من أبنائهما يسمعون أحاديثهما هذه ويعرفون سخطهما الظاهر وإعجابهما الخفي، فيبسمون صامتين ما أقام أبوهم، فإذا انصرف لشأنه امتلأت أفواههم بالضحك وانطلقت ألسنتهم بالدعابة، وأمهم تسمع لهم وتنظر إليهم، منكرة عليهم بطرف اللسان معجبة بهم في أعماق القلب، وكنت أنا أسمع الأحاديث كلها فألهو بها وأطيل التفكير فيها، فهل من سبيل إلى أن تتم بين سكينة وبيني مبادلة كهذه التي يراد أن تتم بين ابن هذه الدار المنفي في أقصى الصعيد وهذا الموظف القبطي المنفي في أدنى الأرض؟!

ولكن كيف السبيل إلى تحقيق هذه المبادلة؟ بل كيف السبيل إلى عرضها على سكينة أو التحدث إليها فيها؟ بل كيف السبيل إلى تعليل هذه المبادلة لسكينة؟ وما الذي يزعجها عن منزلها هذا الذي تطمئن إليه وتسود فيه لا تكاد تذعن لأحد ولا تلقى من أحد ما يلقاه الخدم من السادة؟ ما الذي يزعجها عن هذا المنزل ويحملها على أن تنتقل منه إلى هذه الدار التي لا حظ لها من ترف والتي ليس فيها هذا المهندس الشاب؟ وهب سكينة حنت واطمأنت إلى مثل هذا العرض السخيف، فكيف يكون تعليل ذلك لسيدها؟ وكيف يكون تعليل ذلك لسيدتي؟ كلا! هذه أحلام ليس إليها من سبيل، ومهما أجتهد ومهما أحاول فإن الشر لا ينال إلا بالشر، والإثم لا يدرك إلا بالإثم، ولن أبلغ هذه الغاية التي أسمو إليها حتى أقتحم في سبيلها غمرات وأقترف في سبيلها آثاما.

لا بد إذن من بعض الشر، ولا بد من أن أمكر حتى أقصى عن هذه الدار، ومن أن أكيد حتى تقصى سكينة عن بيت المهندس الشاب، وما أسهل المكر حين تتهيأ له النفس! وما أيسر الكيد حين يطمئن إليه الضمير! ومتى عجزت المرأة عن أن تبلغ من المكر والكيد ما تريد؟! لن أجد في تحقيق ما أريد جهدا ولا مشقة إذا رضيت نفسي ما لا بد من أن ترضاه من الشر، واستباحت ما لم تكن تستبيحه من الإساءة والإيذاء.

فأما سكينة فأمرها ميسور. وإنما هي زيارة للبستاني وإغراء له ببعض المال، واتفاق معه على أن يفسد الأمر على هذه الفتاة ما وسعه ذلك، حتى إذا انتهى منه إلى ما أحب وأخرجت سكينة من الدار؛ سعى إلى زنوبة من قبل سيده يلتمس خادما، ويومئذ ...

وأما مخرجي أنا من هذه الدار التي أعمل فيها فليس أيسر منه ولا أهون. لقد دخلت الدار ولم تكن في حاجة إلي، وإنما قبلني أهلها رفقا وعطفا علي وإحسانا إلي ورعاية لعهد أمي، فأنا عندهم ضيف، أستطيع أن أرحل متى شئت، وأستطيع أن أقيم ما أحببت، على أن ظروف الحياة لم تضطرني إلى أن أتكلف الاستئذان في الرحيل والتماس العلل والمعاذير، وإنما قضت بأن أخرج من هذه الدار إخراجا وأنبذ منها نبذا، وإني لأذكر قصة ذلك الآن فأبسم لها ابتساما ملؤه الحنان والحب، وكثيرا ما ذكرت هذه القصة قبل اليوم فامتلأ قلبي حبا لهؤلاء الناس وحنانا إلى هذه السذاجة التي كانوا يعيشون فيها والتي كانت تصور لهم أمورهم كلها في صورة الجد الذي لا يشبهه جد، والتي لا يتحدث بها الناس في هذه الأيام إلا ضحكوا منها ساخرين إن كانوا قساة القلوب، وابتسموا لها عاطفين إن كانوا يقدرون الذكرى ويحبون الحياة التي لا تكلف فيها ولا رياء ...!

كان شباب الدار يعكفون أكثر النهار على كتبهم هذه التي أقبلوا بها من القاهرة، يقرءون فيها قراءة متصلة لا يكاد يصرفهم عنها شيء، وكثيرا ما كانوا يدعون إلى طعامهم فيبطئون، وكثيرا ما كان إبطاؤهم يغيظ أباهم ويملؤه بهم إعجابا ولهم حبا. وكان أهل الدار جميعا - وربها أولهم - مقتنعين أشد الاقتناع بأن هؤلاء الشباب إنما كانوا يعكفون على هذه الكتب حبا للعلم وإيثارا للدرس وجدا في التحصيل، وكانوا يتحدثون فيما بينهم بنشاط هؤلاء الشباب الذين لا يكفيهم العمل طول العام الدراسي في القاهرة، ولكنهم يعملون أثناء الراحة ويحرمون أنفسهم لذة الرياضة والاستمتاع بشيء من النعيم، وإنما هي الكتب إذا أصبحوا، وهي الكتب إذا أمسوا، وهي الكتب إذا آن أن يقيلوا بعد الغداء، ما أشد فتنة العلم لهؤلاء الطلاب الأذكياء الذين يحبونه أشد الحب ويأخذون منه بأعظم الحظ، ويريدون أن ينبغوا فيه وأن يظفروا بالشهادات في غير إبطاء، وأن يكونوا موظفين بعد ذلك يتقاضون المرتبات في آخر الشهر ويؤدونها كلها أو بعضها إلى أهلهم!

وكان أهل الدار يجدون في هذه الأحاديث لذة، ويطلقون خيالهم فيها إطلاقا، وكانت سيدة الدار تتمثل هذا كله وتتوسل في تحقيقه وتعجيله إلى الله بهذا الدعاء الساذج اليسير الذي تجري به ألسنة أمثالها من أهل المدن والقرى، وتكثر في الوعد بالنذور المختلفة لهذا الشيخ وذلك الولي.

وكان رب الدار لا يكف عن التحدث بنشاط أبنائه وعكوفهم على الكتب أكثر النهار وشطرا من الليل، حتى لقد كان يغيظ أصحابه ويملأ قلوبهم حسدا، ثم يتحدث بذلك إلى زوجه فيملأ قلبها خوفا من الحسد والحاسدين، وكان هذا الرجل الطيب الكريم يجد لذة في أن يختلس الوقت من حين إلى حين وينتهز الفرصة التي يغيب فيها أبناؤه عن هذه الغرفة التي رصت فيها الكتب رصا فينسل إلى الغرفة انسلالا كأنه اللص، ويقف أمام هذه المائدة أو هذه الموائد التي نظمت عليها الكتب تنظيما، ويلقي على هذه الأسفار نظرات ملؤها الإكبار والإجلال، وقد يمد يده في تحفظ واحتياط إلى هذه الكتب فيمسها مسا ويمسحها مسحا يسيرا، كأنه يتبرك بها ويلتمس عندها ما يلتمسه عند الأولياء والقديسين إذا لقيهم أحياء أو زار قبورهم أمواتا.

وقد يدفعه حب هذه الكتب وكلفه بها وحاجته الشديدة إلى الاستطلاع إلى شيء من الجراءة، فيأخذ كتابا منها وينظر فيه ليحفظ عنوانه وليتحدث به إلى أصحابه إن خرج إليهم، أو ليقرأ فيه سطرا أو أسطرا يفهمها أو لا يفهمها، وهو يؤثر فيما بينه وبين نفسه ألا يفهمها، فذلك أدنى إلى الإعجاب وأشد إمعانا فيما ينبغي للعلم من الغرابة والارتفاع عن عقول العامة والجهلاء، وهو أدنى إلى ما ينبغي من الإعجاب بهؤلاء الشبان الناشئين الذين يعرفون ويفهمون ويسيغون ما لا يعرف آباؤهم ولا يفهمون ولا يسيغون. وكثيرا ما كان يظهر هذا الرجل ميلا فيه كثير من الحياء والتردد إلى أن يحدثه أبناؤه ببعض ما يقرءون ويعطوه شيئا من هذه الكنوز التي يملئون بها قلوبهم وعقولهم إذا أصبحوا وإذا أمسوا، ولكنه كان شقيا دائما لا يكاد يلمح لأبنائه ببعض ذلك حتى يجد منهم نفورا وازورارا، فيضطر إلى الصمت والرضا بما هو فيه من جهل وحرمان. وكثيرا ما كان يتحدث إلى زوجه ببخل العلماء وضنهم بالعلم وإيثارهم أنفسهم بلذاته وثمراته، يتحدث بذلك متألما محزونا أو ثائرا مغضبا، فتعزيه زوجه وتهدئه وتزعم له صادقة أو متكلفة أن العلماء إنما يبخلون بالعلم على غير أهله إكراما للعلم وإشفاقا على الجهلاء من أن يشق عليهم ما يسمعون، فيقبل منها أو يجادلها فيه.

وكذلك كان هؤلاء الشبان وكتبهم بمكان الإعجاب والتقديس من هذه الأسرة الساذجة، ولكن الدار اضطربت ذات يوم أشد الاضطراب، وفسد فيها أو كاد يفسد كل شيء، وقضى أهلها يوما منغصا كله شر ويأس، وأمل خائب وظن كاذب، وكنت أنا مصدر هذا البلاء، فكفرت بخروجي من الدار عما جنيت من سيئة، وما كان أسعدني بهذا الخروج!

Shafi da ba'a sani ba